إن كان هناك شيء ميز الثورة السورية فهو أن لها منطقها الخاص وزمنها الخاص كذلك، فها قد مر عقد على انطلاقتها وما زالت تحتفظ لنفسها بزخم وعنفوان البداية. بمنطق الحروب المعاصرة 10 سنوات من المعارك المتواصلة كفيلة بإدخال أمة من الأمم طور الفناء وتصيب ناسها بالإرهاق وفقدان المعنى، واستشراء الأمراض والأزمات الوجودية التي تفتك بروح الإنسان وتخرب وجدانه تمامًا كما يفتك البارود بالحواضر والعمران. فلطالما كانت المعارك في التاريخ حدًا فاصلًا بن ضمور حضارة وانبعاث أخرى.
عشر سنوات من المعارك المتواصلة، ولم تزل الإنسان السوري متمسكًا بالحياة والأمل. الغريب أكثر أن تلك الرقعة المحدودة التي حصنتها الثورة في الشمال يعيش ناسها صباحاتهم كأن حربًا لم تكن، يرتادون الأسواق، والمدارس، والجامعات، ويلعب أطفالهم في الحدائق والمنتزهات. في الشمال تجلت قدرة الإنسان السوري على ترويض الحرب والموت، لم تعد الحرب ذلك الكابوس المرعب الذي ينذر بالدمار ويعد بالفناء، وإنما هي في أسوأ أحوالها تفصيلة من تفاصيل الحياة اليومية يعيشها الإنسان هناك كما يعيش تفاصيل يومه الأخرى، أليس راكب الدراجة في أي مكان بالعالم معرض لحادث سير في كل ثانية، يتهشم خلالها رأسه على قارعة الطريق، مع ذلك يمضي في مشواره مستمتعًا دون أن تخطر على باله خاطرة الموت. هكذا هو الإنسان السوري، يعيش يومه وفي كل ثانية يمكن أن تنزل على رأسه قذيفة ترديه ولا يبالي. إنها مصالحة متقدمة مع القدر، واتفاق ضمني مع الموت، فلتأت في الوقت الذي تريد، لكن لن تحرمني من لحظة حياة يمكنني عيشها.
في سوريا تسقط قذيفة في فناء أحدهم فيتخذ من بقاياها مزهرية، تزين شرفته أو غرفة نومه، تدوير احترافي للموت، وتوليد للجمال من أفتك أدوات الحرب. يداعب أحدهم طفلته على إيقاع صوت القنابل التي تسقط غير بعيد عنهم فتطلق ضحكاتها غير عابئة، الدوي الذي يصم الآذان مؤذنًا بدنو الموت، والخراب يتحول هنا إلى «مؤثر صوتي» لخلق الفرجة وبث السرور. هذا ليس وصفًا مبالغًا فيه للوحات سريالية، بل مشاهد سورية وثقتها الكاميرات وشاهدها الملايين حول العالم. تدجين الحرب وترويض الموت، هذا ما صنعه الشاميون عندما حلت الثورة بدارهم.
الخاسر الأكبر في الثورة السورية هم متعهدو الأيديولوجيات، شخصيات وجماعات كثيرة وجدت نفسها معنية بالثورة، سواء مؤيدة لها، أو مناهضة لها باعتبارها مؤامرة تستهدف سوريا «الممانعة». الآن في مستهل العقد الثاني من حراك الشاميين، ستلتفت إلى الخلف، وسترى أنقاضًا من الأيديولوجيات، وركامًا من الخطابات، بار سوقها وكسدت تجارتها، ولم يعد أحد يحفل بها. داست عليها الثورة، ووضعتها في ذمة التاريخ.
مات حزب الله رمزيًا في حارات القصير، وانتحرت السلفية (جهادية وجامية) في شوارع الغوطة والرقة، وانهارت فلول المنظمات الثورية الفلسطينية على أسوار اليرموك، وسقطت الماركسية المحاطة بعناية الرأسمالية في عين العرب وأرياف حلب، ولفظت العروبية أنفاسها الأخيرة في أحضان الشعوبية.. وعلى امتداد مسافة العقد التي قطعتها الثورة خابت شعارات وفقدت أخرى مصداقيتها، فمن سيصدق بعد الآن حكاية الغرب عن الديمقراطية وحقوق الانسان، وقد ترك وحشًا سائبًا يفتك بالحياة 10 سنوات ولم يزل.
في الحقيقة لقد أحدثت الثورة السورية تحولات عميقة على صعيد الأفكار والأيديولوجيات الرائجة في العالم العربي. وعلى أنقاض ما تداعى منها انبعث فكر حركي جديد، أطروحة مركبة من أطروحات متناقضة. فلنأخذ مثالًا على ذلك، هيئة تحرير الشام وهي أكبر جماعات الثورة وأكثرها نفوذًا، كانت في بدايتها تجمعًا عسكريًا يقوده مقاتلون رجعوا لتوهم من مناطق «داعش» (تنظيم دولة العراق الإسلامية آنذاك)، ما لبث هذا التجمع أن تحول إلى تنظيم القاعدة، ثم تخلى عن القاعدة وسعى إلى صياغة سرديته الخاصة انطلاقًا من خصوصية البيئة المحلية، وتبنى مقاربة تدبيرية تستدخل بعض منتجات الدولة الحديثة (حكومة مدنية، انتخابات محلية…) فاللحظة السورية فرضت على كل الأيديولوجيات التماهي مع منطق الثورة وديناميتها، أو سيكون مصيرها التفكك والاندثار.
خلال العقد الماضي تحولت الخريطة السورية إلى مضمار اختبار لكثير من الخطابات والأيديولوجيات، وكل أيديولوجية استفردت بقطعة من الخريطة أقامت عليها دولتها ونموذجها في الحكم. في الجنوب دولة تسيدها الجيش الحر، وفي الغوطة الشرقية أخرى حكمتها السلفية المدخلية، وفي الشرق إمارة ممتدة لداعش (السلفية الجهادية)، وفي الشمال مناطق نفوذ القاعدة ممثلة في جبهة النصرة. ما لبثت أن سقطت هذه الدويلات الواحدة بعد الأخرى، وكانت في مجملها لا تختلف عن مناطق سيطرة النظام من حيث كبت الحريات والنزعة الدكتاتورية التي طبعت أمراء حربها. الاستثناء الوحيد الذي يجب أن يسجل هنا هو ما حصل في الشمال حيث قطعت القوى المسيطرة هناك طوعًا علاقتها بالقاعدة، وانخرطت في مسار بديل، فوضت من خلاله جزء من السلطة إلى القوى المدنية والمحلية.
إذًا لقد دخلت الأيديولوجيات المختلفة خلال عقد الثورة السورية ما يمكن أن نسميه «انتقاءً ثوريًا» على منوال «الانتقاء الطبيعي» للكائنات الحية. والأيديولوجيات التي لم تحمل ما يكفي من مقومات البقاء، والقدرة على التكيف مع ظروف الثورة القاسية دبلت وماتت، وتحولت إلى عظام ومستحاثات في التربة السورية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست