في تلك الفترة كنت أعمل في إحدى فنادق شرم الشيخ التي بات معظمها شبه خاوٍ، فطبول الحرب على العراق تدوي هنا في المدينة السياحية الهادئة، كان فندقنا دون غيره وعلى غير العادة يكتظ بالسائحين الإنجليز، على مدار عشرين يومًا من المعارك وأنا أخوض مع بعض النزلاء نقاشاتٍ يومية، ترحل أفواج منهم وتأتي غيرها، أغلبهم رافضون لتلك الحرب، ناقمون مثلي على تجارها، لاعنو مسوقيها، من أرسلوا أبناءهم إلى صحراء الشرق الأوسط إرضاءً لجورج بوش وإدارته المسعورة، يوميات الحرب أتذكرها كأنها اليوم، عند الانتهاء من عملنا نلتف جميعًا في السكن الخاص بالعاملين حول الجزيرة مستمعين إلى خبراء عسكريين يشرحون لنا معاناة الأمريكان في احتلال مدينة حدودية أو ميناء صغير أو تحقيق انتصار حقيقي رغم كل تلك الضربات الجوية المسعورة، يؤكدون لنا أن ثمة كابوس ينتظر قوات الغزو إذا فكر قادتها في مواجهة قوات الحرس الجمهوري العراقي «قوات النخبة العراقية» على تخوم بغداد، يومًا بعد يومٍ أزداد ثقةً وأنا أتحدث مع السائحين خاصةً الإنجليز منهم، يختفى القلق والتوتر والغضب وتعود ابتسامة الثقة، الأمريكان وحلفاؤهم في انتظار فيتنام جديدة، حتى أتى أحدهم، كان إنجليزيًّا شابًا متحمسًا لتلك الحرب كاتمًا حنقًا واحتقارًا حقيقيًّا لنا خلف ابتسامة مقيتة، أتى إليّ هامسًا في أذني، عفوًا يا عزيزي بغداد تحت السيطرة.. قالها ومضى ضاحكًا، لم ولن أنسى نظرة عينه تلك، رأيت فيها كل شيء، تركت محل عملي وهرولت إلى غرفتي فاتحًا التلفاز، تمثال لصدام حسين في قلب بغداد يتهاوى يرقص حوله بعض الناس، دبابات أمريكية تتجول في وسط بغداد، المصالح الحكومية والمتاحف العراقية تنهب، رجال يهرولون في الشوارع أحدهم يحمل تمثالًا وهذا يحمل مكتبًا وآخر يحمل مرحاضًا، إنهم ينهبون أي شيء، من هؤلاء؟ ماذا يحدث؟ وكيف؟ لا لا بالتأكيد إنه فخ أعده صدام وأن ثمة مفاجأة للأمريكان في انتظارهم، بغداد لا تسقط بهذه السهولة. مضت ساعات ولم تحدث المفاجأة. نعم، لقد سقطت بغداد.. يجب أن تصدق ذلك الآن، الإنكار لا يغير شيئًا من سوداوية الحدث، حرقة الدمع تزداد كلما تذكرت نظرة هذا الإنجليزي بعدما قالها، عفوًا يا عزيزي بغداد تحت السيطرة، لماذا قالها لي أنا؟ ولماذا عندما أعرف خبرًا كهذا أعرفه منه هو؟ ما الفرق بيني وبينه؟ ما الفرق بيننا وبينهم، لماذا نحن هكذا؟ متى بدأت نكبتنا هذه وأين المنتهى؟
كان هناك بالفندق نزيل مقيم، ولكنه ليس كأي نزيل، إنه «حسام بيه»، هكذا يسميه الجميع هنا، في العقد السادس من عمره، ينزل كل صباح من غرفته مرتديًا بدلة ورابطة عنق أنيقة يتناول إفطاره ثم يجلس بالبار لساعة واحدة عائدًا بعدها لغرفته، ثم يعاود نفس الفعل في الغداء والعشاء مع خلع رابطة العنق مساءً، لا يتحدث مع أحد، يبادل التحية بإماءة وقورة من رأسه فحسب، لا يتذكر أحد أنه أمسك «حسام بيه» متلبسًا بالابتسامة قط، الجميع يخشاه، يحظى بهيبة ورهبة بين العاملين لا يحظى بها حتى مالك الفندق، ولم لا وهذه الشخصية الغامضة القوية المنتمية إلى جهاز أمني رفيع تضاربت الأقاويل حول مسماه.
مرت أسابيع قليلة بعد سقوط بغداد حتى أتى الوغد الأمريكي إلى الشرق الأوسط مجتمعًا مع بعض ما يسموا بالقادة العرب ودونًا عن أي مدينة اختاروا مكان الاجتماع في شرم الشيخ، كانت ليلة زيارة جورج بوش آخر ليلة أقضيها في الفندق وفي شرم كلها، كان سكن العاملين يكشف عن بعد مطار شرم الشيخ، أتذكر جيدًا تلك الليلة التي أنزلونا من غرفنا في ساعات الصباح الأولى لتفتيشها، من بعيد شاهدت قوات الأمن وقد التفت حول «حسام بيه»، دقائق وقد أتت سيارة تحمل رجلًا يتحدث الإنجليزية بلكنة أمريكية، يهرول نحوه «حسام بيه»، قامته الشامخة التي نعرفها اختفت بعد أن انحنى ظهره فجأة، وهو يحدث لهذا الرجل الأمريكي، ما هذا إنه يضحك ويبتسم ويقابله الأمريكي بنظرات متعجرفة لا تمنعه من مواصلة الابتسامة العريضة البلهاء، ليس هذا «حسام بيه» الذي نعرفه، إنه مجرد تابع مهزوز لهذا الأمريكي، حينها وجدوا على حائط بغرفتي جملة كتبتها يوم سقوط بغداد، سقطت بغداد، سقطت الأولى، كانت تعليقات أفراد الأمن وسؤالهم عن كاتب هذه العبارة كانت كفيلة أن أقرر أن هذا المكان لم يعد بمكاني، أقرر أنا قبل أن يقرروا هم لي.
لا أعرف بالتحديد لما أكتب هذا الآن، لكن الأكيد أن تلك الأيام هي أشياء مني ما زالت حية وإن كنا قد تخطينا وخز سقوط بغداد بآلام أعمق في سوريا، ودماء متناثرة في مصر وليبيا واليمن، بالإضافة للجرح العراقي المتزايد، ولا نملك رفاهية الكتابة عن ذكريات سقوط بغداد ونحن كل يوم لدينا سقوط جديد نعيشه ونحياه بتفاصيل أعمق وأدق، ربما لا يوجد سبب منطقي آخر للكتابة غير درس صدام حسين الذي فشلت الرؤوس العربية في إدراكه، إن الملاذ الأول والأخير لأي أمة هي الحرية والتعايش والعدل، وإن حكم الفرد القمعي، الأب الروحي، والأخ القائد، والزعيم الملهم حتى إن حقق نهضةً اقتصاديةً أو طفرةً تعليميةً أو صحيةً فإن كل هذا قد ينتهي فجأة، وإن الحجر الذي يبنى في رحاب الشمولية والدكتاتورية فهو حجر على الرمال، سرعان ما تجرف به أمواج من الخارج لا تجد صعوبةً في إزاحته.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست