يعتبر التحول الذي حدث في الصين في مرحلة ما بعد «ماو تسي دونغ» أحد أكبر وأعظم الأحداث الدراماتيكية في عصرنا، فقد انتشل هذا التحول ملايين البشر من براثن الفقر المدقع، وأعاد إلى الحياة واحدة من أقدم الحضارات في العالم، ولحسن الحظ فقد احتضن زعماء فترة ما بعد «ماو» خاصة «دينغ سياو بينغ» التغيير، وتعلموا من إخفاقات ماو، أن يبقوا بعيدين عن مغلاة الأيديولوجيا، وأن يتمسكوا بالبرجماتية.
استطاعت الصين تحقيق طفرات اقتصادية كبيرة؛ إذ احتلت المرتبة الأولى عالميًّا في التصدير، وأصبحت تسمى بمصنع العالم، فضلًا عن أن اقتصادها يعتبر الاقتصاد الأكبر بعد الولايات المتحدة الامريكية، ولقد حققت الصين هذه القفزات الاقتصادية بعد تحولها نحو النظام الرأسمالي، ولو أنها بقيت على الاشتراكية لما حققت هذه النجاحات الاقتصادية، ولكانت الصين اليوم تضم أكبر عدد من العاطلين والفقراء في العالم.
قامت الصين بإصلاحات اقتصادية شملت تشجيع الملكية الخاصة في مختلف القطاعات، كما سنّت قوانين جديدة بهدف جذب الرأسمال الأجنبي، وفتح الأسواق للاستثمارات الخارجية، ورغم سيطرة الدولة على قطاعات كبيرة مثل البنوك والنفط، إلا أن القطاع الخاص، نما بشكل مهول، إلى أن أصبح يشكل 70% من إجمالي الإنتاج المحلي في العام 2005م، وبلغ معدل النمو حوالي 10% منذ 1978م إلى 2013م.
وحدث التحول الاقتصادي الأكبر في الصين في نهاية السبعينات، عندما أعلن الحزب الشيوعي الحاكم سياسة جديدة بفتح المجال للقطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، ويعمل القطاع الخاص كمحرك رئيسي لنمو الاقتصاد الصيني، فحسب ورقة عمل صادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي، يساهم هذا القطاع بنسبة 70% من الناتج المحلي الإجمالي للصين، وهو مسئول عن 70% من الابتكار و80% من العمالة الحضرية، ويوفر 90% من الوظائف الجديدة، كما أن الثروة الخاصة مسئولة عن 70% من الاستثمار، و90% من الصادرات.
تعد الصين اليوم أكبر بلد يخرج للعالم مليونيرات جدد، فالبلد يشهد صناعة ثروات متواصلة منذ عقدين، ونسب نمو اقتصادي هائلة جعلت من البلد ثورة معمارية غير مسبوقة، ووصف الكثير من الاقتصاديين وضع الاقتصاد الصيني بأنه “اقتصاد رأسمالي تقوده الدولة”، فمن لحظة الوصول إلى المطار تطل عاصمة الصين الاشتراكية في ثوب رأسمالي، وقد اختفت صور زعماء الصين الاشتراكيين لتبقى محصورة داخل المؤسسات الرسمية وأوراق العملة الوطنية، وتم استبدالها بصور الإعلانات والشعارات التجارية التي تغص بها الشوارع والأبراج، وباتت العقيدة الاشتراكية التي كانت في الماضي تكن عداءًا مطلقًا للنظام الرأسمالي، تبدو في حالة تزاوج وتمازج لا تخطئه العين لمن يزورها.
ساهم تطبيق الرأسمالية في الصين في تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حوالى 6 مرات تقريبًا ليصل إلى 6800 دولار، وبنمو اقتصادي ظل مستقرًّا فوق معدل 9% سنويًّا على مدى سنوات، وامتلاكها لأكبر احتياطي نقدي أجنبي في العالم بمقدار 3.2 تريليون دولار، أصبح الاقتصاد الصيني في المركز الثاني بين أكبر اقتصادات العالم بعد الولايات المتحدة.
في عهد ماو، عندما كانت الصين اشتراكية، وكانت الدولة تهيمن على الاقتصاد، كان 88% من السكان يعيشون في فقر مدقع، وبعد أن اعتمدت الرأسمالية نظامًا اقتصاديًًّا، تمكنت الصين من تخفيف حدة الفقر، ففي بداية الانفتاح الاقتصادي سنة 1978م، كان هناك أكثر من 250 مليونًا شخص يعيشون في فقر، ثم انخفض هذا الرقم إلى 95 مليونًا بحلول 2000م، وواصل الفقر في الانخفاض حتى وصل إلى
أقل من 2% سنة 2019م.
تسمي الصين نموذجها رسميًا بـ”اقتصاد السوق الاشتراكي”، وتقول إنه يجمع بين النظام الاشتراكي الأساسي، واقتصاد السوق، ويسمي الباحث برانكو ميلانوفيتش، في كتابه «الرأسمالية.. وحدها» نموذج الرأسمالية الصينية بـ”الرأسمالية السياسية”، ويقول إنها تظهر عندما تعتمد حكومات استبدادية في اكتساب الشرعية على قدرتها على تعزيز النمو الاقتصادي، بما يوفر الدافع لتطبيق إصلاحات السوق الحر.
يحاول أكثر من مركز صناعة قرار، وجامعة في الغرب تفسير هذه النوعية الخاصة جدًّا من الرأسمالية، والمسماة أدبًا بـ«الرأسمالية الصينية»، نظرًا لأنها ليست كالرأسمالية الليبرالية التي يعرفها الغرب، وتعوَّد عليها، وحاول أن ينشرها حول العالم، والمعتمدة أساسًا على نشر الحقوق والحريات تمامًا مع نشر فكرة ومبدأ السوق الحرة والمفتوحة.
في حقيقة الأمر؛ الصين دولة رأسمالية اقتصاديًّا وشيوعية سياسيًّا، بمعنى أنها اعتمدت الرأسمالية كنظام اقتصادي دون تبني الديمقراطية كنظام سياسي، كما يمكننا القول بأن الصين دولة برجماتية تؤمن بمبدأ «الغاية تبرر الوسيلة»؛ لهذا فهي تستعمل الرأسمالية كأداة لتنمية اقتصادها وتحقيق أهداف الحزب الشيوعي.
رغم أن الصين دولة شيوعية تدار بعقلية الحزب الواحد، ومعلوم أن الشيوعيين لا يؤمنون بالديمقراطية والانفتاح، إلا أننا نجد الصين اليوم من أكثر داعمي العولمة والانفتاح من خلال مبادرة “طريق واحد- حزام واحد”؛ لأن العولمة تخدم مصالحها، وكما قلنا آنفا فالحكومة الصينية حكومة برجماتية تؤمن بالمبدأ الميكافيلي «الغاية تبرر الوسيلة».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست