يسمح الإبهام الذي يعوم فيه مصطلح «الشعبوية» بإدراجها في سياقات متناقضة تحول دون فهم واضح لمعناها، بالإضافة إلى شيوعها كتهمة يرمي بها أيُّ أحد أيَّ أحد.
باختصار الشعبوية هي منطق إقصائي يقوم على فكرة تحديد ضيّق لمن يكون له الحقّ في الإدلاء بآرائه السياسية فيما يخصّ الشأن العامّ للجماعة التي ينتمي إليها بشكل قانوني، وتجعله أوراق الهوية التي تثبت هذا الانتماء جزءًا من السيادة الراجعة «للشعب» ككلّ.
بمعنى أن يأتي طرف معيّن ويدّعي أنّه هو من يمتلك الأحقية دون غيره في الحديث باسم الشّعب. كما قال أردوغان وهو – سواء اختلفت أو اتّفقت معه – من كبار الشعبويين في العالم: نحن الشعب فمن أنتم؟
في صورها الاعتيادية تعتمد الشعبوية على خطابات هوية بشتّى أنواعها (إثنية، لغوية، ثقافية، دينية…) وخطابات طبقية أيضًا من أجل احتكار الشرعية وصنع هويات مزيّفة واستعمالها خارج محلّها من أجل تبرير هذا الاحتكار.
مثلًا: إذا كان الشعب الجزائري مسلمًا، فأنا من يمثّل هذا الإسلام، إذًا أنا من يمثّل الشعب، وكلّ من يخالفني فهو ليس من الشعب. أو أنا فرنسي وأدافع عن الهوية الفرنسية إذًا فأنا من يدافع عن الشعب، ومن لا يتماشى مع خطابي فهو ضدّ الشّعب.
يكمن أحد أخطار الشعبوية في أنّها فكرة لا سياسية وضدّ السياسة من الأساس. فهي تهدم الأساس الذي تقوم عليه أيّ ممارسة سياسية. لأنّ السياسة تقوم على وجود الاختلاف، وأنّ الشعب ليس كلّا متجانسًا يمكننا الحديث باسمه، أو حتّى أن يكون له رأي متفق يسعنا أن نطلق عليه «رأي الشعب».
وإنّما كلّ ما هنالك أنّ التمثيل ومؤسّسات الدولة تسمح لنا – إذا كانت نزيهة بالطبع وعادلة – أن ندبّر هذا الاختلاف بطرق سلمية. وبالتّالي فإنّ أيّ شخص لا يسعه أن يقول إنّ رأيه هو رأي الشعب، بل هو في أقصى الحدود سيكون رأيه هو الشخصي أو جماعته، وفي أحسن الأحوال سيكون رأي الأغلبية، والتي حتّى وإن فازت بالحكم فلا يسعها أن تقوم بانتهاك حقوق الآخرين ارتكازًا على كونها الأغلبية.
هناك صورة جديدة من الشعبوية، وهي أصعب من حيث التقصّي عنها وإدراك مكامن الخطأ والخطر فيها، ويمكننا أن نطلق عليها اسم «شعبوية الخبراء».
شهد هذا النّوع من الشعبوية ازدهارًا كبيرًا عقب سقوط المعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة، وما نتج عن ذلك من قيام النظام العالمي الجديد، واستقرار «الليبرالية» أو «الليبرالية الجديدة». وساد التعبير أنّ الأزمنة الحالية هي أزمنة ما بعد إيديولوجية، انطلاقًا من حجّة مغالية في مواربتها المغالطة التي تبيعها للجماهير. وترهلّت السياسة وهمشّت الأفكار الكبرى ليحلّ محلّها ما نستطيع أن نسميه «إدارة الموظفين الكبار» أو «سياسة الخبراء» الذين تقتصر ممارستهم «السياسية» على مجرّد مهامّ تنفيذية تسلّم بالإيديولوجية الحاكمة ولا تحاول البحث عن أفكار خارجة عن الوصفة الرسمية للرأسمالية.
ويدّعون لها نجاعة منقطعة النظير وابتكارًا أجدى من كلّ ما أنتجه العقل البشري من أفكار ورؤى. بالإضافة إلى استمرار التصفيق «للديمقراطية الليبرالية» وتصعيده بغرض التشويش على الأفكار البديلة التي تنفي عنها (أيّ الديمقراطية كما هي معروفة في صورها الشائعة في الولايات المتّحدة وباقي العالم) كونها ديمقراطية.
والغريب أنّ هذا التشويش يستعمل في انتقاداته طريقة التخويف من الشعبوية. التي أصبحت شبحًا يُطارد به كلّ من يأتي بفكرة مختلفة. في فرنسا مثلًا استخدمت السلطة طريقة التخويف هذه لوصم حركة «السترات الصفراء» بتهمة جاهزة؛ إذ جرى بشكل مستمرّ استدعاء صورة الجموع الهمجية الرافضة لكلّ أشكال الحوار والتفاهم العقلاني في إطار المسموح به دستوريًا، لتتجاوز ذلك إلى شتّى ممارسات العنف الذي يهدّد استقرار الدولة ويرعب النّاس بإحلال لغة العنف هذه محلّ الطرق السياسية السلمية المعتادة لتدبير الخلاف.
هذه بعض الأفكار التي حامت حولها تصريحات المسؤولين إزاء مواجهة أزمة حقيقية كان الأجدى في مواجهتها القيام بمراجعات كبرى في النظام الاقتصادي وإعادة النظر في آليات التمثيل الانتخابي وشروطه.
نفس الطرق جرت بها مواجهة حركة «احتلّوا وول ستريت» في الولايات المتحدة سنة 2011، عقب انطلاق الموجة الأولى من الثورات العربية؛ إذ استُخدمت نفس الوسائل الإعلامية لتشويه الحركة باعتبارها خطرًا محدقًا بالنظام الاقتصادي، والسياسي للولايات المتحدة والعالم.
يتمركز المشكل في هذا الخطاب أنّه هو أيضًا من ناحية أخرى وعلى طريقته الخاصّة إقصائي، ويبرز رؤية واحدة باعتبارها الرؤية الحقيقية للواقع والمعبّرة بأفضل شكل ممكن عن المصلحة العامة بما أنّها الرؤية الوحيدة المبنية على أسس «علمية». بهذه الطريقة تستعمل كلمة «علم» لتورية الاختيارات الإيديولوجية التي تقوم عليها مختلف السياسات التي تدّعي أنّها تقنية وعلمية.
وتأتي طريقة الحكم التكنوقراطي كأبرز تجلّيات هذه المغالطة الأسطورية التي يريدون لنا الانسياق خلفها في سعي حثيث لحصر وعي النّاس في أفكار مقولبة تحت عناوين رنّانة عن العلم والخبراء والمتخصصّين والبنك الدولي ومنظمات التنمية ومراكز البحث التي يقتصر دورها على الدعاية وتبرير سياسات السلطة.
هذه الأفكار هي خطيرة بنفس خطورة الأفكار القومية المتعصّبة. إذ إنّها هي الأخرى تنفي إمكانية أيّ ممارسة سياسية. لأنّه إذا كان ما أقوله هو العلم فبالتأكيد أنّ رأي من يخالفني هو محض جهل أو تخيّلات طوباوية لن تتحقّق أبدًا.
إذا عدنا إلى الوضع المحلّي في الجزائر سنلاحظ أنّ السلطة (القديمة والجديدة على السواء، فهما شيء واحد) تعتمد في تحسين صورتها عند المواطنين ونيل القبول منهم على بروزة سياساتها وقراراتها على أنها آراء خبراء وبيروقراطيين. ولا نحتاج أن نشير إلى أنّ هذه الحيلة المكرّرة بشكل مملّ وقاتل ما زالت تنطلي على قطاع واسع من المواطنين لأسباب عديدة ليس هنا مجال ذكرها بالتفصيل، ولكن من أهمّها أنّه لا توجد سياسة أصلًا في الجزائر، وأنّ النّاس كثيرًا ما ينبهرون باللغة المتقعّرة التي تتحدّث بها النخب معهم كوسيلة إرهابية تعمل على وأد أيّ محاولة للتفكير أو النقد في نفس المواطن قبل حتّى أن تولد. إذ تعمل اللغة كوسيلة صدّ وإرهاب فعّالة وقليلة التكلفة.
في آخر خرجات السلطة في الجزائر قام تبّون باستدعاء لجنة من «الخبراء الدستوريين» للعمل على التعديلات الدستورية الجديدة. ممّا يؤكّد على استمرار السلطة في نفس المسار التجاهلي لكافّة أطياف الشعب وتهميشه عن قول رأيه في ما يخصّه.
لا أريد الحديث هنا عن عبثية مثل هذه التعديلات في دولة لا يوجد فيها قانون حاكم أصلًا ما عدا قانون القوّة والتهديد والعنف والفساد. ولكن حتّى لو كنّا في أوضاع عادية فإنّ تعديل الدستور ليس مسألة تقنية فقط حتّى يقوم بها «الخبراء». هل هؤلاء الخبراء يعبّرون عن طموحات الشعب؟ ( مع ملاحظة أنّ هذه الطموحات مختلفة ومتضادّة في كثير من الأحيان) أم عن طموحات السلطة التي أتت بهم؟
هنا سنرجع إلى سؤال تأسيسي في هذه القضية وهو: ما هو منبع القيمة في الدستور؟ أو لماذا علينا احترام الدستور؟ بدون التقدّم أكثر في نقاش طويل – ولكنّه ممتع ويدعو إلى التفكير – حول ما هي الشروط الأخلاقية التي تعطي لمثل هذا الإتفاق الجماعي قيمة تعاقدية، فقط أريد الإشارة إلى أنّه بصورة مبدئية تمامًا فإنّ الدستور تأتي قيمته من التراضي بين الأطراف المعنيين وتوافقهم على القواعد المنظمة لعلاقتهم مع السلطة وعلاقتهم مع بعهم البعض وعلاقة مؤسّسات الدولة فيما بينها.
هل هؤلاء الخبراء هم الشعب؟ قد يأتيني ردّ بأنّ التعديل لن يمرّر إلّا باستفتاء شعبي. وعلى هذا الشخص لا أملك ردّا مختصرًا، ولكن سأسأله سؤالين: من مرّر تعديلات الدستور المتكرّرة في عهدات بوتفليقة المديدة؟ وثانيًا: ألا زلت تصدّق ذلك يا صديقي؟ كم أشفق عليك.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست