أصدرت هيئة الكتاب وتحت مشروع مكتبة الأسرة طبعة جديدة من كتاب “المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية” للكاتبة والروائية المصرية أروى صالح، والتي شاركت في الحركة الطلابية في بداية السبعينيات وخاصة قبيل حرب 1973 والتي دعت الرئيس الراحل محمد أنور السادات إلى اتخاذ خطوات تصعيدية بدلا من حالة اللا حرب واللا سلم مع إسرائيل التي كانت تسود هذه المرحلة من تاريخ مصر. وفي هذا الكتاب تسطر أروى رؤيتها لنفسها والتي تعكس أيضا رؤيتها لجيلها وللمجتمع المصري في الفترة منذ ما بعد منتصف الستينيات وحتى قبيل انتحارها، حيث ألقت الكاتبة بنفسها من الدور العاشر في 7 يونيو 1997 أي بعد يومين فقط من حلول الذكرى الثلاثين لنكسة يونيو.

وفي هذا الكتاب صغير الحجم وضخم التأثير، تقف أروى أمام المرآة لترى وتحلل وتنتقد نفسها والحركة الشيوعية في مصر والمثقف البرجوازي المصري وأيضا المجتمع المصري في واحدة من أحرج مراحله على مر التاريخ الحديث، وهي نفسها تدمج بين الخاص والعام حينما تقول: “مشاكل علاقتي بالشيوعية هي نفسها مشاكل علاقتي بالحياة” وهي تتحدث في هذا الكتاب بجرأة لم تسبقها فيها امرأة مصرية من قبل.

هذا الكتاب ليس جلدا للذات وبالتأكيد ليس رثاء لها فلقد احتقرت أروى في كتابها رثاء الذات خاصة الطافح من المثقفين البرجوازيين المصريين ولكن هذا الكتاب يعتبر نقدًا للذات أو هو وقفة على المنحدر (استلهامًا لعنوان أحد كتب علاء الديب) قبل السقوط الجماعي في الهوة السحيقة بلا رجعة. وربما يكون سبب انتحار أروى هو عدم استعدادها لأن تكون نعجة من ضمن قطيع الخراف الذي سيسقط لا محالة في الهوة فقررت السقوط منفردة من الطابق العاشر وبمحض إرادتها.

وفكرة تأمل الذات هي خاصية أنثوية أكثر منها ذكورية فالمرأة منذ طفولتها وهي تتأمل ذاتها كما تشير لوسي إيريجاري؛ في البداية تتأمل الذات التي تعتبر شخصيتها انعكاسا لها ككل الأطفال وهي الأم هنا وبعد ذلك تتأمل دميتها التي تعكس عليها شخصيتها وهي الشخصية التي انعسكت عن أمها وبالتالي تصبح الدمية انعكاسا لانعكاس الأم، ثم تحتل المرآة بعد ذلك دورا محوريّا في تأمل الذات ونقدها وفي حالة أروى صالح تصبح الكتابة بديلا للمرآة فالكتابة هي ملجأها للبعد عن العالم الذي تعودت المرأة – للآسف- وبسبب تسلط الرجل الهروب منه إلى عالمها الخاص/ المرآة.

ربما يكون أكثر جزء متميز في كتاب أروى صالح “المبتسرون” هو الجزء الذي توجه فيه النقد إلى الرجل البرجوازي المثقف، وهو ما يمثل في مجتمعنا الصفوة وهو نقد يتوازى مع نقد الفلسفة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين للرجل الأبيض الغربي، وهو نقد تأثر وأثر في الحركات والفلسفات النسوية المختلفة حول العالم. فأروى تؤكد أن الرجل المثقف البرجوازي (المبتسر أي غير الناضج) لم يختلف عن نموذج الرجل المصري المعتاد فهو أناني ومحافظ ولا يريد شيئا من المرأة سوى إشباع رغبته ثم تركها فهو لا يعرف شيئا ولا يفقه شيئا عن الحب، ونستطيع أن نلتمس من نقد أروى اللاذع للرجل أنها لدغت من رجل ينتمي إلى تقاطع هذه الدوائر الثلاث فمثلما تقول الكاتبة إيريس ميردوخ: “العشاق التعساء يسعون دائما إلى حكي تجربتهم” حتى ولو بالرمز وبالنقد التجريدي مثلما قامت أروى.

ونقد أروى هذا للرجل يعتبر انعكاسا أو بديلا للبرود الجنسي الذي ينتج عن التجربة الأليمة مع الرجل الذي يريد السيطرة على المرأة، وذلك حينما تكون المرأة واعية ورافضة لسيطرته عليها. فكثيرا ما يعتقد الرجل المصري أن البرود الجنسي الذي يلاقيه من شريكته هو مجرد “دلع” أو تسلية أو حتى مرض أو سحر أو نقمة من الله، ولكنه لا يفقه أن هذا البرود والجفاء هو موقف إرادي تتخذه المرأة كرد فعل عليه وعلى المجتمع الذكوري الذي يجعل الرجل له اليد العليا فهو رفض نفسي واجتماعي وجنسي يصل أحيانا إلى رفض فيزيولوجي، وهو موقف تريد به المرأة أن تبتعد عن مصدر كبتها في محاولة منها للتحرر ويتلوها دوما مرحلة تحاول فيها التفاعل مع تجارب جديدة ومغايرة.

والجزء الخاص بنقد الرجل في كتاب أروى صالح هو بديل للبرود الجنسي فهو محاولة للنأي عن الرجل المثقف البرجوازي ومنزلة بين منزلتين تؤدي بها إلى مرحلة جديدة وهو ما حاولته أروى بالفعل عبر السفر ومعرفة أناس آخرين في مجتمع آخر، إلا أنها عادت لتلقى نفس “الوشوش العكرة” التي هربت منها ربما لأن “الحال من بعضه” والرجل المصري لا يختلف كثيرا عن الرجل الغربي، وربما لأنها لم تستطع أن تتأقلم مع العالم الجديد أو تجد لنفسها مكانا فيه. إلا أنها لم تستطيع أن تبتعد عن عالم الذكور حيث عادت مرة أخرى إلى “حضنه” في شكل صديق تبوح له في رسائلها إليه عن الهواجس التي تمور بعقلها وصدرها حيث تجد الطمأنينة ولذة البوح معه.

إلا أن ذلك لم يستمر لأنه ببساطة لم يجدِ؛ فالحل ليس في أحضان الرجل – مهما كانت نوع العلاقة ومهما كان مدى تفهم وتقبل واحتضان الرجل– ولكن الحل ينبع دائما من الذات الأنثوية. فلجوء أروى إلى الدواء الذي يشفي من كل شيء حتى المعرفة أو الحياة الأفضل وهو تجاهل كل شيء والضغط على زر Shutdown حينما انتحرت يعتبر هروبا عما تحتاجه بالفعل لاسترداد حريتها وهو الانخراط أكثر في الحياة والعمل الإيجابي في المجتمع والعمل على تحقيق إنجازات، مثلما ترى لطيفة الزيات، لا الهرب من المجتمع إلى شرنقة المنزل أو في حالة أروى الهروب إلى العدم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

أروى صالح
عرض التعليقات
تحميل المزيد