يَرْمِي هذا المَقَال إِلى تفَحّص مفهوم الإله وقواعدِهِ الفلسفِيّة من وجهة نَظَر الفلسفة الإسلاميّة المتعالِيَة التي ظهرتْ في الحيّز الإسلاميّ الفارسيّ في القرن السادِس عشر، ومُحَاوَلَة إجراء قِرَاءة مُقَارِنَة من خلال هذه القواعِد على المفهوم الهندِيّ القديم للإله، حيثُ ستُعْرَض قراءة أحد فلاسفة هذه المدرسة – المير فندرسكي – لهذا المفهوم.
منْ هِيَ مدرَسَة الحِكْمَة المُتَعَالِيَة الفلسفِيّة؟
إنّ الفلسفة كموضوعٍ تُعْنَى ببحثِ المَوْجود بما هوَ موجود في تعريفها الأساسيّ، ويُعَدّ مبحث الوجود مبحَثًا أساسيًّا في علم المنطق، وهوَ ضاربٌ في التّاريخ العقليّ الإنسانِيّ. ميّز أرسطو هذا الموضوع في قسمٍ خاصّ من دائرة مباحثه عُرِفَ فيما بعد بـ«الفلسفة الأولى»، أو العِلم الأعلى (الميتافيزيقا). تبَنّت الفلسفة الإسلامِيّة من بداياتها المنهجِيّة الأرسطيّة في البحث الفلسفيّ، إذ اعتمدتْ بحث مفهوم الوُجود كمُنْطَلَق أساسِيّ (الطّباطبائي، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، ص8).
تتَعَدَّد المدارس الفلسفيّة الإسلاميّة، بتنوّع أزمنة ظهورها وروافدها الحضاريّة، فنجدُ الفلسفة الأرسطيّة المشّائيّة والتي يعدّ أبرز ممَثّليها الفيلسوف ابن سينا، والذي اعتمدَ بشكلٍ أكبر على الفلسفة اليونانيّة؛ الفلسفة الإشراقيّة للسّهرورديّ والتي تعتمِدُ مفهوم النّور، وتأثّرَت بالفلسفة اليونانِيّة، والدّيانة الفارسيّة القديمة؛ وتلتْها في الظهور متأثرة بكلتا المدرستين مدرسة الفلسفة المتعالِيَة ببلاد فارس في القرن السّادس عشر إبّان العهد الصّفويّ (ومركزها أصفهان). (ص124.Razavi, Suhrawardi and the School of Illumination).
تبحث المدرسة المتعالية الإلهيّات بمعناها العامّ والخاصّ (أي ما يخصّ وجود الله عامّة وصفاته خاصّة). لفهم هذه المنظومة الفلسفيّة واستخراج قواعدها في النّظر للإله يلزَمُ إيراد تعريفها للفلسفة. هذه المدرسة تدْعُو الفلسفة بـ«الحِكْمَة المُتَعالِيَة» أو «الإلهِيّة» في إشارة لربط التامّل العقليّ بالإله (عبد الرّسول عبوديت، النّظام الفلسفيّ لمدرسة الحكمة المتعالِيَة، ص78).
تُعَرّف المدرسة المتعالية الحِكمة الإلهيَة بأنّها «العلمُ الباحثُ عن أحوالِ الوُجودِ بما هوَ موجودٌ.. وغايتُهُ تمييزُ الموجوداتِ الحقيقيّة من غيرها ومعرفةِ العِلَلِ العالِيَةِ للْوُجودِ، وبالأخَصَ العلَة الأولى الّتي إليْها تنتَهي سلسلةُ الموجوداتِ وأسمائها الحسنى وصفاتِها العليا وهوَ اللهُ عزّ اسمُهُ». (الطّباطبائي، أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ ج2، ص25).
للوصولِ لتعريف هذه المدرسة للخَالِق لا بدّ من بيان مفهومَين اعتمدَتْهما، وهما من المفاهيم الفلسفيّة الإسلاميّة الأساسيّة، وهما مفهوم «الوجود» ومفهوم «الماهيّة».
بيان مفهوم «الوجود» ومفهوم «الماهيّة»
تعرّف المدرسة المتعالية مفهوم الوجود بأنه «مفهوم بديهيّ معقول بنفسِ ذاتِهِ، لا يُحتاج فيه إلى توسيطِ شيء آخر، فلا مُعرّف له من حدّ أو رسم، لوُجوب كونِ المعرَّف أجلى، وأظهر من المُعَرّف» (الطباطبائي، بداية الحكمة، ص11 – وهوَ كتاب يلخص جميع القواعد الفلسفية لهذه المدرسة). معنى هذا التعريف هوَ أن الوجود «لا حدّ له»، أي لا تعريف له من ناحية جنس، أو نوع، وغيرها من تعريفات المنطق الأساسيّة. وبعد تعريف الوجود، يُذكَر أنّه ينقسم إلى وجود الواجب ووجود الممكن، ونظَرًا إلى أنّ العدَم واحِد، وهوَ النّقيض، فإنّ الممكنات بالفعل موجودة ما يقتضي وجود – واجب الوجود – وهوَ الخالق، «وإلّا حصلَ ارتفاع النّقيضين وهوَ محال»؛ والمقصود هنا بارتفاع النّقيضيْن هوَ حدوث شيئين متناقضين، أي وجود وعدم، وهوَ مستحيل فلسفيًّا (بداية الحكمة، ص13).
بعدَ إيراد التعريف الأساسيّ للوجود يُذْكَرُ شأن الماهيّات، وهيَ التي ينطبق عليها المفهوم الانتزاعيّ للوجود، أي أنّ وجودها «منتَزَع»، أو يستقي من «الوجود الحقيقيّ» أو الخالق، وتجوز على الماهيّات الشّيئيّة، وإمكانيّة تعريفها (الشيرازيّ، الأسفار العقليّة الأربعة الجزء 1، ص68). مثلَ قولنا إنّ هناك إنسانًا، وهيَ ماهيّة، وهوَ موجود وُجود انتزاعيّ.
في أنّ الوجود هو الأصل، ودليل ذلكَ على «واجب الوجود» وتعريفه.
استنادًا إلى ما ذُكِرَ تعتبرُ المدرسة المتعالية الوجود هوَ الأصل والحقيقة والماهيّة تأتي بعدهُ، والوجود أمر واحد، غير أنه ضعيف في الماهيّات والمخلوقات الأقرب إلى المادّة، وهوَ الأقوى عندَ الإله. لذلكَ في السّفر الثالث من أسفاره العقليّة الأربعة، يقول الفيلسوف صدر الدين الشّيرازيّ، والذي دُعِيَ بصدر المتألّهينَ لعظَمِ مكانته، وإنجازه الفلسفيّ في مدرسة الحكمة المتعالية بأنّ أصالة الوجود تُثبِت «الواجب»، إذ إنّ الماهيّات خرجتْ إلى حيّز الوجود بِعِلّة لافتقارها إلى علّة تنتزعها إلى الوجود، وذلكَ لضعف جوهرها وقصور هويّتها عن التّمام إلّا بغيرها. لذا يردّ الشيرازيّ بأنّ الخالق لا يحتاج إلى علّة لأنه «تامّ الحقيقة في ذاته وبه تمام كل تام» من قبيل أنه واجب الوجود (ص56). يتابع الطباطبائي في توضيح قول معلّمه بالقول إنّ كثيرًا من فلاسفة العصر الحديث ضلّوا بافتراضهم تسلسل العلل إلى ما لا نهاية إذ يجب التمييز بينَ القاعدة الفلسفيّة بأنّ كل حادثة تتطلّب علّة، أي كلّ شيء لم يكن ثمّ كان له علّة، وبينَ ما هوَ كائن ضرورةُ دونَ علاقة بسلسلة العِلَل وهوَ واجب الوجود لتحقّق الوجود لكل الماهيّات ضرورةً (الطباطبائي، أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ ج2، ص168).
بعدَ بيان هذه المفاهيم الأساسيّة، نستطيع إيراد تعريف الشّيرازيّ للإله بأنّه «بسيط الحقيقة كلّ الأشياء» وإجراء القراءة المقارنة. هذا التعريف يرد في الأسفار العقليّة كالآتي:
«هذا من الغوامض الإلهية التي يستصعب إدراكه إلا على من آتاه الله من لدنه علمًا وحكمة، لكن البرهان قائم على أن كل بسيط الحقيقة كل الأشياء الوجودية، إلا ما يتعلّق بالنّقائص والعدم. والواجب (تعالى) بسيط الحقيقة واحد من جميع الوجود، فهو كل الوجود، كما أن كله الوجود». (الجزء السّادس من الأسفار العقليّة، ص110).
معنى البساطة في هذا التعريف عدم الشّيئيّة، ومعنى الحقيقة البسيطة هنا الوحدة الصّرفة التي لا تَصْدُق عليها الهويّة، أمّا كونه كلّ الأشياء، فذلك لأن الماهيات تتكوّن من شيء، ولا شيء، ولا ينطبق العدَم على الخالِق؛ إذ هوَ أتمّ صور الوُجود (شرح الطباطبائي، الجزء السّادس، ص110).
لهذا التعريف ولمدرسة الحكمة المتعالية جذورها وروافدها التي لا يسع المقالة حصرها جميعًا، فبعدَ ذكرِ هذا التعريف، ستقوم المقالة بإيراد تعريف الإله كما وردَ في النّص الهنديّ القديم، الفيدا، وبيان قراءة إسلاميّة تستندُ إلى المدرسة المتعالية أعلاهُ. بعدها سيردُ تعريف الطّاو الأساسيّ وطبيعته وستُجرى أيضًا قراءة مقارنة.
كتاب الـ«Rig Veda» نفسه لا يحوي على فكرة لإله مركزيّ، ولكن هناكَ يُذْكَر أنّ الآلهة ضحّت بـ«كَيانٍ» ما هوَ أساسها، نجمَ عنهُ العالم. في الفترة الفيديّة المتأخّرة دُعِيَ هذا الكيان بِـ«سيّد الموجودات» أو Prajapati، تحوّل هذا الاسم لاحقًا إلى البراهمان. هذهِ «الضّحيّة الإلهيّة» في الإيمان الفيديّ القديم هيَ سبب ظهور الكون (The wonder that was India، ص240، للنّص نفسه: Hymn of the Primeval Man). ما هيَ القراءة الفلسفيّة الإسلاميّة التي تلقّاها هذا المفهوم؟
هُنا يُذكَر فيلسوفٌ آخر هامّ من فلاسفة المدرسة المتعالية وهوَ المير فندرسكي، والذي سافرَ عدة مرات إلى الهند وشرحَ كتبهم الفلسفيّة (خاصّة شرحه لليوجا فاسيشتا). في ترجمته لهذا الكتاب يتطرّق للبراهمان ويورِد وجهة النّظر الهنديّة كالآتي: أنّ الخالق الواحِد، من وحدانيّته تظهر التجليّات المتنوعة، وتأتي إلى الوجود. البراهمان، الوجود المَحْض، والذي كله نور وحكمة، غادرَ منزلة التّمام والمحضِيّة، ونتجية لذلك ظهرَت الثّنائيّة والتعدّدِيّة إلى النّور (المير فندرسكي، ص55، الترجمة الإنجليزية لشرحه لـYoga – Vasishta).
نلاحِظُ أنّ تشخيص المير فندرسكي للنظرة الهندية للخالق أو «البراهمان»، فيها محاولة لفهم الإيمان الهنديّ استنادًا لمفهوم الفلسفة المتعالية للإله بأنه واجب الوجود، فهوَ يشرح بأنّ البراهمان محضٌ ويلمّح لضرورة وجودِهِ، ويفسّر النّصّ القديم القائل بأنّ هناك «تضحية إلهية» حصلتْ، بأنها اختيار البراهمان في مغادرة محضيته إلى المثنويّة والتعدديّة وعالم المادّة. بعدَ هذه الترجمة.
في شرحِهِ فيما بعد يذكُر المير فندرسكي أنّ حكماء الهند حاولوا تفسير مسألة صدور الكثرة عما هوَ بسيط واحِدِ، وقد جسروا هذا الرابط بأنّ الواحد نفسه تجلّى في عوالم شتّى (المصدر السابق، ص58)، أمّا حقيقةً، فكلّ الموجودات العَرَضيّة ذات الماهيّة فهيَ أقل درجة في الوجود، لذا على الإنسان أن لا يُضِلّهُ وهمهُ. يرمز المير فندرسكي لحكمة البراهمة بأنها شذرات من الحقيقة تجلّت لهم، جاءَ الوحي القرآنيّ ليُكملها ويوضّحها كما حصلَ مع أبناء الأمم الأخرى. ويقولُ إنّ الإنسان يستطيع قول كلمات شتّى في تعريف الله، لكنّه فوقَ كل هذا. وهوَ قول معاصره الشيرازيّ في مسألة كون الإله بسيط الحقيقة، أي أنها حقيقة صرفة ضرورية الوجود كما وردَ أعلاهُ (Nair, Shankar. Transating wisdom: Hindu- Muslim intellectual interactions, p.126).
من هُنا كاستنتاج يُلْحَظ أنّ المير فندرسكي ترجَمَ النّص الهندِيّ وفكرة الإله بأنّها وجود محض، وبناءً على فهمه الفلسفيّ الإسلاميّ، شخّص المعضلة الهندية في فكرة التّضحيَة الإلهيّة بأنها محاولة تفسير فلسفيّة لمسألة الوحدة الإلهية مقابل الكثرة في العالم. يُرى هنا أنّ الفلاسفة المسلمين في العصر الصفويّ في فارس تحديدًا، سَعُوا لفهمِ الديانات الأخرى، وكانَ جسر التواصل بينهم وبين الحضارات الأخرى المجاورة لهم مفتوحًا؛ ما أدّى إلى ظهور فيلسوف كالمير فندرسكي، وهناكَ غيره ما يمكن ذكرهم في مقالات أخرى.
استنادًا إلى ذلكَ ثمّة أهميّة بالغة للاطلاع على موروث هذه المدرسة الفلسفِيّ، حيثُ تعدّ مدرسة حديثة الظهور نسبيًّا، ولم تزل قيدَ التطوّر في العالم الإسلاميّ الفارسيّ، وذلكَ لضمان فهم أوسع للإرث الإسلاميّ الفلسفيّ الإلهيّ والحضاريّ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست