الرواية كما أفهمها، وكما أحبها، هي لعبة ذهنية بين الكاتب والقارئ في مساحة تتجاوز صفحات الرواية لتشمل العالم بأسره.

وهي فن يجسد شكلًا من أشكال التعاون بين من يكتب ومن يقرأ، للأول مهمة توزيع الفراغات في النص دون إفراط ولا تفريط، وللثاني مهمة ملئها وتأويل المسكوت عنه فيها.

والرواية الجيدة، كما أعرفها، هي تلك التي يبدأ أثرها عندما تنتهي صفحاتها، فاسحة المجال لدخول القارئ إلى داخلها، ليس بوصفه مستهلكًا فقط، بل بوصفه مساهمًا في العملية، ذلك أن الكتابة تستعين بأيدي القراء لتمتد وتتطور. فالقراءة كما أعرفها، وكما أحبها، هي تفاعل بين قارئٍ ونص لتشكيل المعنى واستكمال ما بدأه الكاتب.

وبناءً عليه جاءت رواية «الملف 42» للكاتب المغربي الشاب عبد المجيد سباطة، والمرشحة للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، ملبية لكل احتياجاتي كقارئ لا يدخل النص من أجل المتعة فقط، بل بحثًا عن معرفة معلبة بالقصص، هذه القصص التي نجح الكاتب في إخفاء الخط الفاصل بين المتخيل والواقع فيها، إذ ذوَّب أفكارًا ومعلومات كثيرة في قالب سردي، ورفع مصداقية نصه إلى درجة يصعب معها الفصل بين الخيال والحقيقة. ومراعية لعنصر التشويق، وهو ما أصبح معه فعل القراءة، مع التقدم في صفحاتها، ممارسةً مستمرة وممتعة لعملية إقصاء الاحتمالات لما ستؤول إليه الأحداث ووضع أخرى.

الكتاب:

1) كريستين ماكميلان، كاتبة أمريكية تعاني من حبسة الكتابة، ويهددها ناشرها باللجوء إلى القضاء إن لم تقدم مخطوط رواية جديدة وفق ما ينص عليه العقد، ويمنحها مهلة شهرين لذلك. فتستنجد بوكيلها الأدبي السابق الذي اقترح عليها الاشتغال على رواية تدور أحداثها في فترة عمل والدها جنديًّا في المغرب، لتجد نفسها، بعد ورود اسم والدها في رواية مغربية، أمام حقيقة تورطه في كارثة راح ضحيتها آلاف من المغاربة.

2) رشيد بناصر، طالب دكتوراه تخصص الآداب، يرغب في الاشتغال على رواية «أحجية مغربية» في أطروحته مقاومًا رغبة مشرفه في تغييرها بأخرى لأحد أصدقائه، قبل أن يلتقي بكريستين مرافقًا إياها في تحقيقها الأدبي عن حقيقة والدها أولًا، ثم عن المصير الغامض لكاتب الرواية ثانيًا.

3) زهير بلقاسم، مغربي من عائلة غنية ذات نفوذ، وضحية لأسرة مفككة لا تكف فيها الأم عن السعي وراء توسيع شبكة معارفها رغبة في ترأس جمعية حقوقية تعنى بحقوق المرأة (هي التي لها في البيت خادمة تمعن في إذلالها)، ولا يكف فيها الأب عن مغامراته الجنسية مع الطالبات… ليجد زهير نفسه رهينة في مسرح دوبروفكا في روسيا، ضحية لمعركة لا دخل له فيها ولتقصير السفارة المغربية في أداء واجبها.

الرواية محاولة لإحياء قضية الزيوت المسمومة، التي دمَّرت حياة آلاف من المغاربة، وتعاملت معها السلطات المغربية باستهتار، فتم الإفراج عن التجار المسؤولين عنها وإخفاء الملفات الجنائية للقضية في المحاكم.

وسأقدم ملاحظاتي حول الرواية كما يلي:

– بعد سؤال الهوية الذي كان محور روايته الثانية، يأتي عمله الثالث ليطرح، بإلحاح، سؤال كرامة الإنسان المغربي المهدورة. ويتبدى ذلك من خلال أحداث كثيرة أذكر منها: جريمة قتل ارتكبها جندي أمريكي في حق مغربيين، رهينة مسرح دوبروفكا بروسيا، تعامل السلطات مع مرضى وملفات الزيوت المسمومة.

بل كرامة الإنسان عامة من خلال جنود سفينة كورسك، والمشردين في موسكو.

– «الملف 42»، عنوان يوحي بأن الكاتب بصدد تحقيق بوليسي حول جريمة ما، وأن القارئ سيجد نفسه أمام رواية بوليسية بكامل عناصرها (المشهد الافتتاحي، المجرم، الجريمة، مسرح الجريمة، المحقق…) وهو ما لم يأتِ في المضمون، لكنه يستعين بعناصر الرواية البوليسية لإنجاز تحقيق أدبي.

– تشبه قراءة هذه الرواية خوضًا في لعبة القطع المبعثرة التي يقود ترتيبها بشكل صحيح إلى تكوين صورة شاملة عن محتواها، وإن إعادة تفكيكها سيوصل القارئ إلى ثلاث روايات: رواية كريستين ماكميلان ووالدها، رواية زهير بلقاسم وعائلته، رواية رفيق خالدي كاتب «أحجية مغربية».

وتحتاج عملية جمع خيوط هذه القصص التي تنحدر من أماكن مختلفة وعاشت في أزمنة مختلفة إلى عقل خبر زوايا الأدب العالمي: عقل عبد المجيد سباطة.

– جاءت الرواية متنوعة من حيث الأماكن والشخصيات، ما جعل من أطوارها أكثر تشويقًا، ودافعًا للتساؤل حول الخيط الناظم لقصصها. وهو السؤال الذي لا تأتي إجابته سريعًا، بل إن سباطة لا يمنحك إجابة عن سؤالٍ من أسئلتك حول غموض ما ستؤول إليه الأحداث، حتى يزرع مكانه عشرة أسئلة أخرى، ألم يقل فرانك كيرمود: إن الغموض هو ما يجعل الفن أمرًا مثيرًا!

– يقدم الكاتب وصفًا دقيقًا للملامح النفسية لشخصياته وعلاقاتها الاجتماعية، ما جعل منهم أشخاصًا أحياء، أكثر حقيقيَّة من سباطة نفسه! ووصفًا دقيقًا للأمكنة الواردة في الرواية أيضًا، سواء داخل المغرب أو خارجه، وإذا كان الأمر عاديًّا في سياقات أخرى، فإن معرفتنا بأن الكاتب لم يغادر التراب الوطني من قبل، تضعنا أمام حقيقة واحدة: غزارة البحث، وسعة الاطلاع.

– جاءت الرواية واقعية أكثر من الواقع نفسه، فعبد المجيد سباطة بنفسه شخصية من شخصياتها، وإذ أمكنني أن أصف الصورة كاملة فهي «رواية عن كتابة الرواية».

– لغة الرواية لغة سهلة، واضحة ومكثفة، بعيدة عن الزخرفة والترهل الوصفي والحشو المبالغ فيه، وقد نجحت في نقل القارئ إلى عوالم الرواية كمتفرج على أحداثها.

– تمثل الرواية وثيقة إدانة لمغرب اليوم ومغرب الماضي، ورسالة احتجاج على الفساد الذي ينخر المؤسسات المغربية، وعلى النضال المصلحي الذي يتاجر بالإنسان لأغراض شخصية، وعلى تبخيس السلطة للمغربي واستهتارها بحياته، وتعاملها معه كشيء يمكن استبداله واستعباده وهضم حقوقه، وعلى مصير أصحاب الشهادات في وطن لا يعترف بقدراتك إلا إذا كنتَ تملك مؤهلات خاصة: اسمًا عائليًّا يبدأ بالباء المقدسة، أو اتصالًا هاتفيًّا، أو صدرا بارزًا…!

– يقدم الكاتب نقدًا لاذعًا للتجاوزات التي يرتكبها «بعض الأساتذة» في الجامعات المغربية وشبكة المصالح المشتركة التي يتم بها القضاء على البحث العلمي، وإقبار الطاقات الشابة.

– يقدم سباطة، بشكل مبطن، قراءة للواقع الثقافي المغربي، وللصعوبات التي تواجه النشر والكاتب والكتاب، من خلال قصة دار الأمل للنشر وحكاية صاحبها.

– لا يقيم الكاتب قطيعة بين هذا العمل وعمله السابق ساعة الصفر، بل يربط بينهما ببراعة، وإن أتى هذا الربط صريحا من خلال قصة جيهان والطيار العسكري والراوي المجهول في رواية ساعة الصفر، ثم من خلال لقاء زهير بلقاسم مع كاتبها عبد المجيد سباطة، فإنه لا يحول دون قراءته بعيدًا عن سياقه الأول والاكتفاء به كحدث عابر في «الملف 42».

– وعيًا من الكاتب بدورها في الحياة، تأتي الرواية حبلى بالصدف، ليست صدفًا تعيب العمل وتمنح كاتبه مخرجًا لحكاياته المتشابكة، لكن لضرورتها في الحياة فـ«عندما يقودك القدر إلى حيث يريد هو، تدرك أن بعض الممتعضين من وجود الصدف في الحبكات الروائية لم يخبروا الحياة جيدًا، ما دامت قادرة على إدهاشنا باستمرار…» يبرر سباطة ذلك، بعد أن يستدل بمقولة لبول أوستر يقول فيها:«لا شيء حقيقي سوى الصدفة».

– جاء العمل حافلًا بالتقنيات السردية، فاستعمَل السرد بالتناوب، على غرار ساعة الصفر، وأضاف إليه تقنيات أخرى ساهمت في دفع الحدث إلى الأمام، وكان لها دور بارز في جعله عملًا محبوكًا بإتقان (تعدد الرواة، قصاصات الجرائد، الخرائط، رسائل مصورة من البريد الإلكتروني، دروس الرياضيات والفيزياء، مقاطع فيديو… وغيرها).

– افتتح سباطة كل فصل من الملف بعنوان كتاب واقتباس مكثف لما سيأتي فيه، وجاءت جُل شخصياته قُراء وكُتابًا، ما جعل من الرواية موسوعة للباحثين عن أعمال تستحق القراءة، وعملًا غنيًّا بالحوارات والنقاشات التي تجعل من تلك الأعمال موضوعًا للنقاش.

– نهاية الرواية: اختر ما يناسبك، لكنك لن تسلم من الأسئلة التي بقيت بلا أجوبة.

– ترشُّح الرواية للقائمة القصيرة لجائزة البوكر مستحق، بل إنني أجد بداخلي من الشجاعة ما يكفي للقول بأنها أفضل من روايات كثيرة تُوّجت في الدورات الماضية، خاصة أنها تمثل ثورة في التقنيات المستعملة في الكتابة عربيًّا، وسواءً توِّجت بها أم لا، فإنني أؤمن بأن دَور الجوائز لا يجب أن يتعدى كونه تنبيهًا للقارئ إلى النصوص الجيدة، لا أقل ولا أكثر.

خلاصة القول، تمثل رواية «الملف 42» قفزة نوعية في المسار الإبداعي لسباطة خاصة، ثم في الرواية المغربية والعربية عامة. وقد نجح من خلالها في البرهنة على موسوعيته وقدرته على التحكم في حكاياته المتشابكة، بل نجاته من السقوط في مصيدة نجاح عمله الأول، ذلك أنه انسلخ كليًّا من «ساعة الصفر» وكل ما جاء فيها من أحداث وثيمات.

وإذا كان الكاتب قد اقتبس لرايموند شاندلر مقولة يقول فيها: «كل من يستطيع كتابة صفحة نثر واحدة، يضيف بذلك شيئًا ما لحياتنا»، فإني أقول إن «الملف 42» هي إضافة حقيقية، ليس فقط لحياتنا كقراء، بل أيضًا لحياة أشخاص لم تنصفهم العدالة وغابت عنا حقيقة مأساتهم، أو لأكون صريحًا، غُيِّبت عنا بفعل فاعل.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد