كان النظام النقدي العالمي يعتمد على قاعدة الذهب في تغطية العملات، وفي عملية التبادل النقدي، على الرغم من مروره بعملية إيقاف كما حصل في عام 1929م عندما حصل الكساد العظيم (أزمة اقتصادية عالمية استمرت لسنوات)، مما دفع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلى إلغاء تغطية الدولار بالذهب عام 1933م، ولكنَّه أعاد تغطية الدولار بالذهب عام 1934م مع تعديلٍ نسبي لسعر الدولار للتخلص من إرهاصات تلك الأزمة. استمر الأمر على ما هو عليه إلى حين حصول اتفاقية Bretton Woods.
بعد قيام الحرب العالمية الثانية وتدمير أوروبا بالكامل بسبب الحروب من ألمانيا النازية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد استغلت مسألة انهيار الاقتصاد الأوروبي من جراء آثار تلك الحرب الضروس وقد ساعدها في ذلك:-
– انهيار النظام النقدي الجديد بسبب نقص في الذهب والفضة والعملات، من جراء آثار الحرب العالمية الثانية.
– أوروبا كانت في ذلك الوقت بحاجة ماسة إلى من يدعمها عسكريًّا واقتصاديًّا من أجل إعادة إعمارها ومواجهة المد الشيوعي، الخطر الجديد الذي حل بدلًا من النازية.
– كانت المنتصر بتلك الحرب الحقيقي هي الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بسبب أن الحرب لم تحدث على الأراضي الأمريكية؛ إذ لم تتأثر الاخيرة بآثار تلك الحرب، بالعكس كانت الصناعة العسكرية والمدنية قد انتعشت بسبب توقف أسواق أوروبا من جراء العمليات العسكرية على أراضيها.
لذلك كان العم سام قد استغل الفرصة لهيمنته على العالم معتمدًا على ما ذكرناه أعلاه، بعقده معاهدة بريتون ودز في 20 يوليو (تموز) 1944 الذي أوجد نظامًا نقديًّا جديدًا حل محل النظام السابق لغطاء العملة، في الماضي كانت دول العالم تستخدم قاعدة الذهب المباشرة مرجعًا لغطاء عملتها، واستمرت العملات في ذلك الوقت باستخدام تلك القاعدة خلال فترة 1876- 1914 حتى عقد الاتفاقية المذكورة في غابات بريتون في نيوهاميشر بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد حضر المؤتمر عقد الاتفاقية ممثلون لأربع وأربعين دولة. وقد وضعوا الخطط من أجل استقرار النظام العالمي المالي وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب العالمية الثانية، وتم الاتفاق بأن يكون غطاء العملات الدولية هو الدولار الأمريكي، على أن يكون غطاء الأخير هو الذهب بقيمة 35 دولار يساوي أونس من الذهب مبدأ جديدًا في التعاملات النقدية العالمية.
بذلك خرجت الولايات المتحدة الأمريكية هي المنتصرة والمسيطرة على العالم عسكريًّا واقتصاديًّا، في حين يرى المناصرون للنظام الرأسمالي أن الاتفاقية هي التي قضت على الكثير من المشكلات، كالمضاربات، والتعويم للعملات، وثبتت أسعار العملات مرجعية ثابتة لها التي هي الدولار.
لكن إذا قرأنا ما بين السطور كباحثين في التاريخ الحديث وفي علم الاقتصاد أو في علم التأريخ الاقتصادي، نرى أن الولايات الأمريكية تعمدت هذا الأمر لتحقيق أهدافها الإستراتيجية، أهمها:-
– السيطرة الاقتصادية على العالم وإرغام العالم على استخدام الدولار غطاء مرجعيًّا، الذي يعد نصرًا جديدًا للعم سام؛ إذ لم نر في التاريخ أي دولة قوية استخدمت هذا النوع من الدهاء الاقتصادي في تطويق العالم اقتصاديًّا وجعله ما بين كماشة.
– محاولة من الولايات المتحدة تطويق الاتحاد السوفيتي الذي أصبح دولة عظمى مترامية الأطراف من اليابان شرقًا حتى برلين غربًا، ناهيك عن القوة العسكرية من مشاة الجيش الأحمر المرعب الذي جند لهزيمة النازية، أصبح الآن يشكل خطرًا على الغرب والرأسمالية، والأسوأ هو سيطرتهم على معلومات سرية لصناعة الأسلحة الفتاكة كالقوة النووية، ومعلومات عن أسلحة المانية متطورة أصبحت تحت يد السوفيت بعد اقترابهم من برلين. فكان لا بد من العم سام أن يسيطر اقتصاديًّا على النقد العالمي بهدف القضاء على هذه القوة العظمى الجديدة عن طريق التحكم العالمي بالاقتصاد.
– هذه القاعدة تؤدي في النهاية إلى خدمة الاقتصاد الأمريكي الرأسمالي؛ إذ بسببه سيدخل الدولار دول العالم كلها كالسيل، وبذلك تصبح عملة عالمية تعطي قوة وانتعاش للاقتصاد الأمريكي.
بذلك سيطر الدولار على العالم بتلك الاتفاقية وخرجت أمريكا هي المنتصرة عسكريًّا واقتصاديًّا ثم حصل ما لم يكن متوقعًا أو أقول كان متوقعًا!
إذ اندلعت حرب الفيتنام 1956-1975 فكانت حربًا خاسرة للعم سام، إذ خسرت الكثير من الأرواح والعتاد الأمر الذي اضطر حكومة واشنطون لطبع الكثير من العملات لتغطية نفقات الحرب، وقد يسأل سائل لم إذًا لم تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية بدل من هذه الخسارة؟ الإجابة هي أن من يقرأ تاريخ الحرب الباردة سيجد أن الأحداث كانت معقدة جدًّا ففي حالة انسحاب الولايات المتحدة سيكون ذلك بمثابة هزيمة الرأسمالية وانتصار الشيوعية في الفيتنام، الأمر الذي سيشجع الدول التي تسير في الفلك الأمريكي في الشرق الأقصى وغيره إلى إقامة أنظمة شيوعية مماثلة وخوض تجربة مشابهة لتجربة الفيتنامية، وهذا الأمر لم ترض به الولايات المتحدة بأي ثمن كان.
فبادرت إلى طباعة فوق المسموح به خلال السبعينيات من القرن الماضي فتخطى مخزونها من الذهب بسبب تلك الحرب لأن الذهب الموجود في الولايات المتحدة لم يعد كافيًا ليغطِّي الدولار الأمريكي، لم يعد بالإمكان طباعة المزيد من الدولارات لأنَّ الذهب الموجود لم يعد كافيًا لتغطيتها، وبالتالي تجاوزت الولايات المتّحدة الحد الأعلى المسموح من الدولارات المطبوعة، وطبعت دولارات غير مغطاة بالذهب دون أن تُعلِم أحدًا بذلك!
ولكن الأزمة الكبرى حصلت عندما طالب الرئيس الفرنسي تشارل ديجول عام 1971م بتحويل الدولارات الأمريكية الموجودة لدى البنك المركزي الفرنسي إلى ذهب (طالب بتحويل 191 مليون دولار إلى ما يقابلها من الذهب، وكان سعر الأونصة 35$)، عملًا باتفاقية Bretton Woods التي تسمح بذلك؛ أدَّى هذا الأمر إلى عجز الولايات المتّحدة لاحقًا عن تحويل أي دولارات أمريكية إلى الذهب، مما دفع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى إصدار بيان في عام 1973 يلغي فيه التزام الولايات المتّحدة بتحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب، عُرفت لاحقًا باسم Nixon Shock أو صدمة نيكسون.
انصدم العالم بالخدعة الأمريكية فبدلًا من أن يكون الأخير المخزون الذهبي الاقتصادي العالمي، بادر العم سام إلى استنفاده عن بكرة أبيه لخدمة حروبه التي لم يجن منها العالم لا ناقة ولا جملًا، تهدف إلى خدمة شهوات سيطرتها على العالم بسيطرة أقلية يهودية على الاقتصاد والإعلام والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، فأصبح الدولار حرًّا غير مقيد بالذهب وأصبح الأخير حرًّا أيضًا.
بذلك أصبحت المعاملات 100% ورقية، والعالم كله مرتبط بالدولار الأمريكي الذي وجد له بديلًا لقاعدة الذهب، وهو النفط الموجود في دول الخليج العربي خاصة السعودية، فموجبة عاد الأمريكيون ليثبتوا تسعير النفط بالدولار عبر اتفاقات مباشرة مع السعودية في عام 1974، قادها وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر تضمنت عمليًّا: ضمان استمرارية تسعير النفط بالدولار، واستخدم فوائض الدولار في الاقتصاد الأمريكي سواء عبر الاتفاقيات الاقتصادية مع الشركات الأمريكية لشراء السلع من تكنولوجيا وصناعات وأسلحة وغيرها، أو عبر إعادة تدوير فوائض البترودولار السعودية لتستخدم في السوق المالية الأمريكية وسندات الخزينة الحكومية.
بهذه الاتفاقات تغطي الولايات المتحدة طباعة دولارها بالهيمنة على تجارة النفط الدولية، وأيضًا باستهلاك فوائض النفط في الاقتصاد الأمريكي، وأصبح نمط العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة محددًا لدول مجلس التعاون الخليجي، وعموم دول أوبك الأخرى المنتجة للنفط نظرًا إلى الهيمنة الأمريكية على عوائد النفط السعودية، والوزن السعودي الأهم في منظمة أوبك.
بذلك ظهر مصطلح جديد يحكم تعاملات الدولار الذي هو «البترودولار»؛ إذ أصبح الأمريكان يمتلكون غطاء جديدًا للعملة بدلًا من الذهب بفضل البحيرات الهائلة من البترول في الخليج العربي والسعودية مقابل أن تحصل على الاخيرة على الدعم العسكري والتكنولوجي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. فأصبحت الاخيرة لا يكلفها إنتاج الدولار شيء سوا طابعة وحبر وأوراق لصك عملة الدولار! ما دام النفط موجودًا غطاء لهذه العملة.
انعكاسات تلك السياسة الجديدة هو أن ارتفع سعر النفط وأصبح يعرف بالسياسات الأمريكية «بالذهب الأسود»! وأصبحت الولايات المتحدة بفضل سيطرتها العسكرية والسياسية على العالم تتحكم بأسعار النفط حسب مزاجها، وأي دولة تقف أمام سياستها فإن الولايات المتحدة تحرك أساطيلها البحرية وطائراتها لتبيد تلك الدولة بحجة «الإرهاب أو تهديد للأمن القومي الأمريكي!» وغيرها فالدول اليوم تطبق السياسة الأمريكية مرغمة، وإن كاتن أسعار النفط ثؤثر في اقتصادها بسبب خوفها من العم سام وجبروته. فالعالم اليوم يزداد فقرًا كل يوم خاصة الدول النامية، بسبب سياسة الدولار الجديدة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست