في ظل التطرف الحاد والصراع الصفري في العراق بين القوى المسيطرة على الأرض والسلطة الشرعية وغير الشرعية لكل مكون من المكونات العراقية (السنة والشيعة والأكراد)، والتفكك الذي يعيشه كل من الدولة والجيش والمجتمع، وتحول القوة إلى القوى الاجتماعية غير الرسمية وانتشار المليشيات، يتساءل كثير من العراقيين، لماذا بقي العراق متصارعًا طوال هذه الفترة؟ ولماذا يُغذى الصراع بطابعه الطائفي والعرقي؟

خاصة مع وصول بعض الأطراف المتصارعة إلى أقصى درجات التطرف ورفض الآخر.

للإجابة على هذه التساؤلات، علينا العودة إلى فترة ما بعد 2003م حين بُني العراق الجديد وبشكل متعمد على أُسس خاطئة وغير واضحة؛ والتي فتحت أبوابه على مصراعيها للتنافس غير المشروع، واستخدام العنف والإرهاب السياسي والتدخلات الخارجية؛ لغياب السُبل الدستورية الواضحة في التنافس.

فقد سُنّت في العراق عملية سياسية عرجاء، وبمبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية، الذي يدفع باتجاه التفكير بمصالح ومشاريع فرعية، طائفية وعرقية ضيقة من قبل الأحزاب المصنفة في الأساس طائفيًّا وعرقيًّا في انتمائها. كما أن الدستور العراقي الجديد لعام 2005م قد حمل معه بنودًا متناقضة، تحتمل التفسير والتأويل، وقد نص على موضوع الفدرالية المثير للجدل بخصائصها المتناقضة والمرنة، وملامحها غير الواضحة دستوريًّا، والتي لم تطبق إلا جزئيًّا في كردستان العراق طوال فترة 12عامًا، فما سر ذلك؟!

إن التفسير المنطقي للحالة العراقية نجده من خلال النظر إلى الدول الفدرالية في العالم، والتي توصلت إلى الحل الفدرالي لإنقاذ نفسها من حالة الانتحار البطيء والصراع والتطرف. فقد كانت تعيش كما يعيش العراق هذه الأيام، وكان الصراع والتطرف العرقي فيها، الأقل فتكًا من الصراع الطائفي الذي يعيشه العراق اليوم، ولكن، بسياقه التاريخي والطبيعي، غير المصطنع والمبني على المصالح والقوة، مع جيوش خاصة بكل مكون من المكونات الاجتماعية، ومشروع إثني يبرز هويته الفرعية ويطالب بحقوقه الضائعة في ظل الصراع والتنافس على السلطة.

للفدرالية دورة حياة طبيعية عاشتها الدول حتى توصلت إليها، بعد أن تفككت مجتمعاتهم وتصارعت وتطرفت ورفضت العيش المشترك، تمامًا كالمجتمع العراقي. إن الطرح الأمريكي في بداية الاحتلال بإقامة فدرالية في العراق؛ دفعها باتجاه صناعة المعطيات والأرضية الخصبة لقبول فكرة الفدرالية وتطبيقها، بعد رفضها من قبل السنة والشيعة ونعتها بالتقسيم، ومن أنها لا تنسجم وتتوافق مع المجتمع العراقي غير المفكك وغير المتصارع آنذاك.

من هنا عمدت الولايات المتحدة إلى بناء العراق على تلك الأسس الخاطئة ودعم المشاريع الفرعية، وإدخال العراق رغمًا عنه بدورة الحياة الطبيعية للفدرالية، أي أن الولايات المتحدة بعدما وجدت أن واقع المجتمع العراقي لا ينسجم مع النظرية وفكرة الفدرالية، غيرت واقعه الاجتماعي وفككته عن طريق السماح للشيعة بالسيطرة على مفاصل الدولة، والمضي قدمًا بمشروع الطائفة وبثوب الدولة، ومنح الأكراد فدرالية بخصائص “كونفدرالية” وهذا الذي يدعم مشروعها القومي بإنشاء حلم الدولة الكردية القومي (كردستان الكبرى).

إضافة إلى تحميل السنة للتركة الثقيلة لمخلفات نظام البعث، ما جعل أسس الصراع والتطرف وواقع المجتمع العراقي تنسجم مع النظرية الفدرالية والحاجة إلى تطبيقها، فالفدرالية صيغة تُعيد تجميع المجتمعات بعد تفككها خوفًا من التقسيم والانفصال، هذا إذا أردنا المحافظة على الدولة من الضياع.

الفدرالية هي الحل السياسي العصري لإعادة تجميع المجتمعات المفككة، فهي بمثابة المادة الصمغية التي تعيد لصق ما فككته الطائفية، أما إذا انفصلت أجزاء العراق فلا يعاد تجميعها إلا بالطريقة الكونفدرالية (أي الانفصال ثم الاتحاد على شاكلة بريطانيا). لقد ضاعت على العراق فرصة ذهبية، عندما فشل السياسيون في تطبيق اللامركزية الإدارية في بداية الاحتلال تجنبًا للوصول إلى شروط ومعطيات الحل الفدرالي، أما اليوم، فإذا فشلوا في تطبيق الفدرالية وطرد “داعش”؛ فسنصل حتمًا إلى التقسيم وإنشاء الكونفدراليات المستقلة، ولن يعود العراق كما كان، إلا في ذاكرة التاريخ.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد