كأنَّهم يعرفون من يقتلون، يقتلون حَملة الراية صفر؛ أولئك الذين ينتفضون دون انتفاضة، يطلقون الشرارة ويحافظون على استمرار لهيبها، يرى الناس نور اللهيب بدأ يشق غيوم الظلام فيهرعوا نحوه ويعلنوا الانتفاضة، وحين يقتلون يخفت النور ويتلاشى دفء اللهيب يشعر الناس بعدم الأمان، فينسحبون ببطء ليتم الإعلان عن نهاية الانتفاضة وتلاشيها.
هذا الموضوع الذي سنتناوله على ثلاثة أجزاء يتناول دور وتأثير العتبات المقدسة لدى الأفراد في اندلاع الاحتجاجات والانتفاضات وهندسة الاغتيالات من خلال نموذج من نماذج علوم البيانات.
فهل فكرت يومًا لماذا لا تندلع انتفاضة في بلد ما على الرغم من إن غالبية السكان متفقين على فساد الطبقة الحاكمة ويعبرون يوميًا عن سخطهم؟ ولكن لا يحصل التجمع والإعلان عنها!
وكيف تندلع فجأة احتجاجات ما وتتحول إلى انتفاضة وبعد فترة تتلاشى وتخمد ولا يمكن ارجاع الجموع الكبيرة كما بدأت في البداية؟
ولماذا يتم اغتيال ناشطين معينين من قبل السلطة الحاكمة وربما قد يكونوا غير معروفين على نطاق واسع في البلد ولا يتم اغتيال آخرين معروفين، ولهم ثقلهم السياسي والاجتماعي، وكذلك مدى شدة معارضتهم للسلطة الحاكمة؟
رغم إن هذا الموضوع قد يبدو معقدًا ويعتمد على الكثير من العوامل والأمور المتداخلة، لكننا اليوم سنحاول توضيح أحد الأسباب التي تؤثر على ذلك ونحاول أن نأخذ العراق كمثال من خلال إيضاح دور المقدسات من العتبات في اندلاع الاحتجاجات وهندسة الاغتيالات!
لذلك سنقسم هذا الموضوع على ثلاث أجزاء التزامًا بسياسية النشر للنصوص الطويلة واشجعك على اكمال الأجزاء الثلاثة كي تصل الفكرة لك عزيزي القارئ بصورة كاملة، وإن شعرت أنك فهمت فكرة الموضوع من أول جزء أو في الثاني منه وتريد الاكتفاء به فأؤكد لك أن الصورة الكاملة لم تصلك فلا تردد بإكمال ما بدأت بقراءته وآمل أن تكون قراءة ممتعة.
محمد، وإحسان، وسمير، وعدنان، وآدم، وإبراهيم، وعبد الكريم، من فضلك عُد لقراءة الأسماء واحفظها جيدًا! هل رجعت مرة أخرى؟ أخبرني بأسمائهم الآن؟ هم سبعة شباب خريجين من الجامعات العراقية المختلفة التي تمتاز بجودة تعليمها ومخرجاتها التي تواكب سوق العمل! ويدعون الاستقلالية السياسية والدينية والفكرية عما هو سائد في نظام حكم هذا البلد، ولا يخلو تجمعهم وحديثهم عن أحداث البلد ومناقشتها والتذمر من الوضع فيه وطرح الحلول المختلفة لتغييره.
واحد منهم يعمل كمحاضر مجاني على وزارة التربية والآخر كمحاضر بأجر على الساعة في إحدى الجامعات والباقين ما بين عاطل نهائيًا عن العمل وما بين من يحصل بين الحين والآخر على فرصة للخروج للعمل بصفة عامل بناء أو غيرها من الاعمال غير المستمرة.
وغالبًا ما يحصل تجمعهم في إحدى المقاهي الشبابية ويفضلون الجلوس في الحديقة الخارجية للمقهى لأن بعضهم يفضل المكان المفتوح!
وبين الحين والآخر يحاولون الاتفاق في إحدى العطل الرسمية أو عطل نهاية الأسبوع على أن يذهبوا في نزهة إلى إحدى المعالم التاريخية الموجودة في مدينتهم التي يسكنون بها أو يغادرون إلى محافظة أخرى من أجل كسر الروتين أو الترفيه بعض الشيء عن أنفسهم المليئة بالإحباط بسبب الوضع المزي الذي يعيشه البلد.
المشكلة التي غالبًا ما تحصل عندما يحاولون الاتفاق للذهاب برحلة خارج المدينة والتي هي من مبادرة آدم، إحسان يكون غير مقتنع بالمدينة التي يريدون الذهاب لها أو إن التوقيت غير مناسب برأيه وعدنان لا يحب الخروج للسفر والانتقال لمدينة أخرى وغالبًا ما يختلق عذرًا بأن في منزلهم أمر ضروري يتوجب بقاؤه حتى يبدأ الجميع بالتوسل إليه لكي يقنعوه ثم يوافق، وعبد الكريم يقول أنا لا أسافر إلا بسفرنا جميعًا، ومحمد وإبراهيم يقولان لعبد الكريم ماذا دهاك يا رجل (شبيك ولك بالعراقي) إذا كان إحسان وعدنان لا يردان الذهاب فلا بأس فنحن الباقين نكون خمسة وهذه مجموعة مميزة للخروج والاستمتاع بالوقت وإذا لم تذهب معنا يا عبد الكريم فسوف لا نذهب ولا نحرك ساكنًا! فينظر سمير إليهم جميعًا بغضب ويقول هكذا أنتم لا تتفقون على أبسط الأمور وتريدون الحكومة والأحزاب أن تتفق على بناء البلد أذهبوا للجحيم، بالعراقي «طز بيكم» فأنا مستعد للذهاب في رحلة إذا كان فقط واحدٌ منا سيذهب فإني أذهب معه وبما إن آدم الذي طرح الفكرة فبالتأكيد سيكون موافقًا، فما رأيك يا آدم؟
فيرد آدم بالتأكيد موافق، وحتى وإن غيرت رأيك يا سمير فسوف أذهب وحدي وأكسر الروتين، وسأجد أناس جدد أتعرف عليهم وأقضي وقتًا ممتعًا، وأنتم ابقوا هنا ولتذهبوا إلى الجحيم، يقصدك بكلامه بالعراقي «طز بيكم كلكم شلع قلع»!
وفي إحدى جلساتهم المعتادة طرح آدم فكرة لجمع تبرعات منهم ومن الناس ليقوموا بحملة معينة لمساعدة فئة من المجتمع وتقديم أشياء ضرورية لهم، وعندما أكمل طرحه لأصحابه قال له عدنان هل أنت مغفل، بالعراقي «شبيك خبل أنت؟» كيف ستقنع الناس بإعطائك المال الناس لا تحب التبرع في هذه الأيام فالناس تغيرت، ويقول له إحسان الفكرة جميلة وراقية، ولكن كيف ستثق الناس فيك لتعطيك الأموال حتى تنفقها على فكرة الحملة لذلك أتوقع إنها سوف لا تنجح لأنه مثلما تعرف بعض ممن خرجوا في المجتمع لجمع التبرعات بعد فترة تم اكتشافهم إنهم نصابون، فأصبحت الناس لا تثق بمثل هذه الأمور وهذا من حقها، فيرد آدم وأنتم الباقين؟ يا شباب هيا اخرجوا من جيوبكم حتى وإن كان مبلغًا قليلًا كألف دينار (أقل من دولار أمريكي واحد ويساوي تقريبًا 90 سنتًا) فعندما يعطي الكثير من الأفراد مثل هذا المبلغ سوف يكون لدينا مبلغ كبير يمكن إفادة الناس به الذين تستهدفهم حملتنا، ولتكن البداية منكم.
ما بكم تتجاهلون الأمر بالصمت والاعذار؟ وأنت يا سمير انت الذي تقتنع عندما تجد على الأقل شخص واحد يتفق معك فتبادر لتأييده والمضي معه، لماذا اليوم لا تعطيني كي تكون أول شخص يتبرع لحملتي؟ فيقول له سمير صراحة إني غير مقتنع اليوم لأني سوف أجد أنا وأنت فقط من نجمع المال والناس بعدها لا تعطيك، وسوف ترجع لي مبلغي ويذهب تعبك هباءً، ولكن ما دمت مُصرًا فمن أجلك سأتبرع، فرد عليه آدم إذًا لا حاجة لي بتبرعك ما دمت غير مؤمنًا بالخطوة وإعطاؤك لي كأنه مجرد إسقاط فرض أو مجاملةً لذلك سوف اذهب للناس لعلهم يتبرعون ويكونون أحسن منكم.. فقال محمد لآدم: انظر إذا أعطاك أربعة من الأشخاص سوف أعطيك أنا ضعفهم، لكني أعلم لا أحد سوف يعطيك.
وبعد عدة أيام عاد لهم آدم وقال لمحمد لقد صدقت لا أحد من الناس أعطاني والكثير منهم كان يرفض، ولكن بطريقة غير مباشرة مثلك بحيث يقولون لي اذهب واجمع من الباقين وعندما يعطونك تعال لنا وسوف نعطيك وبالمحصلة لا أحد قد اعطاني فلسًا واحدًا وتخليت عن الفكرة لأن من الصعب إقناع الناس.
فقال إحسان يكفي شرف المحاولة.
وفي أحد الأيام آتى إبراهيم لتجمعهم في المقهى متأخرًا ووجدهم يتجادلون ويصرخ بعضهم على بعض ويلوم بعضهم بعض، فقال لهم ما بكم؟ صراخكم قد ملأ المقهى بأكمله؟
فأجابه إحسان أن أحد الأشخاص مر على طاولتنا وسرق نظارة ومحفظة عدنان وقد هرب ولم نستطع لحاقه، فرد عليه سمير ليس الأمر بأننا لم نستطع لحاقه! بل بقي كل واحد منا يقول للآخر اركض ورائه حتى قمت أنا متأخرًا، وقد خرج وابتعد عن باب حديقة المقهى وركضي وراءه لا يجدي نفعًا فتركته، ولو قام آدم بالركض وراءه بسرعة لقمت وركضت أنا أيضًا، ولكنا قد أمسكناه لأني في الكثير من المرات أشعر بالبرود، وربما العجز للقيام بالشيء وحدي إلا إذا رأيت أحدًا يبادر قبلي فيحفزني للأمر، خصوصًا إذا كنت مقتنعًا بما أفعل فمباشرة أتبعه.
فقال إبراهيم تبًا لنا غالبًا ما نفعل هكذا ويبقى كل شخص يرمي اللوم على الآخر دون أن يعمل الشيء من تلقاء نفسه.
فقال عدنان لا داعي للقلق وانهوا القضية ما سُرق لا يستحق كل هذا الصخب ولننسى الأمر.
فقال آدم ما بك يا إبراهيم؟ أنت غالبًا ما تماطل ولا تبادر من تلقاء نفسك واليوم تلومنا وأصبحت كأنك البطل الذي لا يتردد لحظة في المبادرة والسعي نحو اتفاقنا!
فرد إبراهيم غاضبًا يا أحمقان (آدم وعدنان) القضية ليست قضية كم كان مقدار النقود في المحفظة وكم كان سعر النظارة، وليس الأمر أنكم غير معتادين عليّ بأني لا أبادر من تلقاء نفسي، بل إن الأمر كيف لكم أن سكتم وانشغلتم عن قضية سرقة وجعلتم السارق يهرب بهذا السهولة والتهيتم برمي مسؤولية كل فرد منكم على الاخر ولو قام على الأقل أحد منكم اثناء سرقة المحفظة لكان من السهل عليه لحاقه ومناداة الناس التي في الشارع لتساعده على إمساكه، وهذا السارق سيتمادى مستقبلًا لأنه عرف أنكم ستلهون ولا تقومون بردعه وقتها وبعد فترة تلومون بعضكم البعض وتسنون الأمر وهذا ليست قضية على من يوافق للخروج على نزهة بل قضية أهم وتضيعها بهذا التنصل يأتي بنتائج عكسية علينا مستقبلًا.
الآن خذ نفسًا عزيزي القارئ الكريم وكن صبورًا، وإني أعرف أنك قلت في نفسك، وأصبحت تظن أنني أخرجتك عن الموضوع، وأني أطلت السرد.
فدعنا قليلًا نبتعد عن هذه الحالات الثلاث وغيرها الكثير من الحالات الأخرى التي قد تكون بنفس الجوهر مع اختلاف الحدث ولنحاول العودة لموضوعنا الأساسي هو تأثير المقدسات من العتبات في اندلاع الاحتجاجات، وهندسة الاغتيالات، وأريدك أن تركز على كلمة العتبات، ومن بعد ذلك نربطها مع الحالات الثلاث للشباب السبعة، وأيضًا نربطها لاحقًا بأمر آخر، ولكن قبل ذلك هل تستطيع تذكر أسماء الشباب السبعة؟ أخبرني بأسمائهم مرة أخرى؟
ولكي نعود لموضوعنا الأساسي يجب عليك إكمال الجزء الثاني.. يتبع.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست