قُتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي نشرًا، في مكان يُفترض أن يكون ملاذه، يحميه من تقلبات الغربة، قُتل خاشقجي بطريقة شيطانية قذرة تنم عن رغبة ولي الأمر بالقضاء على المعارضين صوتًا وصورة، داخليًّا وخارجيًّا، قُتل خاشقجي وتعددت التأويلات عما يمكن فعله ضد السعودية، وعما سيكون عليه النظام السعودي.

وربما من أسخف الأفكار المطروحة على الساحة السياسية الدولية الآن، هي فكرة أن الأسد الأمريكي غضبان غضبًا حقيقيًّا من النظام السعودي؛ لأن النظام قتل أحد أولاده، نشرًا وتقطيعًا.

شخصيًّا أنظر إلى هذه الفكرة على أنها سخيفة، ومنبع السخافة أن الأسد لن يضحي بعلاقة متينة مع نظام يلبي له كل رغباته مقابل البقاء، إلا إن وجد من هو أكثر رغبة منه في خدمة أمريكا، فمحمد بن سلمان رجل متعطش للسلطة، وهذا الأمر يعرفه ترامب ويعزف عليه، وطالما أن ابن سلمان مستعد لتنفيذ كل ما يُطلب منه، فإن الأمر لن يتغير كثيرًا، ثم إن ترامب قد فضح أزلام النظام السعودي بتصريحاته التي يمكن تلخيصها في «ادفع- تبقى»، فما بين أمريكا والسعودية قواسم مشتركة أكبر من أن يفت في عضدها مقتل رجل لا يضيف شيئًا في رصيد أمريكا من ناحية الفائدة المتعددة الأوجه.

ثم إن المصالح بين الدول لا تقف عند قتل دولة لشخص ما، ولنا في التاريخ الحديث جدًّا عبرة، فكلنا نذكر حادثة إسقاط تركيا لطائرة روسية، فقادة كل من تركيا وروسيا لم يسمحوا لهذه الحادثة أن تؤثر وتوقف نهر المصالح بينهما، وهكذا الأمر بين الأسد والنظام السعودي، فالأسد الذي تظاهر بأنه غاضب من النظام السعودي، يدرك منذ البداية أنه يتعامل مع نظام قمعي ومرتاح جدًّا لخدماته.

قد يقول أحد إن ذلك سيضر بسمعة أمريكا وحرصها على حقوق الإنسان، إن القول الفصل في هذا الأمر هو أن الحرية التي يتغنى الغرب وأمريكا بها تتعلق فقط بحدودهم الجغرافية؛ لأن أي ممارسة سياسية لا تحمل فلسفة تحترم حقوق المواطن الغربي من شأنها أن تؤثر على بقاء الحاكم أو رحيله أو محاسبته.

وقد يسأل سائل بأن الغرب الرسمي غضبان من السعودية بسبب فعلتها الإجرامية، هذا صحيح على المستوى الشكلي، لكن جوهريًّا فإن الغرب غارق في التناقضات؛ فهو يرى الظالم يظلم ويبطش ولا يأخذ على يده، ويرى الضحية تموت ولا يأخذ بيدها، ابن سلمان الذي قتل خاشقجي هو نفسه الذي يقود حرب اليمن التي أهلكت الحرث والنسل، وهو الذي بدأ بحصار قطر، وهو الذي اعتقل المعارضين في السعودية بحجة محاربة الفساد، هو الذي يدعم الانقلابات والثورات المضادة، وهذا التناقص دليل على أن عالم السياسة يخلو من الإنسانية، وأن الفضيلة والأخلاق لا خلاق لها في عالم السياسة إلا بالقدر الذي يخدم الحاكم، ثم إن الغرب الذي يصدر إلى السعودية تجارة متنوعة تصل إلى مليارات الدولارات، فهل سيضحي بتلك المصالح من أجل رجلٍ مات؟

ثمة تفسير آخر لغضب ترامب والغرب؛ فهم لم يغضبوا على عملية القتل من حيث المبدأ، بل إنهم غضبوا على سوء تنفيذ عملية القتل وفشلها، نقرأ هذا في تصريح ترامب عندما قال: نفذت عملية قتل خاشقجي بطريقة رديئة، وعملية التستر كانت الأسوأ في تاريخ هذا النوع من العمليات؛ يمكن أن يكون زعماء أوروبا وأمريكا غاضبين من ابن سلمان بسبب عدم تنفيذه العملية «بطريقة جيدة»، وليس للعملية نفسها.

قد يكون غضب ترامب ضد السعودية هو مكيدة للدول الغربية كي تقطع علاقاتها مع السعودية؛ مما يؤثر على ميزانها التجاري وتبقى صناعات أمريكا في قمة الواردات للسعودية، فكل ما ستفعله أمريكا هو زيادة حلب البقرة السعودية حتى تصبح بقرة صومالية يظهر عظم بطنها من ظهرها، ثم بعد ذلك ترميها رمية الكلاب ولسان حالها يقول: «ينتهي النظام بانتهاء المهام»، خاصة أن ترامب قد فضح أزلام النظام السعودي بتصريحاته التي يمكن تلخيصها في «ادفع- تبقى».

تدرك أمريكا أن حدوث قطيعة مع السعودية قد يدفع الأخيرة لأن توجه وجهتها لدولٍ أخرى مثل روسيا والصين، وتعقد معها صفقات سلاح وغيرها من الصناعات الثقيلة، لذا فهي لن تغامر بقطع علاقاتها مع السعودية، وهذا ما بدأ يعبر عنه ترامب مؤخرًا حين قال: «لن أبتعد عن السعودية بسبب خاشقجي، فالسعوديون قدموا طلبًا ضخمًا لشراء السلاح قيمته 110 مليارات دولار، وكل دولة في العالم أرادت جزءًا من ذلك الطلب، ولكننا حصلنا عليه بأكمله، وهذا يمثل نصف مليون وظيفة».

إن حالة التراخي الأمريكي في اتخاذ القرار بحق السعودية ليس مردها لظهور الحقيقة كاملة، بقدر ما هي مراوغة لإعطاء فرصة للوقت كي يخفف من حجم الضغط الذي تشكله هذه القضية عالميًّا، وبعد مرور ما يقترب من شهرين جاء الرد الأمريكي.

سنفترض صدق غضب أمريكا والغرب، فلماذا استمرت حرب اليمن حتى الآن طالما أن أمريكا والغرب حريصون على النفس البشرية؟ ولماذا سمحت أمريكا لقاتل خاشقجي بحصار قطر؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد