نظرا لما تمر به البلاد قرر مجلس الثورة حلّ الجمهورية وإعلان الأحكام العرفية.
ذلك اليوم حيث يتوقف كل شيء، ويسقط النظام الذي طالما هتفت الجماهير بسقوطه. وبين سقوط النظام وبناء نظام جديد فترة من الزمن من أصعب وأحلك الفترات على الأمم، هي الفوضى، ولا شيء سواها بعد سقوط النظام، وموت الدولة، هو الموت بعدما نهش المرض والفساد وترهل الخدمات والأمن والاقتصاد هذا النظام، لا لم يسقطه الثوار، ولكنه أسقط نفسه، أو إن شئت الدقة أسقطه الزمن وتطاول الأيام، فالموت علينا حق أفراد وشركات ومنظات ودول، ولم تسم الدول دولا، إلا لأنها تذهب، وتأتي غيرها، فالأيام دول: يوم لك ويوم عليك.
الآن، وبعدما سقطت الدولة التي كان يخشى البعض على هيبتها فذهبت كلها، دعونا نفكر في هدوء: لماذا نحتاج إلى نظام أصلا؟ لماذا الدولة؟ وما الغاية منها؟
لماذا لا أصبح رئيس جمهورية نفسي؟ لماذا أحتاج إلى الآخرين من بقية الشعب؟ السؤال بديهي جدا، وواضح، لكن 90% من مشاكل البشرية تكمن في الأسئلة الأولية والبديهية والبسيطة، أضرب لك مثالا قديما ومشهورا على ذلك: عندما سألوا أهم طبيب ملحد في الغرب: ما فائدة الحذاء؟ فقال: يقوم بحماية قدميك! ثم سئل: فما فائدة القدم؟ فأجاب: ثم ما فائدة القلب؟ فأجاب: إنه عضو مهم يضخ الدم … ألخ، ثم ما فائدة المخ؟ فأجاب بمعلومات تفصيلية عن عدد خلاياه ونوع الخلايا ووظيفته، عندها سُئل فما فائدة الإنسان؟ يعني ما الحكمة من خلق الإنسان؟ لماذا جاء الإنسان؟ وما الهدف من حياته؟ هنا سكت؛ لكي يفكر، ثم قال: هذه مسائل فلسفية وخلافية، وأنا لا أعرف إجابة محددة. فقالوا له: أنت تعرف فائدة حذائك، لكنك لا تعرف ما هي فائدتك أنت أصلا!
المشكلة دائما في أن الناس تفكر في التفاصيل، لكنها تختلف في البديهات، في الأسئلة المبدئية التي تبدو تافهة، كل البشر على وجه الأرض متفقون على فائدة الحذاء، ومتفقون بالتفصيل على وظيفة القلب في الإنسان، لكنهم مختلفون تماما في إدراك أو معرفة ما هي فائدة وجودهم، وما هي وظيفتهم هنا على هذا الكوكب، باختلاف مذاهبهم وعقائدهم.
ماذا تريد أيها الكاتب المتفلسف؟ خلصنا من هذا الهراء. حسنا أريد أن أقول: إنه لو أدرك المصريون، كل المصريين فائدة الدولة، وما هي وظيفتها التي من أجلها كانت ووجدت، صدقني، لما حدث كل هذا الانحراف عن مسار الدولة.
وهذه مهمة عسيرة لو عرفت أن مئات الأنبياء أرسلوا؛ لكي يشرحوا للبشر ما فائدة حياتهم، وما الهدف الذي من أجله خلقوا، لكن النتيجة: هناك مليار ملحد في الصين، ومائة وخمسين مليون بوذي هناك أيضا، ومعظم المليار ومائتان مليون هندي يعبدون، إما النار أو البقر.
ناهيك عن أن معظم قارة أفريقيا جنوبي الصحراء وثنيون ويعبدون الأرواح الشريرة، فضلا عن تحريف الديانات السماوية، وظهور سبعين مذهب في كل دين، وكل مذهب يكفر الآخر، وعزوف سكان أوروبا عن المسيحية، وإغلاق الكنائس هناك، وتوجههم للعلمانية، التي لا تشرح ما المغزى للحياة، ولكن تدعو فقط للعيش، والاستمتاع بالحياة، وترك تلك المسائل؛ حتى يداهمنا الوقت، أقصد الموت!
أعلم أنك تنتظر أن أجيب لك عن السؤال السهل والبديهي: ما فائدة الدولة؟ ولماذا نحتاج دولة دائما، لكنني صراحة أتهرب من الإجابة! أعرف الإجابة، لكن قتل الله الكسل، لا أريد أن أجيب كسلا، ربما، وربما أيضا لأنني أعرف أن الإجابات التي تأتي بسهولة تذهب بسهولة أيضا، الله ذو الجلال والإكرام لم يعط الإجابة الصحيحة من أول مرة لسيدنا إبراهيم وهو يبحث عنه، يجب يا صديقي أن تتعب في البحث عن مغزى الدولة، وعن مغزى الحياة يجب أن تبكي وتحتار وتشعر بالتيه، وتقول يا الله ساعدني؛ ما المغزى من الحياة؟ وما المغزى من الدولة؟ تعذب وابحث وابذل الجهد.
أما أنا فسأعود إلى تلك الليلة الليلاء، حينما يدرك كل مصري في الداخل والخارج أن الدولة انهارت، حينما يكفر الجميع بعملة الجنيه، ويطالب الجميع في تبادلاتهم الدولار الأمريكي أو الريال أو الدرهم أو الذهب، حينما تختفى الشرطة تماما من الوجود، ويرحل كل فرد منها في هدوء، ويفهم الجميع أنه من الآن فصاعدا حماية حياتك وحياة أسرتك وأموالك ومنزلك أو ممتلكاتك صارت مسئوليتك لوحدك، ولك الحق في أن تتعاون مع جيرانك أو أقرباءك في تأمين الحماية، ولك الحق في أن تحمل السلاح والأحكام العرفية، أي أنه لا توجد عقوبة على أية جريمة من قبل جهة معينة، فاللص إن استطعت اقتله؛ لكي تنجو وتعيش. الطرق غير ممهدة ولا يوجد شخص أو جهة ما تسطتيع أن تطالبها بتمهيد الطرق. العلاج! قم بتصنيعه بنفسك أو أبحث عنه لدى من يستطيع تهريبه من الدول الأخرى، أما الطبيب فابحث عمن لدية خبرة طبية من بين جيرانك؛ لكي يفحصك في حدود الإمكانات المتاحة، وبدون أجهزة حديثة.
الورق الحكومي كالشهادات والبطاقات الشخصية، وجوزات السفر لم تعد تصدر، فالموظفون لم يعودوا يذهبون للمكاتب الحكومية؛ لانعدام الأمن، ومن لدية أوراق قديمة سينظر لها بعين الشك؛ فما أسهل التزوير في تلك الأوقات، ولك في سوريا: عبرة النسر سقط للأبد، ولم يعد رمز الجمهورية، المطارات والموانيء تحت سيطرة من …؟ لست أدري! أعمال السلب والنهب لمكاتب ومقرات ووزارات ما كان يوما دولة.
ما سبق صورة مركزة من الانهيار الكامل، لا داعي للتشاؤم، أتوقع أنه من الصعب أن يحدث بهذه الصورة المركزة؛ فالمصريون أحد أقدم الشعوب اختراعا للدولة، لكن درجت العادة عند المهندسين تصميم المبنى على أقصى حالات التحميل، لذلك يجب دائما دراسة أسوأ الحالات والتحسب لها، ليس ما سبق ذكره للتشاؤم أو التهديد على غرار مبارك: (أنا أو الفوضى) أو التخويف من انهيار هذا النظام المريض بسرطان الفساد والاستبداد، ومن ثم الرضا به؛ فبعد كل موت حياة جديدة، ونظام جديد مشرق، ودولة فتية وحديثة ومتطورة.
إذن ما الهدف مما سبق؟ الهدف هو تجنب الفوضى من الآن بتشكيل حكومة ظل كاملة العدد، بها وزراء وفرق وموظفون متطوعون وجهاز أمني كامل تحت الأرض، ووضع أهداف لتأمين الانتقال السلس ما بين النظامين.
وكمثال: وضع أهداف، كتأمين السجلات المدنية والشهر العقاري، وتجهيز طاقم كامل من عشرة آلاف قاض بديل؛ للاستبدال الفوري لكامل النظام القضائي، والعمل على إصدار قوانين فورية، وتشكيل مجالس محلية؛ لتولي حماية وإدارة الأحياء، ولجان شعبية من العناصر غير الإجرامية، وغير الموالية للنظام القديم، وفرق مسلحة بديلة لتأمين المطارات والموانئ ومحطات الكهرباء؛ فمن الوارد جدا أن يقرر النظام القديم لحظة احتضارة تسليم البلد أرضا محروقة؛ لكسب الزمن لصالح إسرائيل، فيقوم بإتلاف كل محطات الكهرباء، ومرافق الدولة، ويتهم بها الإرهاب، وما أسهلها من تهمة؛ لكي يضمن أننا نحتاج إلى ألف سنة؛ لكي نعود إلى نقطة الصفر من جديد؛ وألف سنة كافية لإسرائيل كي تفكر في حيلة أخرى لتعطيلنا، أو تجد جاسوسا آخر غير قائد الانقلاب الحالي.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (آية 40 سورة الحج)
أثق في الله أنه ـ عز وجل ـ لن يضيعنا، وأنخ لن تتمادى إسرائيل أكثر من ذلك، وسوف يسقط بإذن الله جاسوسها الأهم على مدى التاريخ، الذي وصلت به الوقاحة أن يتوعدنا بشرب مياه الصرف الصحي بعدما سقانا الله منذ فجر التاريخ ماء النيل العذب، ثم إنني أثق بعد الله في هؤلاء المصريين الذين رأيتهم في جمهورية التحرير في ثورة 2011 لقد تكونت بشكل فطري وعفوي اللجان الطبية ولجان حماية الميدان ولجان الإذاعة ولجان تنظيف الميدان وتبرع الناس بالطعام والخيام وجلسوا معا في ليل شهر يناير البارد ينشدون معا ويتسامرون كأنهم أصدقاء منذ سنين طويلة.
سوف تولد الدولة الجديدة كهدية من الله وككل معجزة ميلاد، لكن علينا واجب السعي كي نتجنب فترة الظلام والفوضي بين دولتين: بين القديم العجوز البائس والجديد الفتي السعيد، وكل دولة وأنتم بخير.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست