لقد أظهرت متابعة السلوك الاستثماري للمستثمرين بكافة المجالات العالمية أن الغالبية العظمى منهم يتصرفون بعقلية القطيع، لا يقلدون، ولا يدرسون، يستمعون إلى نصائح الغير، دون أن يجهدوا أنفسهم في تحليل حركة السوق وتكوين وجهة نظر خاصة بهم، إلا أن تعظيم الربح في أي سوق يتطلب أخذ المبادرة والسبق في التوجه، فكلما كانت القرارات الاستثمارية الصائبة مبكرة زاد العائد على الاستثمار، فالتأخر في دخول السوق يقلل من الربح المحقق من العمليات نتيجة عدم الاستفادة من حركة الأسعار في اتجاه معين منذ بدايتها.
إن لعبة السوق بالنسبة لمجموع المشاركين به ما هو في النهاية إلا معادلة صفرية (zero sum game)، أي أن «مكسب زيد هو خسارة عبيد»، فربح أحد الأطراف ما هو إلا خسارة للطرف الآخر، ودائمًا ما نجد أن الغالبية العظمى للمتعاملين بالأسواق يخسرون بصفة مستمرة لصالح أقلية صغيرة تقوم بجني الأرباح فعملية توزيع الأرباح والخسائر تتم دائمًا وأبدًا على هذا المنوال، فسنة الحياة في دنيا المال والتجارة والاستثمار هي «قليلون يربحون وكثيرون يخسرون».
يقول الفيلسوف الفرنسي «جان جاك روسو»: «اتبع الطريق المعاكس للمألوف وستكون النتيجة جيدة في معظم الأحيان»، وهو قول ينطبق كثيرًا على المعاملات المالية في الأسواق المحتلفة والرأي المخالف هو نوع من أنواع التحليل النفسي للحشود الكبيرة من الناس، ويمكن تعريفه بأنه: «رأي استثماري معاكس لآراء الغالبية العظمى للمستثمرين والمضاربين بسوق معينة»، ويرجع السبب وراء نشأة هذا الرأي أصلًا إلى وجود غالبية كبيرة جدًا تعتقد تمامًا في وجوب تحرك الأسعار في اتجاه معين صعودًا او هبوطًا.
يُستخدم الرأي المخالف كمقياس لقوي الشراء والبيع بالأسواق ويتم ذلك بمتابعة توصيات عدد كبير من بيوت الاستشارات المالية للحكم على ثيرانية (bullishness) أو دببية (bearishness) التوجهات بالسوق بحيث يتم إعطاء قيم معينة لتوصيات الخبراء طبقًا لعدد عملاء كل بيت من بيوت المال والذين يفترض أنهم يتصرفون بناء على التوصيات التي يتلقونها، وعندما تُظهر استطلاعات الرأي أن هناك ميلًا شديدًا واقتناعًا عاليًا من قبل الأكثرية باتجاه الأسعار ناحية معينة، وتصل قراءة مؤشر الرأي المخالف إلى حدوده العليا مثلًا، فإن ذلك يعد دليلًا على وصول أو قرب وصول الأسعار إلى القمة، والعكس صحيح إذا كان المؤشر متدنيًا للغاية. فخلاصة القول هو أنه كلما كان الاتفاق شبه تام بين المتعاملين في أي سوق نشيط على حدوث شيء ما للأسعار كان ذلك دليلًا وسببًا في نفس الوقت لعدم تحقق هذا الشيء بالأسواق! فغالبية المتعاملين يخطئون دائمًا عند نقاط وفي أوقات تحول اتجاه الأسعار من أعلى إلى أدنى أو من أدنى إلى أعلى، فمن الملاحظ أن الكثيرين يتحمسون جدًا للشراء قرب قمم الأسعار كما يرغبون بشدة في البيع عند قواعد الاسعار فالناس عمومًا ينتابهم في تعاملاتهم المالية، إما الإحساس بالخوف الشديد، أو الجشع المتزايد.
إذًا فالرأي المخالف ليس رفضًا لرأي الأغلبية لمجرد الرفض والاختلاف من أجل الاختلاف كما قد يتهيأ للبعض، بل هو منهج مبني على طريقة إحصائية دقيقة يتم بها قياس آراء ورؤى شريحة كبيرة من المشتركين بالأسواق المالية ولا شك أن الرأي المخالف من أهم المؤشرات القائدة والرائدة؛ لأنه يلفت النظر في وقت مبكر جدًا، وقبل تحرك السعر في الاتجاه المعاكس بكثير إلى قرب وصوله إلى منتهاه، وهو ما يميزه عن الكثير من المؤشرات الفنية الأخرى.
وفي آخر المقال أحب أن أنوه إلى أن الاستقلال في الرأي يعتبر من المتطلبات الأساسية لتحقيق النجاح الاستثماري المنشود، وهو ما لا يتوافر بكثرة عند جمهور المتعاملين بالأسواق فهناك مقولة ثاقبة الفكر يتناقلها المحترفون بالسوق تفيد بأنه إذا كان القرار سهلًا فإنه غالبًا ما يكون خاطئًا وهو ما يبرز الصعوبة التي يجدها الكثير من المتعاملين في اتخاذ قرارات معاكسة للرأي السائد للغالبية؛ لأن ذلك يتطلب توافر قسط كبير من الاستقلال في الرأي والشجاعة في تنفيذ قرارات الشراء والبيع.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست