“إن المملكة تحس بحالة عري كامل إزاء هذا الموقف الذي واجهته فالأسرة والدولة في حالة انكشاف وكلهم مصاب بحالة من الخوف والهلع وعاجز عن اتخاذ قرار” الامير بندر
هذا هو الجزء السابع من مقالي عن السياسة الخارجية السعودية أكمل الحديث عن علاقة السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية الحليف والحامي الأكبر للسعودية، وأكمل الحديث عن المحطة الثالثة وهي (حرب تحرير الكويت وتدمير العراق في آن واحد) وقبل أن أبدأ أُحب أن أسرد بعض الملاحظات:
إن البعض من الإخوة السعوديين قد أرسل لي غاضبًا متضجرًا مما أكتبه على موقع ساسة بوست عن السياسة السعودية والغريب أنهم جميعًا لا يجادلون في صحة المعلومات الواردة في سلسلة المقالات التي كتبتها ومازلت أواصل كتابتها ومنطقهم أن الوقت غير مناسب لذلك وأن هذا ليس وظيفة الكاتب الحقيقي أو صاحب الرأي الحقيقي.
ولعلي أقول أنني أختلف مع هؤلاء السادة لأن الكاتب الحقيقي أو صاحب الرأي الحقيقي في رأيي: هو من يقول رأيه في وقته وفي حينه وليس بعد انتهاء الأخطار، ولعل هؤلاء السادة يتحدثون عن (الكتبة وليس الكُتاب أو عن الكاتب بأجر معلوم! وليس صاحب الرأي).
ولعل الإخوة السعوديين هؤلاء يصدق عليهم ما قاله ذلك الأديب اليمني الأريب الذي هرب من أحد كهوف حُجة في عهد الإمام (حميد الدين) ليمثل أمام مؤتمر للأدباء العرب ووصل إلى القاهرة وهو في حالة يرثى لها من آثار الطريق ومشقته وسُئل الرجل عن نوع الأدب في اليمن، فأجاب الرجل نصف جوعان ونصف عطشان ونصف حائر ويكاد يسقط من التعب: “الأدب في اليمن.. الأدب في اليمن: في اليمن لا يوجد أدب ولكن هناك أدبان، أدب في مدح الإمام وأدب في رجاء عفوه وهذا كل شيء”. ولعل هذا ما يريده الإخوة في المملكة المديح والثناء على ولي النعم أو رجاء عفو خادم الحرمين من كلمة قيلت هنا أو رأي نشر هناك.
إن بعض الأصدقاء والأحباء سألوني عن سر رفع مقالي الماضي بعد أقل من ساعة على نشره من الصفحة الرئيسية؟ وأجيب بأنني حتى هذه اللحظة لم أعرف سببًا لذلك وأرجو من السائلين أن يتذكروا مثلي بيت الشعر القائل:
قد كان مما كان مما لستُ أذكره.. فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر
“إن الكل يجب أن يعرف أن الموقف خطير وأبواب جهنم يمكن أن تنفتح والأرض مليئة بالأشواك وعلينا أن نكون على حذر“. الملك فهد لوزير خارجيته سعود الفيصل
دق جرس التليفون بجوار سرير الملك فهد في الساعة الخامسة من فجر يوم الخميس 2 أغسطس 1990 ولم يكن هذا التليفون يدق في العادة ومعنى سماع صوته كان كفيلا بأن يوحي على الفور بحدوث أمر جلل.
ثم عرف الملك فهد بأن القوات العراقية دخلت إلى الكويت واستدعى الملك أحد مساعديه وطلب إليه أن يصله تليفونيا بالسفير (عبد العزيز السديري) سفير السعودية في الكويت (وهذه هي العادة في الأسر الحاكمة في شبه الجزيرة العربية والخليج فسفراؤهم إلى بعضهم من الأقارب وليسوا من الدبلوماسيين بطبيعة العلاقات والصلات التقليدية بين الحكام).
وبينما الملك ينتظر أن تصله المكالمة التي طلبها مع سفيره في الكويت راح يبدي عجبه مما سمعه ويسأل: (هل احتلوا الجزر أم البلد كلها؟).
وجاءته المكالمة ولم يكن السفير (السديري) على بينة من أية تفاصيل سوى أنه عرف: (ان القوات العراقية قريبة جدا من مدينة الكويت). ووضع الملك سماعة الهاتف وقال إنه: (زلزال وأنا لا أقدر على تجميع أفكاري).
ثم عاد وطلب سماعة الهاتف وطلب توصيله بالرئيس (صدام) في بغداد وبعد قليل دق جرس الهاتف وكان سكرتير الملك المكلف بالاتصالات يقول له إن مكتب الرئيس صدام معه على الخط لكن الرئيس العراقي نفسه ليس موجودا وطلب الملك أن يحول الخط إليه وقد اكتشف أن الطرف الآخر الموجود على خط بغداد هو السيد (أحمد حسين خضير) وهو أحد المستشارين المقربين من الرئيس (صدام) وسأله الملك: (أين الأخ صدام؟).
وجاءه الرد: (طال عمرك إنه الآن بعيد وسوف نبلغه بمكالمة جلالتكم ونطلب إليه الاتصال بكم على الفور).
ولم يكن الملك (فهد) قادرًا على الانتظار فطلب توصيله بالملك (حسين) وأيقظه بالفعل من نومه في الساعة الخامسة والربع وبادره بسوأله: (هل سمعت؟).
ورد عليه الملك (حسين): (سمعت بماذا؟).
وروى له الملك (فهد): (تفاصيل ما سمع عن دخول القوات العراقية إلى الكويت).
وكان الملك (حسين) مأخوذا بما سمع وقد شرد للحظة في تصوراته وأحس الملك (فهد) أن الملك (حسين) قد شرد عنه فعاد يُسائله في خطورة ما حدث.
وقال الملك (حسين): (أعطني فرصة حتى أستوعب).
ورد عليه الملك (فهد): (أن يحاول هو أي الملك حسين الاتصال بالرئيس صدام ليعرف منه الحكاية؟).
ورد الملك (حسين) على الملك (فهد): (الغالب فيما أظن أنها عملية محدودة وقد نستطيع تداركها وعلاجها فورًا وسوف أتصل بالأخ صدام وأعود إليك في ظرف دقائق). (1)
وبعدها تلقى الملك (فهد) اتصالا من سفيره في واشنطن الأمير(بندر) يسأله عن التعليمات؟
ورد الملك (فهد): (إن الجماعة عندك لابد لهم وأن يكونوا حازمين). (2)
وتلقى الملك بعد ذلك مكالمة من الأمير (سعود الفيصل) وزير الخارجية الذي كان متواجدًا في القاهرة وقتها لحضور اجتماع لوزراء الخارجية العرب يسأل هو الآخر عن التعليمات؟
ولكن الملك سأل بدلا من أن يُجيب سأل الملك: (عن الأحوال لدى الإخوان؟)
ورد الأمير سعود: (إن الكل في حالة ذهول). وعقب الملك بقوله: (خير إن شاء الله).
وبشكل ما فإن الملك فهد كان يريد أن يطمئن إلى أن العمل العراقي لم يُجر بالتشاور مع مصر والأردن ولا بمعرفتهما كشركاء للعراق في مجلس التعاون العربي.
وطلب الملك من وزير خارجيته: (أن ينسق الأمير سعود مع كل الإخوان الذين لابد لهم أن يعرفوا أن الموقف خطير وأن التنسيق يجب أن يكون كاملا مع المصريين والسوريين)، وأضاف: (إن الكل يجب أن يعرف أن الموقف خطير وأبواب جهنم يمكن أن تنفتح والأرض مليئة بالأشواك وعلينا أن نكون على حذر). (3)
الصورة في جدة؟
“إن الأمور كلها تحتاج إلى تفكير وتدبير هادئ” الملك فهد للأمراء الشباب.
وفي 3 أغسطس اتصل بندر بالملك (فهد) يستأذنه في القدوم إلى جدة ليشرح له بنفسه بعض الأمور الهامة وكان رد الفعل الأول لدى الملك (فهد) أن طلب من (بندر) أن يظل في واشنطن ليتابع الموقف من عنده ولكن بندر ألح قائلًا:
(إن الإخوان هنا يريدون أن يسمعوا منا). ورد عليه الملك (فهد): (المهم قبل أن يسمعوا منا أن يعرفوا ويدرسوا جيدا موقفهم). ثم وافق الملك في نهاية المكالمة على أن يترك سفيره موقعه ويأتي للرياض. (4)
لم يكن الأمير بندر مبالغا حين قال لمستشار الأمن القومي الأمريكي (سكروكوفت): “إن المملكة تحس بحالة عري، وإن الأسرة تشعر بالانكشاف الكامل”.
والواقع أن الصورة في جدة كانت تدعوا إلى إطالة النظر. فالملك وأشقاؤه من الأمراء الكبار في السن مازالوا يتذكرون عبر الماضي التي حاولت دائما مراعاة المظاهر والمحافظة على الشكل فقد حرصوا دائما على أن يكون هناك غطاء معقول للحقائق التي تفرض نفسها على المملكة والآن كان عليهم أن يواجهوا الخيار الصعب فالكويت راحت والسعودية قد تكون مهددة وإن كان معظمهم يستبعد أن يقدم (صدام حسين) على التدخل بالقوة، والمشكلة أنه قد لا يكون مضطرا لاستعمال القوة فمجرد احتلاله للكويت دون رادع سوف يجعل التعاون معه مهينا لكل القبائل والأسر الحاكمة في شبه الجزيرة العربية.
وإذن كان الملك وبقية الأمراء الكبار في السن يطلبون معادلة مستحيلة فهم يريدون: (عملية كبيرة لضرب صدام دون أن يتورطوا هم فيها علانية).
وكان رأي عدد من الأمراء الصغار في السن مختلفا وكان رأيهم: “إن الظروف تغيرت وإن المحاذير التي كانت تحكم تصرفات الأسرة فيما مضى لم يعد لها داع – بل واستشهد أحدهم بأن السادات وجد الجسارة ليذهب جهارا نهارا ومباشرة إلى القدس، وحكاية الحرص على المظاهر ومراعاة مشاعر الرأي العام العربي والإسلامي لم تعد واردة”.
والعنصر الوحيد الذي يستحق الاهتمام هو: “أمن الأسرة والمملكة. ولا يمكن أن تتعايش المملكة في شبه الجزيرة العربية مع (صدام حسين). وهكذا كان الأمراء الصغار في السن يرون طلب المساعدة من أمريكا وقبول كل ما تطلبه القيادة الأمريكية من قواعد وتسهيلات وليس هناك حل آخر”.
وطرح أحد الأمراء الشباب ضرورة وقف خط الأنابيب الذي يحمل بترول العراق إلى ميناء (ينبع) فلا يعقل أن يستمر العراق في تصدير البترول من الأراضي السعودية بعد كل ما حدث.
وتوجه عدد من الأمراء الشبان إلى مجلس الكبار يحملون أراءهم وكان الملك (فهد) مرهقا وقد رفض فكرة قطع خط الأنابيب العراق وقال: (إن الأمور كلها تحتاج إلى تفكير وتدبير هادئ). وكانت المناقشات حائرة تتخبط في الظلام وتنازعها الأهواء ما بين الكبار والشباب وفي ذلك الجو وصل (بندر) إلى أرض المملكة ليرى الصورة مأساوية. (5)
“حين يحقق الطيران الأمريكي سيطرة كاملة على الأجواء العراقية سيكون السكان العراقيون في قبضة تأثير نفسي مدمر”. الجنرال شوارتزكوبف لجيمس بيكر
صباح يوم 4 أغسطس كان الرئيس (جورج بوش) في كامب ديفيد وقد دعا كل كبار مستشاريه إلى الاجتماع به هناك وطلب أن يكون بينهم القادة العسكريون المكلفون بتنفيذ الخطة (1002 – 90) لأنه كما قال يريد أن يسمع منهم ويتحدث إليهم ويتعرف عليهم وجهًا لوجه وجلسوا جميعا على مائدة الاجتماع وبينهم (ريتشارد تشيني) وزير الدفاع.
و(برنت سكوكروفت) مستشار الأمن القومي و(جيمس بيكر) وزير الخارجية و(جون سنونو) رئيس هيئة مستشاري البيت الأبيض و(وليام وبستر) مدير وكالة المخابرات المركزية و(مارلين فيتزووتر) المتحدث الرسمي باسم الرئيس و(ريتشارد هاس) مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي وستة من القادة العسكريين يتقدمهم الجنرال (كولين باول) رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة الأمريكية و(نورمان شوارتزكوبف) قائد القيادة المركزية المكلف بتنفيذ الخطة رقم (1002 – 90).
وبدأ الرئيس (بوش) فعرض لتطور الأزمة بسرعة ثم خلص إلى أن العمل الأمريكي يجب أن يتحرك بأسرع ما يمكن لأنه بدأ يخشى من مظاهر تردد تقلقه في السعودية فالملك (فهد) كان متخوفا من الأساس وهناك حوله من يزيد هذا الإحساس وهو أي (بوش) مشغول الآن بثلاث عناصر يمكن أن تؤدي إلى مشاكل:
- الأول: أن يتم التأثير على الملك فهد ممن حوله بالإضافة إلى جهود يقوم بها الملك (حسين) وتجعل الملك السعودي يقبل بحل وسط.
- الثاني: إنني أثق أنه حتى إذا انسحب العراقيون من الكويت فإنهم سوف يتركونها بلدًا تابعًا، وسوف تنتقل عدوى التبعية منها إلى بقية دول الخليج.
- الثالث: كما أنه ليس هناك ضمان بألا يعود العراقيون إلى تكرار ما فعلوه في فرصة أخرى، وفي كل الأحوال فإن شبح التدخل سوف يظل قائمًا في المستقبل ومعنى ذلك أن ظل العراق سوف يبقى باستمرار مخيمًا على منطقة الخليج.
وتساءل (جيمس بيكر) عما: (إذا كانت ضربات جوية وصاروخية مركزة وموجهة من الحاملات في البحر الأحمر والخليج تستطيع أداء المهمة وتحطيم أهداف العراق الحيوية وإرغامه بالتالي على الانسحاب من الكويت بكل ما يعنيه ذلك من ضياع الهيبة والكرامة؟).
ورد الجنرال (كولين باول) بأن هذا: (الاقتراح بحث من قبل وتم استبعاده لأن الطيران وحده لا يستطيع أن يحقق الهزيمة الكاملة للعدو). وأيده في ذلك الجنرال (شوارتزكوبف) الذي قال: (إن القوة الجوية تستطيع أن تلعب دورا مؤثرا في الحرب مع العراق ولكنها لا تكفي وحدها لكسب الحرب) ثم راح الجنرال (شوارتزكوبف) يعدد المزايا المتوفرة لعمل القوات الجوية في معركة مع العراق وأحصى منها أربعة:
- إن الأجواء صالحة للطيران والرؤية يمكن أن تكون بعيدة.
- إن العراق ليس لديه خبرة بالحرب الجوية بما في ذك الدفاع الجوي لأن حربه مع إيران كانت بالدرجة الأولى حربا برية ولم يكن للطيران فيها دور يذكر.
- إن الولايات المتحدة تملك ذخائر متطورة تعطي للحرب الجوية فرصة لم تسنح من قبل.
- إن الحرب الجوية لها ميزة كبرى في التأثير النفسي على الجبهة الداخلية فحين يحقق الطيران الأمريكي سيطرة كاملة على الأجواء العراقية سيكون السكان العراقيون في قبضة تأثير نفسي مدمر. (6)
الغطاء من أجل تأمين الملك… الغطاء هو الحل!
“سيادة الرئيس: ألا يمكن أن يكون الملك السعودي في حاجة إلى غطاء آخر يؤمن ظهره وأجنابه؟“. جون سنونو للرئيس جورج بوش
ثم توقفت المناقشة أمام النقطة المحورية وهي ضرورة نزول قوات أمريكية في السعودية لتكون منها قاعدة صلبة ومفتوحة للعمليات. وعاد (بوش) يبدي استغرابه من أن الملك (فهد) لم يرد بالموافقة بعد.
ورد (تشيني): (بأنه يعول على جهود بندر مع الملك فهد). ورد (بوش) بقوله: (إنه في دهشة من أن يكون فهد حتى هذه اللحظة محتاجًا لمن يقنعه) ثم استطرد (بوش) وقال: (إن بندر كان يقول إن المملكة وجدت نفسها عارية بدون أي غطاء ونحن نوفر لهم أقوى غطاء يمكن تصوره ومع ذلك يترددون).
وفي تلك اللحظة قال (جون سنونو) رئيس هيئة مستشاري البيت الأبيض وهو من أصل لبناني ويفهم الطبيعة العربية: “سيادة الرئيس: ألا يمكن أن يكون الملك السعودي في حاجة إلى غطاء أخر يؤمن ظهره وأجنابه؟” وركز (بوش) نظره على (سنونو) ثم أكمل (سنونو) كلامه بأنه: (يظن أن الملك في حاجة إلى غطاء عربي أو إسلامي أو الاثنين معًا) ثم راح (سنونو) يزيد في شرح فكرته قائلا: (إن فهد قد يشعر بالحرج الشديد إذا طلب قوات أمريكية مسيحية لتحمي بلده العربي الإسلامي، وأما إذا ذهبت القوات الأمريكية في إطار أوسع يشارك فيه عرب ومسلمون فإن المسألة في هذه الحالة يمكن أن تكون مبلوعة).
وهنا التقط (بوش) الفكرة وأضاف إليها تحسينات من عنده وقال: (إنه سوف يعمل على توفير مثل هذا الغطاء العربي الإسلامي) ثم التفت إلى وزير دفاعه (تشيني) قائلا له: (إنني أرى أن تذهب أنت إلى السعودية وتأخذ معك شوارتزكوبف لتكون بنفسك هناك عندما يتم توفير الغطاء الملائم لفهد وحتى تقوم بدفعه أخيرة تحسم تردده.) (7)
كان تعليق الجنرال (باول) على اجتماع كامب ديفيد: (إن الرئيس الآن حدد لنفسه هدفين واضحين: فهو ذاهب بالقوات إلى السعودية – وهو ليس ذاهبا لمنع هجوم من العراق ولكن لهجوم على العراق). (8)
“أنا قادم على أي حال بأمر ورسالة من الرئيس ولا يستطيع أحد أن يرد مندوبا رئاسيا يمثل رئيس الولايات المتحدة“. ديك تشيني للأمير بندر
واتصل (تشيني) وهو لازال (بكامب ديفيد) بالأمير (بندر) في جدة يقول له: (إن الرئيس قرر أن آتي بنفسي إلى السعودية لمقابلة الملك ومعي أفكار طيبة قد يجدها مفيدة له) وعاد (بندر) يتصل بـ (تشيني) ليخبره بأن الملك ليس متحمسًا لزيارته لأن تلك الزيارة قد تثير الكثير من التساؤلات المحرجة للملك وللمملكة).
وكان رد (تشيني): “إنه قادم على أي حال بأمر ورسالة من الرئيس ولا يستطيع أحد أن يرد مندوبا رئاسيا يمثل رئيس الولايات المتحدة”. (9)
وفي يوم 6 أغسطس كان (تشيني) ينزل بطائرته إلى مطار جدة وخلفه الجنرال (شوارتزكوبف) وخلفهما (روبرت جيتس) نائب مدير وكالة المخابرات المركزية وأثناء الرحلة الطويلة من واشنطن إلى جدة تلقى تشيني رسالة من (جيمس بيكر) نقل إليه فيها مشروع قرار وافق عليه الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن وسوف يعرض على المجلس لإقراره وهو أي (بيكر) يؤكد أن القرار سوف يكون شرعيا قبل مقابلة (تشيني) مع (فهد) وسوف (يقوي يده) في الحديث مع الملك.
كان مشروع القرار الذي صدر بالفعل بعد ساعات من رسالة (بيكر) لـ (تشيني) برقم (661): (يفرض عقوبات اقتصادية كاملة وشاملة على العراق لم يسبق لها مثيل في تاريخ فرض العقوبات الدولية. فقد كان الخطير في ذلك القرار الذي صيغ وكأنه قميص حديدي محكم أنه يوقف صادرات البترول من العراق تماما، ولما كان البترول هو المورد الأساسي للعراق فقد كان معنى ذلك الخنق البطيء.
وهكذا ذهب (تشيني) إلى اجتماعه وجها لوجه مع الملك (فهد): (وهو مسلح بطريقة لا تسمح له إلا بأن يربح)، فماذا يريد الملك (فهد) أكثر مما يحمله (تشيني) معه؟
- التزام أمريكي عسكري كامل وحتى النهاية يضمنه الرئيس (بوش) شخصيا.
- وقفة حازمة من العالم كله تفرض على العراق عقوبات اقتصادية لم يسبق لها مثيل وسوف تبدأ تدريجيا في خنقه.
- ثم غطاء عربي إسلامي يحمي موقفه الديني باعتباره خادم الحرمين الشريفين!
وكان الأمير (بندر) في استقبال (تشيني) في المطار وقد سأله وزير الدفاع الأمريكي: (كيف حال الملك)؟ ورد (بندر) بقوله: (إنه يقوم باستطلاع رأي بعض الزعماء الدينيين حول مسألة مجيء قوات أمريكية إلى السعودية). (10)
وفي مساء يوم وصوله إلى جده كان (تشيني) وبقية الوفد منضمًا لهم السفير (فريمان) سفير أمريكا في السعودية (والذي تولى كتابة محضر الاجتماع). يدخلون القصر الصيفي للملك (فهد). وكان الملك ومعه عدد من الأمراء الكبار الذين يتولون مناصب سياسية كبرى في المملكة: الأمير (عبد الله) ولى العهد والأمير (سعود الفيصل) وزير الخارجية والأمير (سلطان) وزير الدفاع في استقبال الوفد الأمريكي وكان الأمير (بندر) هو الذي سيتولى الترجمة بنفسه بين الجانبين.
“سوف يكون أسلوبنا في التعامل معهم وفقا لما نقوله نحن العسكريون: (اقطع الرأس وسوف تجد الجسد لا يعمل)“. ديك تشيني للملك فهد
“وبدأ الملك (فهد) المقابلة بالحديث عن علاقته الشخصية بالرئيس (بوش) قائلا إنها ترجع إلى سنوات طويلة منذ كان الملك يشغل منصب وزير الداخلية لمدة 13 سنة، ثم تولى مسؤولية السياسة الخارجية للمملكة حينما أصبح وليا للعهد وكان (بوش) في هذه الفترة مندوبا دائما للولايات المتحدة في الأمم المتحدة أو مديرا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية سنة 1976 أو نائبا للرئيس بعد ذلك طول فترة رئاسة (رونالد ريجان) للولايات المتحدة لمدة ثماني سنوات وبهذه الخبرة الطويلة بـ (جورج بوش) فإن الملك (فهد) معجب بالرئيس الأمريكي وبمزاياه وأهمها الصدق فيما يقول ويفعل ثم سكت الملك (فهد) وعندها أدرك (تشيني) إن دوره قد حان ليتكلم”.
افتتح (تشيني) كلامه بقوله: “إن الولايات المتحدة تعتبر السعودية شريكا وصديقا رئيسيا لها وأنها وقفت بجانبها في كل الظروف وأخطرها الظرف الذي واجهته المملكة عندما تواجدت القوات المصرية في اليمن سنة 1962 وأحست المملكة بالتهديد وساندتها الولايات المتحدة بكل حزم .. ثم كانت بعد ذلك أزمة الحرب العراقية الإيرانية وما تعرضت له الملاحة بسببها في الخليج وكانت أساطيل الولايات المتحدة البحرية هي التي تصدت للمخاطر وكفلت حرية الملاحة في الخليج”.
ثم واصل (تشيني) عرضه للموقف والتطورات الأخيرة قائلا: “إن السعودية تتعرض الآن لأخطر تهديد في تاريخها ونحن بلد اعتاد أن يأخذ التزاماته بجد وإخلاص ولقد أرسلني الرئيس (بوش) إلى هنا لأعزز لكم ما ذكره أثناء أحاديثه التليفونية معكم ومؤداه أنه يضمن شخصيا الوفاء بضمانات الأمن الأمريكية المقدمة لكم.. ثم دخل (تشيني) إلى صميم الموضوع فقال: إن الرئيس (بوش) يقترح إستراتيجية على مستويين:
المستوى الأول: أن تتعاون أمريكا مع السعودية في الدفاع عن المملكة ضد أي هجوم محتمل.
والمستوى الثاني: هو العمل على خنق العراق بالوسائل الاقتصادية، والعقوبات الاقتصادية وحدها من وجهة نظر الرئيس (بوش) لن تكون كافية بأداء الغرض لكن تقديره أنه عندما يبدأ (صدام) بالشعور بالضغط فقد يجد مخرجه في شن هجوم على السعودية ولهذا فإن من المهم أن نكون مستعدين على المستويين مستوى الدفاع ومستوى الخنق”.
ثم قام (تشيني) بعد ذلك باستئذان الملك (فهد) في أن يترك الكلام للجنرال (شوارتزكوبف)، وراح بعده (شوارتزكوبف) يتحدث عن مسرح العمليات والخطة (1002 – 90) وكان طوال الوقت يحاول أن يبدو متوازنا في عرضه للأخطار المحدقة بالمملكة حتى لا يفهم الملك (فهد) بأنه يهدده أو يحاول تخويفه.
ورد الملك (فهد) على (شوارتزكوبف) بقوله: “كنا نعتقد أن (صدام) رجل صادق وقد قال لنا ولـ (حسني مبارك) إنه لن يهاجم الكويت وقد حدث العكس”. وأضاف الملك: “إننا الآن على بينة من نواياه وطالما أن الاستعداد كاف والقوة متوافرة فإننا في وضع يسمح لنا بدفع هذه العمليات العراقية وإنني لممتن أن هذا يحدث”.
وفهم الحاضرون ما تعنيه تلك الكلمات وكان من تصدى للرد على الملك هو الجنرال (شوارتزكوبف) قائلا: “إن قامة الجيش العراقي لا تصل إلى عشرة أقدام (يقصد أنها ليست عالية) لكن العراقيين خصم صلب مشكلتهم أنهم لا يتقنون الهجوم وضعفهم الرئيسي نظام قيادة مركزي أكثر من اللازم، وضباطهم لا يستطيعون الحركة إلا عندما يجيئهم الأمر وسوف يكون أسلوبنا في التعامل معهم وفقًا لما نقوله نحن العسكريون (اقطع الرأس وسوف تجد الجسد لا يعمل)”.
“إن علينا أن نعمل معا بصرف النظر عما يمكن أن يقوله الآخرون، فالكويت ظلت ساكتة حتى فات الوقت ولم تعد هناك كويت“. الملك فهد لديك تشيني
ثم انتقل (شوارتزكوبف) بعد ذلك للحديث عن القوات الأمريكية المخصصة للخطة (1002 – 90)، وسأله الأمير (عبد الله): (عن حجم الفرقة الواحدة في الجيش الأمريكي؟) ورد (شوارتزكوبف): (بأنها 18 ألفا) وكان معنى ذلك بحساب القوات المخصصة للخطة أن حجم الجيش المطلوب حشده وصل في شهور قليلة إلى 250 ألف جندي.
وفي نهاية كلام (تشيني) قال الملك (فهد): “يا معالي الوزير نحن موافقون على المبدأ، والله يساعدنا على أن نقوم بالعمل الذي يلزم”. وأضاف الملك: “المهم أن نحمي بلدنا بالتعاون مع الولايات المتحدة وقد فكرنا في دعوة بلاد عربية صديقة أخرى للاشتراك معنا ومعكم”.
ورد (تشيني): (إن هذه فكرة رائعة). وعقب الملك على ذلك بقوله: (إن بعضهم أصدقاء لكم ولنا). ثم استطرد الملك (فهد): (إن علينا ان نعمل معًا بصرف النظر عما يمكن أن يقوله الآخرون، فالكويت ظلت ساكتة حتى فات الوقت ولم تعد هناك كويت). وعلق الأمير (عبد الله) بقوله إنه: (لا تزال هناك كويت). ورد الملك (فهد) بسرعة: (ولكن أهلها مقيمون عندنا في فنادقنا).
ثم وجه الملك نظره إلى وزير الدفاع الأمريكي وقال له: (أنه كان يود لو استطاع معالي الوزير أن يرى حركة العمران في المملكة، فنحن أسرة سعود استلمنا هذا البلد وهو صحاري وقد صرفنا عليه بلايين الدولارات لنجعله دولة حقيقية ولا يعقل أن نبني دولة ونتركها لصدام حسين). وأكمل الملك قائلا: (لا أعرف لماذا احتل الكويت؟ نزعة العدوان والتسلط؟ وهو يظن أنه يعرف كل شيء). ثم قال الملك (لتشيني): (في الختام أقدم شكري إلى الرئيس وإلى نائب الرئيس وإلى كل الوزراء وإلى مجلسي الكونجرس وإليك شخصيًا، فإنك جئت إلى هنا بهدف واحد وهو هدف مساعدة المملكة وإنني أرجو أن تنتهي المشكلة في المنطقة بسرعة لكي آتي إليكم في الولايات المتحدة وأقدم الشكر للجميع بنفسي).
وقال (تشيني): (إنه بإذن الملك سوف يسافر في الصباح تاركا فريق عمل بعده في المملكة لكي يرتب إجراءات كثيرة من الضروري ترتيبها). وقال الملك إن هذا ضروري بالتأكيد، ثم أضاف الملك (فهد) نصيحة لـ (تشيني) قائلا: (كلما تحدثت أقل إلى وسائل الإعلام كان ذلك أفضل). وتولى الأمير (بندر) توضيح مغزى نصيحة الملك لـ (تشيني) قائلا له: إن لذلك سببين:
الأول: أن المملكة في حاجة لوقت ترتب فيه نفسها وأصدقاءها ووسائل إعلامها قبل أن تظهر نتائج الاتفاق إلى العالم. وكما أنه من المستحسن أن يكون الموقف العربي معدا لقبول النتائج التي أسفر عنها اجتماع (تشيني) مع الملك (فهد).
والثاني: أن الفرصة يجب أن تعطى للحشد الأمريكي لأن يتم في هدوء دون أن يتنبه (صدام حسين) فهو (ثعلب ماكر) وهناك فترة حرجة ستمتد أيامًا وهي فترة تكون فيها قوات الحشد ضئيلة في عددها وعدتها وقد يخطر في بال (صدام) أن يأخذ الكل على غرة، ويتحرك هو قبل أن يصل الحشد إلى درجة الخطورة عليه.
وانتهى اللقاء بمصافحة الملك للوفد الأمريكي وشد الملك (فهد) أثناء مصافحته لوزير الدفاع الأمريكي (تشيني) على يديه وقال له: (إنني شاكر لكم.. لن ننسى لكم معروفكم.. تأكد من ذلك). (11)
انتهت المساحة المخصصة للمقال ولكن القصة لم تنتهِ بعد، ولازالت الوثائق تبوح بأسرارها وتكشف المسكوت عنه وتفضح المخفي منه.
انتهى الجزء السابع
في الجزء القادم:
تفاصيل ما حدث في القمة العربية الطارئة التي دعا إليها مبارك عبر التلفاز؟
لماذا قال الرئيس الأمريكي جورج بوش: (انى رسمت خطا على الرمال؟)
- مذكرات الامير بندر
- محمد حسنين هيكل – حرب الخليج
- حرب الخليج – الملف السري – إريك لوران وبيار سالينجر
- محمد حسنين هيكل – حرب الخليج
- محضر الاجتماع مودع بالكونجرس تحت رقم (acd- 50023)
- مذكرات جون سنونو.
- مذكرات كولين باول 1.
- مذكرات ديك تشيني 1.
- تقرير تشيني محفوظات البيت الأبيض.
- مذكرات السفير فريمان.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست