فقد التلفزيون كوسيلة إعلامية اليوم سطوته، وتقطعت أوصالُ سياطه، وتلاشى سِحره، وما عاد قادرا على التحكم بالجمهور وتوجيهه كيفما شاء كما كان في السابق.
فالمتلقي قبل نحو خمسة عقود مضت يختلف كثيرا عن متلقي اليوم، الذي بات يتصف بالتمرد والتنمر وبمزاج صعبٌ إرضاؤه، والأسباب عدة، فأثير المعمورة أصبح زاخرا بآلاف الترددات الموجية لقنوات تلفازية استهلك مُعظمها كل ما يمكن أن يثير ويجذب المشاهد ويحوز على متابعته بشغف ولهفة.
كما أن الجمهور ـ في ستينات وسبعينات القرن المنصرم ـ كان بسيطا في مستوى تفكيره وطموحه، قنوعاً بما يقدم له لدرجة السذاجة في بعض الأحيان، حتى إن فئة كبيرة منه صدق ما قيل إن صحونًا فضائية غزت الأرض، وإن حربا كونية مع سكان المريخ ستندلع.
الإعلام استغل تعطش المدنية المعاصرة لاكتساب المعلومة، وتحصيل التقنية ليغزو العقول، ويمرر ما تمليه عليه ارتباطاته بشركات عالمية ومالية أو حتى أجندات حزبية جندت وسائل تواصل عدة؛ للحشد الجماهيري والتأثير على الرأي العام.
ولكن اليوم لم يعد الأمر هيناً، وما عاد الخبر الآني صاحب وقع في النفوس، حتى لو كان مُعدا على يد فريق صحفي استقصائي؛ فطبيعة الحياة المعقدة وغلبة المادية على الأجواء الروحانية للبيئة العامة للمجتمعات ولدت نوعاً من الاعتكاف الحسي وضمورٍ وتلبُد في المشاعر.
فخبر وفاة طاعن في السن قبل عشرين عاما كان له تأثير أكثر بكثير من خبر وفاة مائة في زلزال أو فيضانٍ أغرقَ عدة قرى تتداوله فضائيات اليوم.
تقلبُ مزاج المشاهد بشكل سلبي في الوقت الحاضر تتحمل مسئوليته وسائل الإعلام التي انهمك الكثير منها في استثمارات مالية وربحية، دون دراسة ومواكبة لطبيعة التطور الفكري والحضاري للجمهور، وعدمِ الأخذِ بنظر الاعتبار الإرهاق النفسي لدى المواطن بعد ساعات عملٍ شاق تستدعي الاستنفار لتقديم ما يجعل المتلقي يشعرُ بأنه يُمنح جائزة مقابل دوره كفرد فاعل في المجتمع.
هذا الأمر تسبب في اندثار العديد من القنوات، وإفلاس أخرى، فضلا عن كثير منها بات في طي النسيان، بالرغم من استمرار عملها، حتى إنه وبحسب استبيانات لمنظمات معنية، فإن فضائيات مختصة ببرامج الأطفال أصبحت تحوز على عدد مشاهدين أضعاف ما تحوزه قنوات كانت تعد حتى وقت قريب من أعمدة الأعلام ورموزه المؤسساتية.
القصور والافتقار في الرؤى والتجديد دفع بالعديد من القنوات لإنتاج نسخِ برامج عربية عن أخرى غربية، فضلا عن تلك التي يتم ترجمتها كما هي أو دبلجتها نطقاً، ليختفي عنصر الإبداع، وما ينسجم مع الحاجة لبرامج تنموية أو أخرى مستلهمة من الواقع والمحيط الاجتماعي، ما فتح باباً للغزو الفكري المستورد ليعمل عمله وينثر بذوره عبر تثقيفٍ دخيل، والذي لمسناه بشكل واضح من خلال سلوكيات وكلماتٍ وأزياءٍ لم تكن معروفة حتى وقت قريب ضمن أوساط مجتمعاتنا العربية المحافظة.
ما طرأ اليوم من تحول في الطبائع، تسبب في نفور الناس عن متابعة كل مضمون فيه لف ودوران، وإطالة وسرد، وإن كان جميلا، فوئدت القصة الطويلة في مهدها، واحتضر الفيلم ذو الجزئين، وتلاشت المسلسلات المتعددة الحلقات، وأعتلى الغبار المجلدات، وحكم بالموت على أي مقال ذي ألف كلمة أو يزيد، ظاهرة باتت تستوجب دق ناقوس الخطر، وتستلزم العمل بمثابرة لإعادة حلقة الوصل مع المتلقي الذي اختار الكثير منه النوم على الوسادة، بدلا من متابعة ما يشعر بأنه مفروض عليه دون رغبته.
والأخطر من هذا كله، أن التلفزيون الذي يُعد من الوسائط المتاحة للطبقات المتوسطة من المجتمعات قد دخل في طور الاحتضار والاندثار كما سبقتها وسائل أخرى من قبل، كالصحف والإذاعة؛ حيث استبدل جمهور واسع بمشاهدة التلفاز الخوض في غمار الشبكة العنكبوتية، لتغدو وسائل التواصل الاجتماعي فيه، وما تبيحه وتقدمه من خواص تفاعل مباشر تملكت المرء، وجعلته رهينة؛ بسبب أجواء الحرية في التعبير عن الرأي، عبر تغريدة هنا، ووجهة نظر يدونها هناك، فضلا عن مشاهدة مقاطع فيديوية، لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن تعرضها قنوات تلفزيونية؛ بسبب محاذير والتزاماتٍ وارتباطات قانونية إزاء شركات البث الفضائي.
قليلة جدا هي القنوات التلفزيونية التي أدركت ما بات يتهدد وجودها، فأسرعت بتكليف مختصين لغرض استحداث برامج تربط وتزاوج ما بين شاشة التلفاز، وبين نشاطات الجمهور على مواقع الانترنت، عِبر اقتناص منشور أو تغريدة ما تحوز على كمٍ كبير من التفاعل والمشاهدات.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست