صدم العراقيون بانتحار امرأة في الموصل الحدباء شنقًا ولأسباب مجهولة، وصدموا أكثر بشاب في المرحلة الرابعة كلية الإعلام /الجامعة العراقية، يدعى عبد الأمير، سكب على نفسه البنزين بعد الإمساك به متلبسًا بالغش في الامتحانات النهائية وأحرق نفسه داخل الحرم الجامعي في حزيران الماضي، وصدموا بشرطي في السليمانية أطلق على نفسه النار أثناء الواجب الرسمي في آب الماضي أمام مركز الشرطة الذي ينتسب إليه.
ولم يختلف الأمر كثيرًا مع أحد عناصر الأمن الكردي “الأسايش كان مسؤولًا عن إدارة كاميرات المراقبة في دائرة أسايش أربيل” حين أقدم على الانتحار بعد أن أطلق على نفسه النار من مسدسه الشخصي، بعد تفجيرات أربيل الأخيرة من دون معرفة الأسباب التي دفعته إلى ذلك، شاب عاطل عن العمل حاول الانتحار أمام مجلس محافظة ذي قار الأسبوع الماضي انتهى بإنقاذه وتوظيفه، عشرات الشباب يشنقون أنفسهم على شجرة بلوط تسمى بـ”شجرة الموت” على مشارف محافظة أربيل.
ومثلهم عشرات من الشباب العراقي المتحمس أو المخدر فكريًّا وجسديًّا يلفون أنفسهم بأحزمة ناسفة أو يقودون سيارات ملغومة ويفجرون أنفسهم ذاتيًّا أو عبر الريموت كونترول عن بعد في حال ترددهم عن تنفيذ العملية أو عطل أجهزة التفجير التي يحملونها بمواقع عسكرية ومدنية، في ظاهرة باتت هي الأخطر من نوعها في بلاد الرافدين التي يطلق عليها بعضهم تسمية “ما بين النارين” تهكمًا لكثرة ما ألم بها من مصائب وآلام، صاحبها انتحار العشرات من الرجال والنساء في عدد من محافظات الوسط والجنوب ولأسباب مختلفة وبطرق متعددة، وسط صمت حكومي وإعلامي مطبق مع غياب التوعية والإرشاد اللازمين لكبح جماح الظاهرة قبل استفحالها.
وتشير التقارير إلى أن إقليم كردستان يسجل أعلى نسب انتحار على مستوى العراق، وبالأخص بين النساء، وشددت على أن عدد النساء المنتحرات في الإقليم بلغ 400 امرأة في عام واحد تباينت طرق انتحارهن بين الشنق وتناول الحبوب المهدئة والأحراق في ظاهرة لم يشهد لها الإقليم مثيلًا من قبل، فيما نشرت مفوضية حقوق الأنسان تقريرا عن معدلات الانتحار في العراق تصدرت فيه محافظة ذي قار القائمة بـ 119 منتحرًا ومنتحرة مرتفعة بذلك عن معدلات سابقة بنسبة 60 بالمائة، وأضافت أن ”439 حالة انتحار مسجلة بشكل رسمي في العراق خلال عام واحد فقط أغلب ضحاياها من الشباب توزعت بواقع 119 في ذي قار و76 في ديالى و68 في نينوى و44 في بغداد و33 في البصرة و16 بالمثنى و15 في ميسان و12 في واسط، فيما تراوحت طرق الانتحار بين الشنق والغرق واستخدام السلاح الناري والحرق.
أسباب الظاهرة وخلفياتها
بعد انتحار بو عزيزي في تونس، استشرت ظاهرة الانتحار بين الشباب في العالمين العربي والإسلامي، في كل من مصر والجزائر والسودان وموريتانيا واليمن، بل وحتى العراق، فقبل أيام انتحر شرطي بعد أن قتل زميليه عن طريق المزاح بالأسلحة جنوبي العراق، وباستثناء بو عزيزي فإن انتحارًا واحدًا لم يحرك الشارع العربي، ولم يهز ضمائر حكامه، والحقيقة أن الدعوة إلى الانتحار لإحداث التغيير، دعوة كان قد أطلقها الفيلسوف الروماني سينيكا، حين قال (الموت الاختياري جدير بأفاضل الناس دون سواهم!).
وفي مدرسة هذا الفيلسوف المعتوه تخرج القيصر الروماني نيرون، الذي أحرق نصف روما احتفالًا بعيد ميلاده وهو يغني ويعزف على القيثارة، لينهي حياته انتحارًا بعد ذلك على خطى أستاذه – سينيكا- الذي انتحر بدوره أمام زوجته في مغطس الحمام بعد قطع شرايين اليد، ولما طال نزفه من دون أن يفارق الحياة أدخل رأسه في المغطس ومات اختناقًا.. شيخ الفلاسفة سقراط انتحر بدوره أمام طلابه عن طريق السم وهو يبشر بمحاسن الحياة!!
ويرجح مراقبون للشأن العراقي بأن ارتفاع معدلات الانتحار في الآونة الأخيرة يرجع في بعض إرهاصاته إلى جملة أسباب منها التفكك الأسري وغياب الروابط العائلية وارتفاع معدلات الطلاق الذي تجاوزت الـ200% إضافة إلى الإنترنت وما يبثه من برامج تشجع على الانتحار بل وبث عمليات انتحار موثقة بالفيديو أولًا بأول كذلك، فضلًا عن الأفلام السينمائية التي تشجع الشباب على العنف والقتل والمخدرات والانتحار، ناهيك عن البطالة والاكتئاب ومرض الفصام والقلق والخوف المرضي من المستقبل والشعور باليأس والإحباط وضعف الوازع الديني والعزوبية والعوز والفاقة وغيرها، مناشدين الحكومة بضرورة التدخل السريع مع تكثيف الجهود التي تصب في مصلحة التوجيه والإرشاد التربوي والنفسي في المدارس والجامعات ودور العبادة وتحسين الواقع الاجتماعي والاقتصادي للشباب.
ولا يفوتنا أن نؤكد على أن بعض الحالات التي تدون في ملفات الشرطة على أنها عمليات انتحار في المناطق الريفية وبالأخص تلك التي تذهب ضحيتها النساء الصغيرات في السن إنما هي في الحقيقة جرائم قتل متعمد مع سبق الإصرار والترصد، تأخذ صفة الانتحار لتعتيم الحقيقة على جرائم يطلق عليها اصطلاحًا “غسل العار”؛ حيث تقتل المرأة وتعلق في حبل المشنقة أو تجبر على إحراق نفسها أو القفز من أعلى الجسور في نهري دجلة أو الفرات مع أنها لا تجيد السباحة لتبدو الجريمة وكأنها انتحار بملء إرادة صاحبتها فيما هي ليست كذلك بالمرة.
عجائب الانتحار
– من عجائب الانتحار أن الكاتب الأمريكي ديك همفري يفخر بإصداره عام 1996 كتابًا بعنوان “المشهد الأخير” يشرح فيه أفضل الطرق للانتحار، حيث تصدر الكتاب قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في استفتاء صحيفة “نيويورك تايمز″ وقتئذ، ومن أشهر حوادث الانتحار الجماعي، ما كانت تقوم به فرق الكاميكاز اليابانية، في الحرب العالمية الثانية، وحادثة بوابة السماء، التي قادها الراهب إيل وايت، ومجزرة جونز تاون، التي ذهب ضحيتها 900 شخص، وقادها القس المعتوه والمصاب بالسرطان، جيمس جونز، ولا يفوتنا أن نذكر بأن العديد من الحركات الشبابية الغامضة باتت تشجع على الانتحار ومن أشهرها الرائيلية وهار كريشنا والأيمو والعلموية وجماعة كنيسة الشيطان وذلك عبر الإنترنيت، ووصل الأمر إلى تصوير حفلات الانتحار وبثها على اليوتيوب، فضلًا عن ظاهرة “الموت الرحيم” التي شاعت في أوروبا مؤخرًا لمساعدة مرضى السرطان على إنهاء حياتهم عن طريق العقاقير الطبية المميتة، ومن أشهر ضحاياها، زوجة المستشار الألماني السابق، هيلموت كول، ويعترف المدير الطبي الأسبق في الأمم المتحدة، مايكل أوبروين، بأنه ساعد خمسين مريضًا على الانتحار بأحد العقاقير القاتلة، ويفخر بأنه عضو مؤسس في منظمة الحق في الموت.
حرمة الانتحار
على الجميع أن يعلم بأن الانتحار عمل شائن تحرمه جميع الأديان، باستثناء بعض الديانات الوثنية، يقول الباري عزّ وجلّ في محكم التنزيل (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا) النساء 29، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًّا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا).
ويوصينا صلى الله عليه وسلم بأن لا يتمنى أحدنا الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا فليقل (اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرًا لي، وأمتني ما كانت الوفاة خيرًا لي) وإن الله تعالى يقول لمن ينهي حياته انتحارًا (بادرني عبدي فحرمت عليه الجنة) وعلى التربويين والباحثين النفسيين والاجتماعيين فضلًا عن وسائل الإعلام أن تأخذ دورها للتوعية والإرشاد والتحذير من مغبة الظاهرة التي استفحلت بشكل مخيف داخل مجتمعنا المحافظ.
أما بشأن العمليات الانتحارية التي تقتل وتصيب المئات من العراقيين يوميًّا، عبر السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة التي يرتديها انتحاريون شباب ليقوموا بعد ذلك بتفجير أنفسهم في مجالس العزاء والمدارس والمقاهي والأسواق الشعبية والملاعب الرياضية والمساجد، فقد أجمع فقهاؤنا ومن جميع المذاهب على عصمة الدم وحرمته، فضلًا عن تحريم الانتحار كما أسلفنا وحسبنا أن نسوق فتوى سابقة لمشيخة الأزهر نصها (لا يجوز لمسلم أن يلتف بحزام ناسف لتفجير نفسه ومن حوله لأن قتل نفسه حرام، فما بالك بقتل الآخرين من الأبرياء المدنيين الغافلين، فهذا يعد انتحارًا لا جهادًا).
مثال حي
سوادي مثال للشاب العراقي المثقف الذي يعيش البطالة بأبشع صورها: لا بيت.. لا سيارة.. لا زوجة.. لا أطفال.. لا عمل.. لا راتب شهري. برغم أنه يحمل شهادة البكالوريوس – الحقيقية- في الفلسفة من جامعة بغداد لذا قرر – سوادي- الانتحار على خطى بوعزيزي لعل انتحاره يكون بمثابة الحجر الذي يحرك مياه البركة العراقية الراكدة، عكف المجني عليه على قراءة الكتب ذات العلاقة وبدأ بكتاب (الانتحار الخطأ الذي لا يغتفر) لكولين ديلن ففوجئ بأن الأميين ينتحرون وقت الظهيرة فيما ينتحر المثقفون ليلًا!!
وثنى بكتاب (المنتحرون) لجان بيشلر فصعق بعدد المشاهير الذين انهوا حياتهم انتحارًا، لعل من أشهرهم كليوباترا وسقراط وهتلر وإرنست هيمنغواي والمشير عامر ومارلين مونرو وغيرهم الكثير!! وثلث بكتاب (المشهد الأخير) لديك همفري واطلع على أقصر الطرق وأسرعها للانتحار، وبعد أن أشبع نهمه قرر سوادي الانتحار بإطلاق الرصاص على رأسه المثقل بالهموم، وبالفعل ضغط الزناد – طرااااخ- فلم تنطلق الرصاصة لأن المسدس الروسي – الخردة- الذي استخدمه كان عبارة عن مجرد حديد مرقع لا يضر ولا ينفع تعاقد العراق على شراء مثيلاته بـ 4.500 مليار دولار من روسيا وجمهورية التشيك!!
عقد العزم على الانتحار شنقًا حتى الموت هذه المرة، ولكن الحبل الصيني الذي اشتراه من سوق الشورجة انقطع لأنه “إكسباير”!! فقرر الانتحار حرقًا وذهب إلى المحطة، اشترى 15 لترًا من البنزين وسكبها على جسده، أشعل عود الثقاب فلم يشتعل لأن البنزين العراقي الملوث برابع كلوريد الرصاص ممزوج بالماء من المحطة الرئيسة!! فكر سوادي بالانتحار غازيًّا هذه المرة، اشترى قنينة بـ 17 ألف دينار، أغلق النوافذ والأبواب، حشر أنفه الكبير في رأس القنينة إلا أنه لم يشعر بشيء لأن القنينة فارغة من المصدر!! اشترى سم الفئران وابتلع أكبر كمية ممكنة منه إلا أنه لم يصب بأذى لأنها منتهية الصلاحية!!
هنا وبعد أن وقع بصره على كتاب (دع القلق وأبدأ بالحياة) لكارنيجي الذي أنهى بدوره حياته انتحارًا أيضًا قرر العدول عن فكرة الانتحار التسلطية لأن الانتحار حرام، وانطلق من فوره إلى مطعم (السعادة) الشعبي القريب ليبدأ حياته بوجبة دسمة من الفول بالدهن الحر فخر صريعًا من فوره بعد اللقمة الثانية لأن الطعام الذي ازدرده كان ملوثًا بكل أنواع الملوثات الطبيعية والصناعية. مات سوادي وأصبح بطلًا قوميًّا فيما لم يكن يأبه إليه أحد قبيل وفاته، نصبت له السرادق، نحرت لموته الذبائح وشقت النسوة لفقده الجيوب ولطمت الخدود وناحت النوائح وصدق المثل العراقي الشعبي القائل (الحظ لو فان تلعب بيه الصبيان).
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست