في حرب العبور 1973 كانت «خطة بدر» هي العملية العسكرية التي عبر بها الجيش المصري قناة السويس، والتي تم بفضلها تدمير خط بارليف، أحد أعتى الخطوط الدفاعية العسكرية المحصنة وأقواها عبر التاريخ، خطة بدر لم تكن الغاية منها تحرير سيناء في الضربة الأولى، بل كانت تقتضي تحرير الضفة الشرقية للقناة والتموقع في عمق حوالي 15 كم، تحت المظلة الصاروخية للقوات المصرية المرابطة غرب القناة، لم يكن هدف مهندس نصر أكتوبر اللواء «سعد الدين الشاذلي» إلحاق أكبر قدر من الخسائر بصفوف العدو، بل كان هدفه إستراتيجيًا أبعد من ذلك كثير، فاللواء كان خبيرًا بالحروب العربية الإسرائيلية، ودارس جيد وعالم بخبايا وتفاصيل نظرية أمن إسرائيل، والمتتبع لهذه النظرية سيكتشف لأول وهلة وبشكل سطحي أن الأمن الإسرائيلي يعتمد على نقاط قوة ويتفادى نقاط ضعف، فنقاط القوة تتمثل في الردع والضربة الخاطفة والحرب القصيرة، أما نقاط الضعف فهي المواجهات المباشرة والحروب طويلة الأمد التي تستنزف الخزينة والرصيد اللوجيستي الإستراتيجي لإسرائيل بسرعة، هذه العوامل كانت مدروسة بعناية في خطة بدر إن لم نقل إنها كانت قائمة عليها أصلًا.

ما أشبه اليوم بالبارحة، فمنذ 28 من رمضان 2021 – نفس المناسبة الدينية التي حدث فيها العبور – بدأ التصعيد في القدس يأخذ منحى تصاعدي خطير وعنيف، وذلك بعد أن تطورت المواجهات في حي الشيخ جراح وباحات المسجد الأقصى، دخلت إثرها فصائل المقاومة على الخط ووجهت تهديدات صريحة بأنها سترد في حال لم ينته المستوطنون وقوات الاحتلال عن التجاوزات الخطيرة في حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى، من الصراحة أن نقر بأن الكثير اعتقد أن هذه التهديدات إعلامية وفقط مثل السابق، لكن حدث العكس تماما هذه المرة، فصائل المقاومة ردت بضربات نوعية تأكيدًا على جدية التصريحات، ومرة أخرى يعتقد الجميع بأن ذلك أيضًا لا يعدو كونه احتقانًا مؤقتًا وسيزول سريعًا، وأن الصواريخ كعادتها ستكون ذات تأثير هامشي، حيث تشابهت هذه الانطباعات مع  التي كانت يوم العبور، فما الذي حدث؟

هذه المرة كانت الأمور مختلفة بشكل كبير، حتى أنه يمكن لجاهل بالشأن الفلسطيني أن يتحسس التغيير، لذلك فإننا نرصد مجموعة من النقاط التي سنحاول إعطاء قراءة مبدئية فيها.

أداء الطرفين

كانت إستراتيجية الفصائل هذه المرة مغايرة تمامًا لما سبق من حروب وعمليات عسكرية، فقد لمسنا لأول مرة القراءة السليمة، والانتقاء المضبوط لأهداف القصف، حيث شمل القصف مطارات ومنصات طاقوية حيوية وكذلك المدن الرئيسة، وما لذلك من أثر في تعطيل الحياة داخل إسرائيل بمختلف ميادينها، هذا الأداء الذي قدمته الفصائل يؤكد بأن هناك طفرة ونقلة نوعية من ناحية الأساليب والإمكانيات، وكذا الإستراتيجيات الحربية وتكتيكاتها، في حين يقابل ذلك؛ أداء إسرائيلي تقليدي، والذي رد بطرق مبتذلة، حيث شن عملية عسكرية «حارس الأسوار» بنفس الطرق السابقة، مثل عملية الرصاص المصبوب والشتاء الساخن والجرف الصامد وعمود السحاب.

التغير في مفهوم الخسائر في الفكر الحربي للفصائل

ما يمكن ملاحظته الآن هي أن الفصائل الفلسطينية، قد أدخلت تحديثات وتحسينات على إستراتيجياتها الحربية، فلم تعد تلك المقاومة التي ترشق الكيان بطرق عشوائية؛ الغاية منها كسب التأييد والنصر الإعلامي فقط، ولم تعد توجه ضرباتها بغية تحقيق نتائج محدودة، لقد تغير مفهوم الخسائر في الفكر الإستراتيجي لدى الفصائل، فهذه المرة تم ضرب المنشآت الحيوية لإسرائيل، والسعي إلى استدراجها للحرب الشاملة، وتطبيق فخ حرب الاستنزاف، لذلك نجد الفصائل لا تركز على إسقاط ضحايا، فهو أمر غير مطلوب ولا مهم، وحتى لو انتهت الحرب بدون أي ضحايا في صفوف الكيان فإن ذلك لا يهم إطلاقًا، وإنما التركيز هذه المرة كان على الخسائر الحيوية والتي يمكن أن نوجز أهم مؤشراتها في الأيام الخمس الماضية فقط:

تهاوي قيمة الشيكل الإسرائيلي مقابل الدولار بنسبة 1.4% ونزوله عند مستويات دنيا غير مسبوقة.

– أضرار الاقتصاد الإسرائيلي بلغت 150 مليون دولار في ثلاثة أيام الاولى من بداية التصعيد فقط، ولم تزل مستمرة لحد الآن.

تعطل المطارات.

تعليق الرحلات الجوية الأمريكية والفرنسية وغيرها من شركات الطيران من والى إسرائيل.

تراجع حجم المشتريات اليومي البالغ يوميًا 300 مليون دولار بنسبة 14%، أي قيمة خسائر تقدر بحوالي 32 مليون دولار يوميًا، بمعنى 96 مليون دولار في ثلاثة أيام فقط.

– إعلان شركة شيفرون (Chevron) الأميركية إنها أغلقت منصة تمار الإسرائيلية للغاز الطبيعي، والواقعة في شرق البحر المتوسط مع احتدام موجة من الاضطرابات في المنطقة، وهو حقل غاز طبيعي يضخ حوالي 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا.

تعطيل المنشأة البترولية (خط أنابيب نقل النفط إيلات – عسقلان) التابع للإمارات وإسرائيل لنقل النفط بقيمة 800 مليون دولار.

هذه الأرقام الضخمة بلغة الاقتصاد، توحي وتؤكد بأن الكيان تكبد خسائر لم يسبق له عبر تاريخه منذ التأسيس أن تكبدها، وبهذا تكون الفصائل قد نفذت ضربات نوعية في نقاط إستراتيجية مهمة جدًا.

الأداء العسكري الإسرائيلي والتكاليف الباهظة

لطالما تغنت القيادات الإسرائيلية بالقبة الحديدية، ولطالما كانت تردع بها كل من يفكر في معاداة الكيان أو التفكير في قصفه، ولكن في واقع الأمر القبة الحديدية قد تلقت إطنابًا ومغالاة في وصفها، وهذا منطقي من باب الحرب الإعلامية والدعاية، لكن يقابل ذلك سلبيات تحملها هذه المنظومة على الكيان، أولها أن هذه المنظومات كلفت الكيان خسائر بحوالي 50 مليون دولار أمريكي في ثلاثة أيام الاولى فقط من التوتر، فالصواريخ التي تطلقها القبة الحديدة لاعتراض الصواريخ الفلسطينية تبلغ قيمة الصاروخ الواحد منها ما بين 50 ألف دولار أمريكي حتى 150 ألف دولار أمريكي، وإذا ما أخذنا الحسابات بأن هناك المئات من صواريخ الفصائل قد أطلقت، فإنه بالضرورة تكون قد أطلقت عليها المئات من صواريخ المنظومة، بمعنى أن المنظومة قد يمكن أن تتفادى خسار بشرية ومادية، لكنها تكبد الكيان في ذات الوقت من جهة أخرى نزيفًا للموارد مالية، كما أن الخسائر التي من الممكن أن يخلفها الصاروخ الفلسطيني لو سقط قد تكون أقل بكثير من تكلفة الصاروخ الذي اعترضته، هذا دون تناسي التكاليف الباهضة للطلعات الجوية التي تقصف قطاع غزة، والتي تقدر بعشرات الآلاف من الدولارات، وهو الأمر الذي يهدد وضعية الكيان الاقتصادية والأمنية، حيث إن الحرب ستتطلب ضخ المزيد من الأموال في ميزانيات الطوارئ إلى وزارة الدفاع وذلك على حساب أموال وميزانيات الاحتياجات المدنية والاجتماعية، وهو الأمر الذي حدا بالجهات المختصة على مستوى وزارة المالية الإسرائيلية لعقد اجتماعات نقاشية حول تكاليف عملية «حارس الأسوار» العسكرية على قطاع غزة، وتأثيرها على ميزانية الدولة والاقتصاد وعلى سوق العمل ورجال الاعمال والتجار، هذا دون نسيان الصواريخ الفلسطينية التي ستأثر بالطريقة الأخرى من ناحية التدمير للمتلكات والمنشأت الحيوية، وفي ذات السياق صرحت المحاسبة العامة لوزارة المالية «شيرا غرينبرغ» أنه اذا كانت العملية العسكرية سريعة وخاطفة، فإنه لا يمكن الإحساس بالاضرار على بالاقتصاد الإسرائيلي، لكن التوجس القائم هو إذا حدث المحظور ودخلت إسرائيل في حملة عسكرية ومواجهة شاملة طويلة الأمد قد تصل إلى شهر، فإن وقتها يمكننا الحديث عن خسائر فادحة ستكون مضاعفة في كافة المجالات، ومن الممكن أن تصل المبالغ إلى عدة مليارات من الدولارات.

الفصائل الفلسطينية تناور بالبيئة الداخلية الإقليمية

التصعيد الحالي وغير المعروف النتائج لحد الآن، لا يمكن فصله عن بيئته الداخلية، سواءً الإسرائيلية أو الفلسطينية، وكذلك النسق الإقليمي والدولي، حيث إن الأحداث أخذت منحى تصاعدي بشكل سريع وعنيف، وما لذلك من تداعيات مفصلية على القضية وعلى المنطقة ككل، ويمكننا أن نفصل ونقسم هذا المشهد إلى مجموعة من المستويات:

1- على المستوى الداخلي الفلسطيني

أ- في إسرائيل

شهدت إسرائيل في الآونة اضطرابات سياسية واجتماعية على الجبهة الداخلية، كان أبرزها قضايا الفساد التي تطال نتنياهو (قضية ألفين، وقضية 3 آلاف، وقضية ألف) وكلها متعلقة بالرشوة والخيانة والاحتيال، هذه القضايا التي تأجلت أكثر من مرة بسبب الجائحة وبسبب الانتخابات، لا تزال تهدد نتنياهو وأنصاره سياسيًا خاصة الكتلة اليمينية التي ضعفت هذه المرة برلمانيا، وفي المقابل تعمل المعارضة على إسقاط نتنياهو قبل أن ينجح في تمرير مشاريع وصلاحيات تمنحه الحصانة والتملص من هذه القضايا.

ويرافق هذا التوتر غليان وتشنج اجتماعي، حيث شهدت إسرائيل مؤخرًا احتجاجات واسعة ضد نتنياهو وحكومته، رفضًا لسياساتها الاقتصادية التي أدخلت الاقتصاد في أزمة، إضافة إلى السياسة الفاشلة للحكومة في مواجهة وباء كورونا، وأهمها أيضًا قضايا الفساد المذكورة سابقًا، حيث طالبت الحركات الممثلة للاحتجاجات، مثل «حراك الرايات السود» و«كرايم مونستر» و«حركة السلام الآن»، بالاستقالة لنتنياهو وتقديمه إلى المحاكمة، وهو الأمر الذي يضع الحكومة الإسرائيلية في الركن محاصرة بداخلها، فضلًا عن مشاكلها المتراكمة خارجيًا ونقصد هنا تحديدًا الشأن الفلسطيني.

ومن جانب آخر هناك قنبلة موقوتة تهدد إسرائيل، وهي أزمة العنصرية أو الأبارتهايد، ومدى حساسية هذه النقطة بالنسبة إسرائيل، فقضية الهوية والانتماء لإسرائيل تعتبر شرطًا أساسيًا، بل ضروريًا، والتقسيم العرقي والديني أمر مرفوض بالنسبة لصناع القرار هناك، لكن مؤخرًا تطورت قضية يهود الفلاشا الإثيوبيين يعد قضية مقتل شاب إسرائيلي من أصول يهودية على يد شرطي إسرائيلي، الأمر الذي ترجم بأنه حملة عنصرية ضد السود، شأنها شأن الحوادث العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية مثل قضية «فلويد»، هذه الأزمة كشفت المفارقات والاختلافات التي تتناساها إسرائيل ولا تملك لها حلول جذرية، خاصة وأن النسيج الاجتماعي لإسرائيل فيه عرقيات أعنف وأخطر من عرقية الفلاشا.

التصعيد

اندلعت الأحداث مع انفجار قضية حي الشيخ جراح والاستفزازات باقتحام المسجد الاقصى، ولأن الأسباب التي جعلت القضية تنفجر غير مبررة ولا منطقية، فان هذا لا تفسير له غير أن نتنياهو وأنصاره، يسعون إلى تحريك الطاولة السياسية داخل إسرائيل بشد الاهتمام والانتباه إلى الخارج، وذلك القصد منه تشتيت الرأي العام الإسرائيلي عن قضايا الفساد والضغط على الحكومة الحالية، وربح المزيد من الوقت، وهذا بعد أن بدأت أزمة الجائحة بالانفراج نسبيًا ورفع قيود الحجر الصحي، ما يعني أن الاحتجاجات ستعود للواجهة والضغط.

هذه التجاوزات كانت تعتقد الحكومة الإسرائيلية بأنها ستكون مبتذلة وتقليدية، وستمر مثل سابقاتها، لكن عنصر التوقيت والمكان كان خاطئا تماما، حيث كان التوقيت في زمن رمزي وهو شهر رمضان، والمكان المسجد الأقصى، وكانت هذه فرصة بالنسبة للفصائل لتوريط الحكومة الإسرائيلية أكثر، فتدخلت الفصائل الفلسطينية وأعلنت بأنها ستضرب في حال لم تتوقف التجاوزات، فمن جانب الإسرائيليين لا يمكنهم الاستجابة لمطالبة من أطراف يصفونها بالارهابية، ومن جهة أخرى فاجأتهم القدرة التدميرية والقدرة على رد الضربات من طرف المقاومة لأول مرة في التاريخ، ولعل هذا كان أحد أهداف الفصائل بجر إسرائيل إلى معركة جديدة، ستنهكها مجددًا.

ب‌- في فلسطين

في الجانب الفلسطيني وباعتبار أن المشهد السياسي منقسم على قسمين، فإن التحليل سيكون تحليلين أو وفق مستويين اثنين، الأول على مستوى السلطة الفلسطينية، وهذه الأخيرة التي كان أداؤها مهادنًا كثيرًا مع إسرائيل، بل وتعدى ذلك ليصل إلى مستوى التنسيق الأمني مع الاحتلال، وبالتالي فإنها خسرت الكثير من رصيدها الشعبي عند الرأي العام الفلسطيني، وهو ربما الأمر الذي حدا بها إلى تأجيل الانتخابات الفلسطينية أيامًا فقط قبيل اندلاع الأحداث، بدعوى أن السلطات الإسرائيلية رفضت إقامة انتخابات داخل القدس، حيث صرحت السلطة بأنه لا انتخابات يستثنى فيها مواطنون فلسطينيون ويحرمون من المشاركة فيها، لكن ربما كانت تبريرًا للتخوف من صعود قوى سياسية جديدة تستطيع خطف الثقل السياسي منها وربما تكون أطراف مدعومة من طرف قوى لا تتفق معها سياسيًا، أما المستوى الثاني فنجد حركة حماس وفصائل المقاومة التي صبت الأحداث في صالحها هذه المرة، حيث إن الشعب الفلسطيني كاملًا وعبر مختلف ربوع الوطن تفاعل وانتفض تأييدا لهجمات الفصائل، ولبى الكثير نداءات الفصائل السياسية بالصمود والخروج إلى الميادين.

هذا الوضع الجديد والاستثنائي، سيطرح سؤالًا جوهريًا ينبغي الإجابة عنه قبل وقف إطلاق النار، من سيمثل الشعب الفلسطيني هذه المرة؟ هل هي السلطة التي لم تحرك ساكنًا في الأحداث الأخيرة وواصلت تنسيقها الأمني معه؟ خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن أغلب الشعب الفلسطيني تفاعل إيجابيًا مع الفصائل ودعمها ببقائه في الشارع، لذلك فمن غير المنطقي أن تبرز قوة سياسية أخرى لتقطف ثمرة هذا التصعيد، ولنفترض وقع وقف إطلاق النار، وبمباركة دولية وإقليمية من أوقف إطلاق النار من الجانب الفلسطيني؟ وبالتالي نحن أمام فرضية هل ستصبح حماس من جديد حركة معترف بها سياسيًا داخليًا وإقليميًا؟ وإن لم تتمكن من ذلك من الذي سيتسود المشهد السياسي الفلسطيني؟ وما هو موقف الشعب الفلسطيني منه.

2- على المستوى الإقليمي

تتداخل مسألة التصعيد الحالي في فلسطين مع تعقيدات الشرق الأوسط، حيث لها تأثيرات إقليمية على عدة مستويات، خاصة وان القضية متعلقة بأعقد إشكال في الشرق الأوسط، وأن أحد أطرافها قوة إقليمية في المنطقة، ضف إلى ذلك اهتمام قمة الهرم الدولي بهذه القضية، ولعله بالتركيز مرة أخرى على أهداف الفصائل والتي نعتبرها حساسة، نجد أنها قد أغلقت احد المنصات المستخرجة للنفط في منطقة شرق المتوسط، وهو حقل تمار أحد أكبر الحقول الغازية في شرق المتوسط، هذه الحقول التي أثارت الكثير من الجدل والتوتر بين عدة قوى إقليمية أهمها تركيا المعارضة بشدة لعدم اقحامها لمنتدى شرق المتوسط واستثناءها منه لأسباب سياسية، أهمها الاتفاق الإماراتي المصري الإسرائيلي على تحجيم دورها الإقليمي المتنامي في الشرق الاوسط، كانت هذه الضربات بالنسبة لتركيا قبلة الحياة والانتعاش الاقليمي، رغم أن الغلق من المؤكد سيكون مؤقت، لكنه أصبح متغيرًا جديدًا في اللعبة الإقليمية، وورقة ضغط جديدة يمكن التلويح بها من طرف الخصوم الإقليميين.

ومن جهة أخرى فإن إيران أيضًا تستثمر في هذا التصعيد، وذلك لتدعيم محورها التحالفي التقليدي في الشرق الأوسط، ولتفعيل نقاط ارتكاز ملاصقة ومتاخمة لإسرائيل خاصة بعد أن تمكنت هذه الأخيرة من التواجد في الإمارات؛ الأمر الذي سيسمح لها بتوجيه ضربات جوية نظرًا لقرب المسافة على عكس الوضع السابق، حيث كانت المسافة الطويل بين إيران وإسرائيل تحول دون توجيه ضربات لها، كما أن الأداء القوي للمقاومة سيرجع الكفة لصالح إيران بالتسبب في المزيد من التوتر، ما سيحسم قرارات بايدن المترددة بشأن المنطقة، وبالتالي سيخضع إلى التهدئة وتسوية المشاكل العالقة ورفع العقوبات الاقتصادية والعودة إلى الاتفاق النووي، وهذا سيحسب لصالح إيران كنجاح إقليمي، كما أن هذه الأحداث فرصة لانعاش أدوار حلفاء إيران حزب الله اللبناني وسوريا.

كما ستؤثر هذه الأحداث إن لم نقل تنسف عملية التطبيع التي تزايدت وتيرتها مؤخرًا بين دول عربية وإسرائيل، حيث سلبت هذه الأحداث المبررات التي ساقتها الدول المطبعة، بأن السلام المنشود هو الغاية من التطبيع لحماية الأقصى والشعب الفلسطيني، لكن سرعان ما أثبتت أحداث الشيخ جراح وانتهاكات حرمة المسجد الأقصى وعمليات التهجير عكس ذلك، وبالتالي ستصبح عملية التطبيع منفصلة فصلًا جامدًا عن السياق العربي أو الشأن الفلسطيني، ولا علاقة لها بالقضية سوى أن هذه العلاقات تمت مع أحد أطراف الصراع وهي إسرائيل.

3- على الصعيد العالمي

كان رد الفعل الأمريكي لحد الآن مقارنة بردوده التاريخية محتشمًا، فلأول مرة يكتفي بنشر البيانات والتصريحات ويدعو إلى ضبط النفس بين الطرفين، وهو ما خلق حالة من الارتباك والشك لدى الإسرائيليين، ومن المنطقي أن يظهر رد الفعل بهذا الشكل من طرف الإدارة الأمريكية، التي بدأت أولى خطواتها التصحيحية للمواقف الإدارة السابقة، التي كانت مؤججة للصراعات ومسببة للاحتقان، وبايدن كان واضحًا منذ حملته الانتخابية بميولاته الليبرالية، وحرصه على تفعيل دور المنظمات الدولية وإعادة انخراط الولايات المتحدة في الاتفاقيات الجماعية، وفي هذه الحالة فإن الوقوف والدعم المطلق للأمريكيين تجاه حليفهم التقليدي إسرائيل محفوف بالمخاطر، وقد يكلفهم حالة من العداء من طرف عدة خصوم إقليميين، كما أن الإنجاز الأكبر في القضية هو التطبيع والذي لم يزل رخوًا وجب على الأمريكيين الحفاظ عليه، وبالتالي فإن أي تصرف استفزازي قد يعيد المعادلة إلى نقطة الصفر.

قراءة أولية للاحداث

تشهد القضية الفلسطينية تطورات هيكلية غير مسبوقة، وهذه المرة تحديدًا وباستقراء عنصر التوقيت، فإن هذه الأحداث جاءت في وقت حرج للغاية بالنسبة لإسرائيل، حيث يعرف الداخل الإسرائيلي توترًا وارتباكًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، صبت كلها في صالح الفصائل الفلسطينية، كما أن المستجد هذه المرة هو الاختلالات التي طالت المنظومة الأمنية الإسرائيلية لأول مرة، خاصة وأن أهم مبادئ نظرية الأمن الإسرائيلية قد تم تقويضها، حيث إن عنصر نقل المعركة إلى أرض العدو قد تم تعطيله وتم قصف قلب إسرائيل (تل أبيب) وهذه المرة تم نقل المعركة للداخل الإسرائيلي، إضافة إلى العنصر الثاني وهو الحرب الخاطفة، حيث إن إسرائيل كانت تريد ضربة تعديلية سريعة وذات نتائج كبيرة، لكن الفصائل بصمودها والقدرة على الرد بعد كل غارة، يمكننا القول بأنها تمكنت من جر إسرائيل إلى حرب شاملة طويلة المدى، فضلًا عن كل هذا لا يجب تناسي التكاليف الباهضة التي تكبدها الاقتصاد الإسرائيلي، سواء من حيث تحويل أرصدة مالية ضخمة إلى القطاع العسكري كانت مخصصة للسوق الإسرائيلية، خاصة أن منظومة القبة الحديدية التي تستنزف الملايين من الدولارات، علاوة على الطلعات الجوية التي تقدر بآلاف الدولارات، ويمكننا القول إنه في هذه المرة تمكنت الفصائل من إدخال إسرائيل في حرب استنزاف كانت تعتمدها هي سابقًا ضد خصومها.

وعلى الصعيد الإقليمي فقد أدخلت هذه الأحداث إسرائيل في مأزق إقليمي كانت في غنى عنه، وهي التي كانت تشهد انتعاشًا إقليميًا غير مسبوق، بانتقالها إلى المصدر الرائد للغاز في الشرق الأوسط، وربطت نفسها بشبكة من المشاريع الاقتصادية التي أدمجت فيها دولا عربية، وهو الهدف الذي كان قد سطره كبار المشروع الصهيوني أمثال «ثيودور هرتزل» و«شمعون بيريز»، والقاضي بانشاء كومنويلث شرق أوسطي لإسرائيل دور ريادي فيه، لكن مع تعطيل حقل تمار القوة الاقتصادية الضاربة لإسرائيل بفعل ضربات الفصائل وضرب مشروع نقل النفط الإماراتي الإسرائيلي (إيلات – عسقلان) وتعطيله، عكس قواعد اللعبة، وذلك باستقطاب دعم قوى إقليمية كانت ضد التوسع الإقليمي الإسرائيلي ونخص بالذكر هنا كل من إيران وتركيا، فإيران ترى بأن إسرائيل تنجح إقليميًا على حسابها في المنطقة حاملة بذلك مشروعا معاديا لها، وتركيا التي ترفض رفضا قاطعا المنظور الإسرائيلي لقضية غاز شرق المتوسط، وترى في الحلف الذي تأسس (إسرائيل، مصر، الإمارات، اليونان) الغاية منه تحجيم دور تركيا وعزلها، وهو الذي جعلها في السابق تتخذ خيار التدخل في ليبيا، هذه المعطيات الجديد تضع الفلسطينيين في موضع يفرض ويستوجب الوقوف إلى جانبهم، أو بصورة أخرى تمكن الفلسطينيون من فرض أنفسهم كطرف قوي وفاعل له في لاحق الأيام مكانة أخرى.

وعلى صعيد آخر تسبب التصعيد العنيف في ارباك الموقف الأمريكي في الشرق الأوسط، فسياساته التقليدية ونتيجة للأحداث الأخيرة وضعت في مأزق حقيقي، خاصة وأن الإدارة الأمريكية الجديدة كانت عازمة على شرق أوسط خالي من التصعيد، لكن هذه الأمر أصبح مستحيلًا مع الخروقات الإسرائيلية، حيث إن إدارة بايدن اعتمدت سياسة حذرة هذه المرة، وذلك بالحذر والتوفيق بين الأضداد، من جهة الحفاظ على الحلفاء ومن جهة أخرى خفض التصعيد والتوتر مع الخصوم، لكن اتضح أن إسرائيل لا توافق على السياسة الأمريكية هذه المرة، ورفضت فكرة عودة الأمريكيين للاتفاق النووي مع إيران ورفع العقوبات، لذلك فإن الأمريكيين أصبحوا يرون في إسرائيل عبئًا أكثر منها حليفًا، خاصة أنها (إسرائيل) هذه المرة وضعت التطبيع الذي يعتبر الإنجاز التاريخي على المحك، ومع ذلك طالبت بالدعم الأمريكي كالعادة، لكن الأمريكيين هذه المرة يدركون بأن الدعم قد يكون استفزازيًا لأطراف عربية وفلسطينية وربما ينسف ذلك الأشواط المقطوعة في مسار السلام، إضافة إلى أن الفصائل هذه المرة أثبتت قوتها، وبالتالي على الأمريكيين تسيير الوضع للخروج بأنفسهم وبإسرائيل بأقل الأضرار هذه المرة.

نقطة أخرى هي الأهم على الصعيد الداخلي، وهي أن الانتفاضة الحالية ليست غزة وحدها ولا الضفة الغربية وحدها، بل هي انتفاضة الشعب الفلسطيني بكل أطيافه بما فيها حركة حماس، والشعب الفلسطيني في الضفة وعرب إسرائيل كلهم على مبدأ واحد، وهو الأمر الذي حيد السلطة الوطنية وجعلها في مأزق سياسي كبير وهي الشريك السياسي المفضل لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وهذه السلطة هي التي كانت لوقت طويل ترعى الانقسام وتكبح الانتفاضة، أما هذه الأحداث فإنها فصلت السلطة وحركة فتح عن المشهد، إن لم نقل إنها وضعتها مع الكفة الإسرائيلية، ولعل الاستفسار الجوهري، بل المصيري، هو بعد أن يتوقف إطلاق النار فكيف سيكون منظور الفلسطينيين لحركة فتح والسلطة؟ سيرفضون أي دور لها في العملية السياسية، وفي الوقت ذاته تكون حركة حماس قد حصدت الكثير من القوة الناعمة لصالحها، سواء من طرف الشعب الفلسطيني ومن طرف القوى الإقليمية الداعمة لها، ونصبح أمام إشكالية جوهرية، هل ستصبح حماس حركة شرعية وربما تصبح جزءًا من السلطة الوطنية؟ وإن لم تكن كذلك، من هو الفصيل السياسي الذي سيقبل به الفلسطينيون ممثلًا لهم؟ والذي من المؤكد لن تكون فتح فيه.

من جهة أخرى وهي ربما الأهم، تمكنت الهجمات الأخيرة من كشف الخروقات الإسرائيلية للمواثيق والأعراف الدولية، ولعل الثورة في تكنولوجيا الاتصالات، تمكنت من نقل الصورة إلى العالم، بعد أن كانت اللوبيات الصهيونية تتحكم فيها في الدول الغربية، وعبر شبكات التواصل الاجتماعي تمكنت الشعوب عبر العالم من معرفة أمور كانت مغية عنهم بخصوص القضية، فسجل التضامن المطلق والواسع مع الشعب الفلسطيني والمطالبة بمحاسبة إسرائيل على جرائمها، حتى عربيًا هناك شعوب كانت قد نسيت القضية بتغييبها المقصود إعلاميًا.

وهنا يبقى السؤال المطروح: هل هذه المرة ليست ككل مرة؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد