-1-
صوت موسيقى أحد أغاني “كولد بلاي” في بداية الألفية الثانية تنساب بهدوء إلى شاشة السينما السوداء، كادر البداية يظهر تدريجيا. سماء يوم صيفي لا تخلو من بعض الغيوم، تبدأ كلمات الأغنية و ينتقل الكادر إلى عيون طفل تتطلع إلى السماء، تبدأ تترات البداية و تبدأ ابتسامة عريضة في الارتسام على وجهي. سوف أُحب هذا الفيلم.
– للصدفة البحتة استمعت لهذه الأغنية أكثر من مائة مرة قبل مشاهدة الفيلم بأيام. مشغل الموسيقى الخاص بي قرر أن يكررها في كل مرة يحين دورها في قائمة الأغاني التي صنعتها مؤخرا. ولم أفهم مغزى هذه الصدفة سوى الآن.
-2-
قرر ريتشارد لينكلاتر أن يصنع فيلمًا عن حياة صبي منذ أن كان يبلغ 6 سنوات وحتى يصل ل18 سنة، اختار شخصياته بعناية لبداية الحكاية. باتريشيا ستكون الأم و إيثان هاوك هو الأب بالطبع. رأى في ابنته لوري طفلة مميزة تصلح لدور الأخت وأخيرا بطلنا الذي سنصور حياته سيكون إيلار كولتران. الجديد هذه المرة أننا سنكمل الحكاية بنفس الممثلين الذين بدأنا بهم. سنصورهم خلال اثني عشر عامًا.
..
المخرج لن يتدخل أبدا بأن يُظهِر على الشاشة كم مر من السنين. لن تجد أبدًا لافتة مرفوعة يظهر خلالها “و بعد مرور كذا”. ولكنك ستلاحظ تلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة، ستلاحظ هذا الشعر غير المنتظم الذي بدأ في الظهور في وجه الصبي، وستلاحظ هذا الإجهاد الذي ترسمه السنون حول أعين الأمهات، وستجد أنك لأول مرة ستختبر تطورًا حقيقيا على الشاشة للشخصيات. جائزة أفضل صانع ماكياج سنعطيها للزمن.
..
لطالما كان لينكلاتر – صاحب ثلاثية قبل الشروق وقبل الغروب وقبل منتصف الليل – مولعا بالاندماج مع شخصياته والبيئة التي تعيش فيها، وها هو يكرر ما اعتاد على فعله، فالقصة في غاية البساطة وتتلافى دائما أي افتعال أو مبالغة قد يلهث وراءها صناع أفلام آخرون لجر الفيلم إلى حبكة لا تخلو من بعض المواقف الدرامية التي تستجدي تصفيق الجمهور.
الفيلم يبدأ بعد انفصال الأب و الأم بوقت قليل، و ربما لو أعطيت القصة لمخرج آخر سيبدأ من لحظة الانفصال، وسيجدها لحظة درامية مثالية للبدء. ولكن مخرجنا ببساطة لا يفعل هذا.
..
يتطور الفيلم تدريجيا و يتحول الصبي شيئًا فشيء إلى بطل لينكلاتر المعتاد، الشاب الحالم الهادئ والمختلف عمن هم في مثل سنه، والذي يزهد في الحياة في بعض الأحيان. والعجيب هُنا أن كولتران يناسب هذا الوصف تماما. كيف عرف لينكلاتر هذا وهو يختاره وهو ابن ست سنوات؟ هُنا يكمن جزء من المعجزة.
-3-
الفيلم يرصد حياة الصبي منذ الصف الأول بالمدرسة وحتى وصوله إلى الجامعة، يرصد كل هذه السنين بكل تفاصيلها وكل ما يفعله الزمن به وبنا، من طفل يتجول بدراجته ويرسم على الجدران مرورًا بالفتى الذي يستكشف نظراته الأولى مع الفتيات في الفصل، ووصولا إلى أول انفصال عن فتاة أحبها. العنوان مناسب ولكن فيلمنا يتجاوز هذا.
هو يرصد كل التفاعلات البشرية التي تمر بها أسرة، لحظات الانتقال التي يمر بها المراهقون أثناء بلوغهم، هو بشكل عبقري يمكن أن يكون حكاية الأم والأب. حياة الذين ينهون حياتهم الشخصية مبكرًا ويكرسون ما تبقى عندهم لتربية أولادهم، وحياة من يحاول الاحتفاظ بكلا الخيارين، وحياة من يزهد في تكوين عائلة ويفضل الحياة بلا قيود، وكيف يُغير الزمن كل هذا. نحن ببساطة في ملخص للحياة بأكملها.
..
الفيلم واكتماله وعرضه وطريقة تصويره واختيار ممثليه لو كانوا وحدهم هي التجربة الجديرة بالمشاهدة لقلت أن لينكلاتر قد فشل في مهمته. فهذه ليست المرة الأولى التي نشاهد فيها هذه التجارب في السينما. ولكن المعجزة اكتملت بالحكاية، باعتصار الحياة و تقديمها في شريط سينما، بالوصول إلى جوهر صناعة الأفلام و تجربة السينما التي نبحث فيها عن حيوات أخرى لأننا لم يُكتب لنا أن نحياها إلا مرة واحدة.
..
” هل تعلم ما هو الآتي؟ الآتي هى جنازتي اللعينة”.
في أكثر مشاهد الفيلم تأثيرًا تخاطب الأم ابنها وهو يغادر بيتها إلى الجامعة. تلخص حياتها في بضع جُمل، كم مرة تزوجت. كيف علمته قيادة الدراجة للمرة الأولى وكيف احتفلت بميلاده، وكيف انفصلت عن أزواجها السابقين، وكيف ودعت أخته الكبرى حينما استقلت بحياتها، وكيف تودعه الآن. لتبقى وحيدة، بلا هدف وبلا حياة.
..
ولتكون آخر جُملها في الفيلم:
“كنت أظن أن هناك أكثر من هذا”.
-4-
في زمن عادت فيه الموضة لزيادة مدة الأفلام لتقترب من ثلاث ساعات، يعرض معظمها مطاردات بين آلات ضخمة وقصصًا مصورة لأبطال خارقين وحكايات رومانسية لمراهقين غير اعتياديين ومواقف درامية مفتعلة وخيالًا علميًا يتطلب دراسات فيزيائية لفهمه، يعود بنا “بوي هود” للتحليق بعيدًا في السماء، ليصبح بلا منازع أمل أصدقائي الكلاسيكيين في الفوز بجائزة أوسكار قد طال انتظارها طويلا.
ويصبح رهاني الأكبر في أنه سيكون كلاسيكية المستقبل. الفيلم الذي سيجلس أحفادي لمشاهدته وسيجدون فيه كثيرًا من جمال الماضي.
– صوَّر لينكلاتر فيلمه كاملا وفقا لنظام ال35 مللي، لم يكن الديجتال قد غزا العالم كما هو الحال الآن. فيلمه مصنوع حرفيًا من خامة قد ماتت. –
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست