«إذا كنا لا نعرف لماذا نموت، فعلى الأقل نموت بطريقة جيدة».

هكذا يصرخ المستشرق الفرنسي “أندريه ميكيل” في كتابه “وجبة المساء”، الذي قدمته د. رشا صالح في ترجمة متميزة صدرت مؤخرًا عن المركز القومي للترجمة. والكتاب يعد إضافةً إلى “أدب السجون”، يروي فيه الرجل تجربة سجنه المريرة التي استغرقت مائة وخمسة وثلاثين يومًا من عمره، امتدت بين خريف 1961 وربيع 1962، وهو يومذاك شاب لم يتجاوز الثانية والثلاثين. وللقارئ العزيز أن يربط بين جنسية ميكيل – كونه فرنسيًا – وبين موضع سجنه، فيبادر ليسألني – بحسن نية –: ولماذا سجنه الفرنسيون؟ سيحدث هذا في نفس الوقت الذي سيبادر فيه قارئ سيء النية ليصرخ في وجهي: ممم، أليست هذه فرنسا بلد الحريات التي صدعتم رأسنا بها؟ ها هم يسجنون مواطنيهم – زينا بالظبط – وأنتم تفلقون رؤوسنا كل يوم بالمعتقلين والمخطوفين … إلخ. وسيرقص صاحبنا طربًا لأننا صرنا مثل فرنسا وأحسن من سوريا والعراق.

وحتى أرفع عن هذا غشاوته، وأريح هذا من غباوته؛ أجيب بأن أندريه ميكيل “الفرنسي” لم يُسجن في فرنسا، وإنما في مصر! بعد توقيع اتفاقية زيوريخ بين مصر وفرنسا عام 1958، اتُخذت الكثير من التدابير لإعادة العلاقات بين البلدين بعد قطيعة 1956 وكان من بين هذه التدابير: إعادة نشاط المدارس والمعاهد الفرنسية في مصر، وقد تُوّج هذا المسعى بوصول قائم بالمهام الثقافية عام١٩٥٩، وهو رئيس البعثة الجامعية الفرنسية في الجمهورية العربية المتحدة، وليقع الاختيار بعدها على “أندريه ميكيل” ليكون مسؤولًا إداريًا في البعثة الثقافية. إلا أن ميكيل لم يمر على وصوله القاهرة – بصحبة زوجته وابنيه – شهران، حتى ألقت المخابرات المصرية القبض عليه بتهمة الاشتراك في تنظيم مؤامرة تهدف إلى قلب نظام الحكم في الجمهورية العربية المتحدة، واغتيال رئيسها!

أتم المحققون عملهم على أكمل وجه بدءًا من الصفع والركل وانتهاءً بالتهديد باغتصاب الزوجة والقتل، لكن هذه الوقائع تبدو بالنسبة لي غير مهمة، لأن لحظات المواجهة مع بطش السلطة – رغم كل ما تحمله من ألم – إلا أن ما بعدها هو القسوة بعينها، ها هم فرغوا من تعذيبك وسلخك وخلوت إلى نفسك، وجسدك يرفع إليك تقريرًا بما جرى، وعقلك يستكمل التحقيق معك: لماذا نحن هنا؟ وإلى متى؟ جدران الزنزانة وحدها الفصيحة في تلك الحالة: هم وحدهم يمتلكون الجهات والتوقيت. انتهت قراءتي للكتاب بتسجيل انطباعين: واحد منهما يتعلق بمواطن فرنسي في مواجهة الدولة المصرية، حيث بدت غرفة التحقيق وكأنها مسرح للصراع القديم المتجدد بين الشرق والغرب. وانطباع آخر يتعلق بتجربة ميكيل كإنسان سجين، حيث السجن تجربة إنسانية تتجاوز حدود الصراع وجنسيات أطرافه. الحديث هنا عما لقيصر، وما للإنسان.

  • ما لقيصر: في البدء كانت الدولة

– ألم تشارك في حرب السويس؟

– لا

– أنت كنت تستنكر هذه الحرب؟

– نعم، استنكرتها.

– إذن أنت تعارض بلادك؟

– في بعض الأحوال.

– كيف تكون موظفًا فرنسيًا حكوميًا وأنت لا تتفق مع حومتك؟

– إنه شرف لبلادي أن تكون العقول فيها حرة، يا إلهي، فليكن هذا صحيحًا، فضلًا عن أنني فخور أنني أنتمي إليها في السراء والضراء».

حوار قصير يلخص الكثير. الضابط المصري يتعجب من موقف “ميكيل” الرافض لحرب السويس؛ بينما هو موظف فرنسي يتحتم عليه – من وجهة نظر الضابط – أن يساند قرارات الدولة التي تعوله! في ذات الوقت، يُبدي ميكيل دهشته من دهشة الضابط، ويرى أنه مما يدعو للفخر أن يسعه انتقاد القرارات الحكومية في بلاده، دون أن يطعن هذا في وطنيته. دهشة الضابط المصري غير مستغربة على كل حال، إذا وضعنا في الاعتبار أنه ممثل دولة لا تكتمل فيها أهلية المواطن، إلا بالإذعان التام لسياسات الدولة.

على المواطن إذا أراد أن يحيا في هذه الدولة، أن يحترم لقمة عيشه، وأن يبذل الطاعة في مقابل اللقمة، إذا أراد أن يقضي مدته في الحياة على خير. الدولة من جانبها لا تدخر جهدًا في ترسيخ هذه الفكرة والحشد لها، فهي ليست حاضرة بموظفيها ومكاتبها العتيقة ودفاترها البالية فقط، وإنما حاضرة كذلك بمؤرخيها الذين يقع على عاتقهم أن يثبتوا لك أن الدولة كانت قبل الإنسان، وعليه فإن معارضتك لها طعن في شرطك الإنساني: يعني اعتبر الدولة (وحمة) خرجت بها إلى الوجود من رحم السيدة الوالدة، (اعترض بقا على حكمة ربنا). إضافة إلى الطعن في وجودك كإنسان، فإنك – يا دام قهرك – ستكون متهمًا في أعز ما تملك – ولا مؤاخذة – : وطنيتك، لأن المواطن الصالح لا يتوفر فيه (أوبشن المعارضة، السوفت بتاعه بينزل كده).

أما إذا توفر قلبك على رباطة الجأش (قلبك راقد، ورجليك شايلاك)، ولم تأبه للطعن في وجودك كإنسان، أو إخلاصك كمواطن، فنحن نضطر آسفين أن نبلغك أن الدولة التي تمتلك جهات الأرض، ستضيق عليك جهة السماء، فقد استقر رأي الشيخ (زكي شمعة) بالاتفاق مع القس (أبو لمعة)، بعد الاجتماع بجهات عليا – ليس من بينها السماء – على أن معارضتك وتمردك قد أورثا روحك آثامًا تستوجب الطرد من ملكوت الرب. وهكذا، ينتهي بك الحال إلى محو اسمك من سجلات التاريخ على يد موظف من الدرجة الثالثة، والتبرؤ منك وكأنك زجاجة خمر، فوجئ بها المصلون على المنبر، ولا تسلني عن (الوطنية) وموقفها منك؛ لأنها (الوطنية) صارت بنزينة تابعة للجيش.

 

  • ما للإنسان: ثمرة البرتقال، هل تكفي؟

تجلس بين يدي أمك في ليلة من ليالي الشتاء، تناولك برتقالة قامت بتقشيرها توًّا لأجلك، ولكنك بدلًا من أن تأكل الثمرة، تطلب إلى أمك أن تحتفظ بقشرة البرتقالة لأنها تمنحك الأمل! لا عجب حينها أن ترفع الست وجهها إلى السماء، طالبة من الله العوض في عن عقل ابنها الذي ذهب بلا عودة. لكن صديقنا “ميكيل”، الذي نسيناه في خضم شجارنا مع الدولة، في الجزء الأول من المقال؛ قد فعل شيئًا مُشابهًا، حينما حمل إليه الحارس «كوبًا من الشاي وثمرة من اليوسفي علقت في غصنها، ياللمعجزة، ورقة خضراء.

قشّرت برقة الثمرة لأعيد تكويرها من جديد، وعندما نزعت الثمرة، تأملت في الكرة الصفراء المنبعثة عن هذه الورقة الخضراء الغضّة التي احتفظت بها فيما بعد حتى يوم الرحيل، وغالبًا بطرقة غريبة غرابة ما تم هذا المساء، وقد منحتني النظرة المريحة إلى خضرة الورقة الحاملة رسالة العالم الحي إليّ نوعًا من الهدوء النفسي جعلني أخجل من نفسي، وحتى من هذه الكآبة التي لم أستطع إخفاءها».

هكذا تكون بعض الأفعال الإنسانية غير معقولة ومستغربة في أيامنا العادية، غير أنها قد تكتسب وجاهة في بعض الظروف الخاصة جدًا، بل ربما اكتسبت نوعًا من النُبل ولونًا من الشهادة. مثلًا، احتفاظ الفلسطينيين بمفاتيح بيوتهم التي رُحلوا عنها قسرًا، على أمل العودة إليها ذات يوم. هذه الأشياء قبضة من أثر الرسول، هي قميص يوسف يحمل رائحته بين يدي يعقوب الضرير، هكذا أنت أيها الأمل يا عملة معدنية صدئة من ذكريات الطفولة، لا سبيل لكي ننفقك، ولا شجاعة كي نلقيك.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد