الفرق بين الإدراك والوعي
تستخدم الكلمتان في السياق اللغوي أحيانًا للدلالة على نفس المعنى، وفي الحقيقة لا يمكننا أن نفصل الوعي عن الإدراك، فالإدراك عبارة عن تلقي المعلومة من الوسط الخارجي عبر إحدى الحواس، والوعي هو فهم هذه المعلومة وإنزالها مكانها الصحيح، على سبيل المثال تدرك بأذنك صوتًا معينًا ثم تعي بعد ذلك أنَّ هذا الصوت يعود إلى فلان الفلاني، أو أن تدرك صورة أبيك بعينيك والوعي يكون بفهم هذه الصورة بأن تقول هذا أبي صفاته كذا وكذا، لذلك المجنون في كثير من الأحيان يكون مدركًا لما حوله ولكنه لا يعيه ولا يفهمه.
مِنْ أين لنا هذا الوعي وما هي حقيقته؟
إحدى أهم القضايا المثيرة للعقل البشري والتي لم يحسم الصراع بشأنها بين مختلف المدارس النفسية والفلسفية حتى الآن هي قضية الوعي والإدراك، من أجلها وفي سبيل كشف أسرارها أقام العلماء الكثير من الأبحاث والدراسات، والسؤال الذي يثيره الجميع هل الإدراك عبارة عن حقيقة مادية قائمة بالجهاز العصبي أو حالة روحية مجردة تنتمي إلى عالم ماوراء الطبيعة؟، ففي حقل الفيزياء والكيمياء يدرسون العمليات الفيزيائية والكيميائية التي تواكب عملية الإدراك، كانعكاس الأشعة الضوئية من الأجسام ودخولها إلى العين والتغيرات الكيميائية التي ترافق ذلك حتى نحصل على ما يسمى الرؤية والإبصار، أما على مستوى الفيزيولوجيا فتتركز بحوث الإدراك على الجهاز العصبي، بينما يدرس علم النفس الإدراك ابتداء من النقطة التي تنتهي عندها الفيزيولوجيا فيدرس الحياة العقلية بمزيد من التمحيص، بعد ذلك يبدأ دور علم النفس الفلسفي الذي يدرس الإدراك خارج حدود الحقل العلمي والتجريبي.
ما يهمنا هو الصراع الفلسفي القائم حول طبيعة الإدراك والوعي، وسأكتفي بنقد الرأي القائل بمادية الوعي، فالمدرسة المادية تقول إنَّ الوعي والإدراك يمثل شيئًا ماديًا بحتًا، وأنكرت بالمطلق مفهوم الروح التي تتنتمي إلى عالم اللامادة، والإنسان عبارة عن وحدة مطلقة هي المادة ولا شيء غير المادة، والإدراك مرده إلى الجهاز العصبي متمثلًا بعضوه الأهم الدماغ.
الماركسية مثلًا أخذت تجربة بافلوف على الكلاب وبنت على أساسها مفهومها عن الوعي والإدراك، فاستنتجت من ذلك أنَّ الإدراك مجرد فعل منعكس شرطي تثيره البيئة الخارجية بشقيها الاجتماعي والمادي، وهو تفسير سطحي سأقوم بتفنيده من خلال طرح مثال أكثر عمقًا من مثال الماركسية هذا، لو أخذنا الروبوت الذي يقوم بالبحث عن الألغام وتفكيكها، هذا الروبوت مكون من ثلاثية مجموعها سوية شكل لنا هذا الروبوت الذكي، أولًا العتاد المادي المكون من قدمين ويدين وجسد وحساسات، والجزء الثاني هو نظام التشغيل البرمجي والبرامج الملحقة له التي تتحكم في هذا الروبوت وتمكنه من أداء كافة مهامه بنجاح باهر، ولدينا الجزء الثالث البطارية التي تمده بالتيار الكهربائي لكي يتحرك ويمارس مهامه، هذا الروبوت بدون برمجيات الذكاء الصناعي المنصبة في داخله عبارة عن قطعة من الخردة تشبه قطعة المليكان التي توضع على واجهة محلات الأزياء، كذلك الإنسان عبارة عن ثلاثية، لدينا هيكله المادي، الدم واللحم والعظام والأعضاء والأجهزة، ولدينا النظام المعلوماتي المزود من المصنع الرباني والذي يسيطر على هذا العتاد المادي ويتحكم فيه ويسير كافة عملياته النفسية والجسدية من هضم وتنفس ومشاعر وأحاسيس وتفكير ووعي… إلخ، فكما يتحكم نظام التشغيل البرمجي بالكمبيوتر ويسيطر على كافة عتاده المادي من شاشة وفأرة وكيبورد وذاكرة وقرص الصلب، كذلك يهيمن هذا النظام المعلوماتي الرباني على كافة الجسد، ولدينا الجزء الثالث التيار الذي يحرك الجسم الانساني ويبقيه على قيد الحياة وهذا ما نسميه نحن بالروح.
من خلال هذه الثلاثية يمكننا فهم الإنسان، أما إحالة الأمر إلى المادة والجهاز العصبي فهذا كلام فارغ، فالإنسان بدون نظام يتحكم فيه يتحول إلى صنم حجري لا فائدة ترجى منه، والعلم الحديث يؤكد نظرتي هذه، من خلال اكتشاف الشيفرات الوراثية في منتصف القرن العشرين، حيث تبين أن جميع مواصفات تصنيع الكائن الحي قد تمت كتابتها بطريقة رقمية مشفرة على شريط الحامض النووي DNA الموجود في كل خلية من خلاياه، وقد تبين أنَّ جميع أنواع الكائنات الحية يبدأ تصنيعها من خلية واحدة تنقسم بشكل متكرر تحت سيطرة هذا الشريط الذي يقوم بتصنيع كل جزء من أجزاء هذا الكائن.
كما أنَّ المعلومات الوراثية تكون مكتوبة على هذا الشريط بنفس الطريقة الرقمية التي يتم فيها تخزين المعلومات في أجهزة الحاسوب، علاوة على ذلك لا يمكننا تعديل أيّ جزء من أجزاء الكائن الحي مهما بلغت بساطة تركيبه إلا من خلال تعديل المعلومات المشفرة المكتوبة على هذا الشريط، وهذا يعني أن عملية تطور أيّ كائن حي إلى كائن حي آخر يتطلب إعادة كتابة برنامج التشفير الرقمي المخزن على شريط DNA، وشريط الـDNA عبارة عن معلومات وراثية مبرمجة ومشفرة، حيث يتم نقل المعلومات المشفرة من الـ DNA إلى أجسامٍ موجودة خارج الخلية اسمها الريبوزومات، ويقوم بنقل المعلومات حمضٌ نووي اسمه RNA «يقابل الأسلاك في الشبكة»، وتقومُ الريبوزومات بفك الشيفرة وفهم محتوَاها ثمَّ تُكَوِّن الأحماض الأمينية والبروتينيات التي تقوم بمعظم وظائف الخلية.
كلمة أخيرة
إن كل اختراع من نتاج هذه البشرية يجب ربطه بقضايا الوجود العميقة، فإنْ استطاع الإنسان أن يصنع آلة ذكية مزودة بنظام برمجي غاية في التعقيد من أجل تفكيك الألغام فقط، فمن باب أولى أن يكون الإنسان الذي يقوم بعمليات عقلية أكثر تعقيدًا من هذه بملايين المرات من صنع كائن يملك صفة العقل المطلق، زوده الرب بهذا النظام المعلوماتي المرعب الذي جعل منه كائنًا ذكيًا يتمتع بنوع متطور من الإدراك والوعي والقدرة على التفكير وابتكار الحلول ذاتيًا، بالإضافة إلى الهيمنة الكاملة على كافة أعضائه وأجهزته الحيوية، فالإنسان عبارة عن آلة ربانية حيوية شكّلت ذروة الوجود على سطح الكرة الأرضية، بالإضافة إلى أنه كائن مزاجي، يُتبِّل اللحم بالملح والبهارات ثمَّ يشويه، بعد ذلك يصنع مقابله صحنًا من السَّلَطَة، وعند انتهائه يجهز كوبًا من الشاي ثم يجلس لمتابعة فيلمه المفضل، بينما نجد أنَّ النّمر عبارة عن دابة ما زالت تأكل اللحم النيء منذ عشرات آلاف السنين وستظل كذلك حتى قيام الساعة، إذن فالقول أنَّ الإنسان كائن قد خرج إلينا بالصدفة عبر سلسلة طويلة من التطور مع إحالة الأمر للمادة فقط فهذا يعبر عن رأي سطحي جدًا، فهل تستطيع الطبيعة أن تبرمج لنا معلومات فضلًا عن تشفيرها؟!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست