حاول البعض حول العالم إنشاء دولتهم الصغيرة كمشروع مسلٍّ وهواية غريبة لا أكثر، بعضهم نجح في الحصول على أرض حتى لو لم يعترف بها أحد وبعضهم اكتفى بأن يجعل دولته افتراضية، شيء موجود فقط في مخيلته أو في الشبكة.

هذه الدول تسمى  Micronation أي المجهرية، والدول المجهرية هي دول صغيرة جدًا جدًا قد يصدر أصحاب هذه الدول جوازات وطوابع وعملات، قد ينضم لها المئات والآلاف، قد يدعي أصحابها أنهم يملكون قطعة من الأرض أقاموا عليها دولتهم، قد يصممون علمًا وشعارًا ونشيدًا وطنيًا، مع كل هذا فلا أحد يعترف بهم وبالتالي لا يوجد دولة على أرض الواقع.

بعض الدول المجهرية تخطت مرحلة الفكرة لتثبت وجودها في الواقع بإصدار عملات وطوابع وجوازات سفر وأعلام، وقد تستخدم هذه الأشياء لمحاولة إضفاء طابع رسمي قانوني على الدولة.

أغلب أو كل الدول المجهرية في الماضي والحاضر كانت بلا موقع محدد أو سكان ثابتين، وهذا ما يجعلها مشاريع دول خيالية وليست دولًا قابلة لأن تكون رسمية ومعترفًا بها في يوم ما. وهذه الدول قد يكون إنشاؤها لأغراض سياسية كمحاولة إنشاء دولة مستقلة في نظام سياسي معترف به، أي دولة داخل دولة، أي مشروع دولة جاد وليس أمرًا فكاهيًا.

محاولة إنشاء نموذج دولة لتوضيح فكرة عن الحريات أو الثقافات أو طريقة إدارة الدول أي يمكن أن نعتبرها مشروعًا تعليميًا وتجريبيًا عن طريق إنشاء مجتمع صغير من الناس يشتركون في الأهداف والأفكار يعيشون التجربة معًا.

ولا بد من التفريق بينها وبين الدولة الصغيرة، وهي الدول الصغيرة جدًا في عدد السكان أو في مساحة الأرض أو كلتيهما معًا، أو قائمة الدول ذات الاعتراف المحدود، وهي الدول التي تسعى للحصول على اعتراف دولي وليس لديها علاقات دبلوماسية كاملة مع المجتمع الدولي.

وفي هذا المقال سنتناول أشهر خمس دول مجهرية غير معترف بها دوليًّا:

1) ليبرلاند

لعل الدولة الأشهر و الأحدث في هذه القائمة هي ليبرلاند مذ كان إعلانها دولة مثيرًا للجدل خصوصًا في الوطن العربي حيث أعلن مواطن تشيكي يدعى فيت جيدليكا العضو بأحد الأحزاب التشيكية عن إقامة دولته الخاصة على منطقة متنازع عليها بين كرواتيا وصربيا حيث لا يدعي أي من هاتين الدولتين تبعية هذه الأراضي لها وأطلق عليها اسم «ليبرلاند».

وأكد «جيدليكا» أنه سيواصل جهوده للتعريف بدولته خلال الأيام المقبلة، مشيرًا إلى أنه ما زال بانتظار رد فعل جيرانه، الذين لم يعلنوا حتى الآن عن موقفهم من جارتهم الجديدة «ليبرلاند»، وفقًا لتصريحاته لمجلة «تايم» الأمريكية.

وأكد «جيدليكا» أنه استمد فكرة دولته من إمارات أوروبا الصغيرة مثل موناكو وليختنشتاين، مشيرًا إلى أن «ليبرلاند» ترفع شعارًا عامًّا أمام «مواطنيها» وهو «عِشْ ودع الآخرين يعيشوا»، حيث لا يخضع المواطنون فيها للتصنيف وفقًا للجنس أو الدين أو العرق، بحسب ما جاء على موقع «إنترناشونال بيزنس تايمز«.

وأعلن رئيس البلد الجديد حاجة بلده إلى مواطنين تتوفر فيهم الشروط التالية:

  1. احترام الآخرين وآرائهم على اختلاف أصولهم وأعراقهم ودياناتهم.

  2. احترام الملكية الخاصة وعدم المساس بها.
  3. ألا يكون له تاريخ نازي أو شيوعي أو تبنى في الماضي أي فكر متطرف.
  4. لم يعاقب أو يصدر ضده أحكام بشأن جرائم ارتكبها في الماضي.

2) لادونيا ورسالة الفن

من العجيب أن تعلن عن قيام دولة لا تحتوي إلا على أعمال فنية!

وهو ما قام به لارس فيلكس، وهو رسام وكاتب سويدي ويحمل شهادة في الفلسفة، ورغم شهرته في العالم العربي والإسلامي بسبب رسوماته المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلا أنه عُرف في بلاده بسبب معركة قضائية خاضها مع السلطات السويدية حول نصبين من الخشب أقامهما عام 1980، ما دفعه لإعلان قيام دولة مستقلة على الأرض التي يقومان عليها أسماها «لادونيا«.

في عام 1980، بدأ فيلكس بناء منحوتتين الأولى تسمى   Nimisوهو عبارة عن هيكل مصنوع من 75 طنًا من الخشب الطافي، والمنحوتة الثانية تسمى  Arxوهو هيكل مصنوع من حجر.

موقع المنحوتات من الصعب الوصول إليها لتطرف موقعها، ونتيجة لذلك لم تكن قد اكتشفت من قبل السلطات المحلية لمدة عامين، وعندها قرر المجلس المحلي ضرورة إزالة التماثيل. قالوا أن هذه التماثيل عبارة عن منازل مبنية على محمية طبيعية، والمحمية الطبيعية محرم البناء عليها.

ناشد فيلكس قرار مجلس الأمن، لكنه خسر. وناشد مرارًا وتكرارًا، والقضية في النهاية حسمت لصالح المجلس المحلي السويدي.

في غضون ذلك تم بيع Nimis للفنانين كريستو وجين كلود بعد وفاة جوزيف بويس، الذي اشتراها في عام 1984 وفي عام 1996 أعلن فيلكس من لادونايا دولة مجهرية اعتراضًا على قرار المجالس المحلية.

3) سيلاند

إذا أردت أن تقيم دولة على أرض غير منتازع عليها ولا يرغب أحد بها فما المكان الأفضل من قلعة بحرية مهجورة منذ الحرب العالمية الثانية!

سيلاند هي دولة مجهرية، مساحتها 550 مترًا مربعًا تقع في بحر الشمال، وهي عبارة عن قلعة بحرية سابقة تسمىHM Fort Roughs

قامت القوات البحرية الخاصة بالمملكة المتحدة ببنائها عام 1942 لأجل استخدامها في الحرب العالمية الثانية وبعد أن غرقت واستقرت على الأرض كونت جزيرة صناعية أصبحت تعرف باسم سيلاند.

تحتوي القلعة ما يلزم من مدافع رشاشة مضادة للطائرات ومؤونة تكفي لعشرات من الجنود، وبنيت كل هذه القلاع في الساحل الشرقي والجنوب شرقي من بريطانيا، وبنيت في المياه الإقليمية التابعة لها، ما عدا واحدة بنيت على بُعد 7 أميال من الساحل أي في المياه الدولية.

هبط إليها بادي روي بايتس، الذي كان يخدم في الجيش البريطاني برتبة رائد، ثم عمل في إذاعات مختلفة، على إحدى القلاع البحرية الأخرى 1967 وأوقفت السلطات البريطانية إذاعة بادي، فتحرك لاحتلال القلعة البحرية HM Fort Roughs، وبعد أحداث صغيرة ومعركة مع أشخاص آخرين، استطاع بادي التحكم بالقلعة البحرية، لكنه لم يبث إذاعته من هناك، بل أعلن أن هذه القلعة هي الآن «إمارة سيلاند»، وسمى نفسه «روي أمير سيلاند«. من الناحية القانونية لا يعترف أحد بدولة «سيلاند» وفي 23 يونيو 2006 تعرضت الجزيرة لحريق نتيجة عطل كهربي، وفي بداية عام 2007 تم عرض الجزيرة للبيع على الإنترنت بسعر باهظ يبلغ 10 ملايين جنيه إسترليني، نحو 19.5 مليون دولار ومن ذلك الحين لم يرغب أحد في شراء سيلاند!

4) مملكة أراوكانيا وباتاغونيا

الاستقلال بمدينة أو منطقة لتعلن دولة مجهرية فيها بغرض سياسي ظاهرة كانت منتشرة في عهد الاستعمار، ومن أشهر هذه المحاولات مملكة أراوكانيا وباتاغونيا.

أسسها محامٍ فرنسي يدعى أوريلي-أنتون تونينس في عام 1860م في منطقة قسمت اليوم بين الأرجنتين وتشيلي، المحامي كان متعاطفًا مع سكان المنطقة الأصليين الذين قادوا كفاحًا مسلحًا للبقاء مستقلين.

كان السكان الأصليون من المابوتشي قد بدؤوا صراعًا مسلحًا يائسًا للحفاظ على استقلالهم في وجه الاعتداء العسكري والاقتصادي من قبل حكومتي تشيلي والأرجنتين، اللتين كانتا طامعتين في أراضي المابوتشي لاستغلالها كأراض زراعية.

وأثناء زيارته للمنطقة في عام 1860 م تعاطف أوريلي-أنتون مع قضية المابوتشي فقام قادتهم بانتخابه لمنصب ملك ربما لظنهم أن قضيتهم سوف تدبر بشكل أفضل إذا ما مثلهم رجل أوروبي. بدأ أوريلي-أنتون عندها بتأسيس حكومة وعملِ علم من الأبيض والأزرق والأخضر وسك عملة للدولة ختمت بعبارة فرنسا الجديدة (Nouvelle France).

قوبلت جهوده في تأمين اعتراف دولي بمملكته بمقاومة من الحكومتين التشيلية والأرجنتينية، والتي ألقت القبض عليه وسجنته ثم نفته في عدة حوادث. توفي الملك أوريلي-أنتون فقيرًا في فرنسا في عام 1878م بعد سنوات من الجهود غير المثمرة لاسترجاع حقه وسلطته على مملكته المحتلة.

5) جمهورية زفتى

يوسف الجندي رئيس جمهورية زفتى

 

هل سمعت من قبل عن إمبراطورية زفتى؟

لعل النموذج العربي الأشهر في الدول المجهرية هو جمهورية زفتى.

أعلنت مدينة زفتى بمحافظة الغربية استقلالها عن السلطة المصرية المحتلة من قبل بريطانيا في 23 مارس أثناء ثورة 1919 لم يكن استقلال المدينة ماديًّا بل كان استقلالًا معنويًّا كنوع من أنواع الثورة الشعبية ضد الاحتلال.

فى صباح يوم 18 مارس كون الثوار المجلس البلدي الحاكم برئاسة المحامي الشاب يوسف الجندي، وأعلنوا الاستقلال عن الدولة المصرية.

كون المجلس الحاكم عدة لجان منها لجنة التموين والإمداد، وكانت مهمتها حصر المواد التموينية وحسن توزيعها على أهالي البلدة، ولجنة النظافة وكانت من أنشط اللجان حيث كانت تنظف كل شوارع البلدة وترشها بالماء وإنارة الطرقات ليلًا، ولجنة الإعلام وتولاها محمد أفندي عجينة وكانت تقوم بطبع المنشورات السريعة لتوضيح الوضع العام في البلدة، كما قامت اللجنة بإصدار جريدة يومية وكان اسمها جريدة جمهورية زفتى.

كما شكلوا لجنة الأمن والحماية وتولى الإشراف عليها الضابط الشاب محمد أفندي، فجمعوا الرجال من الخفر والأهالي من القادرين على حمل السلاح وقسموهم إلى مجموعات كل مجموعة تتولى حماية إحدى مداخل البلدة.

سقوط الجمهورية عمدت سلطات الاحتلال الإنجليزي إلى إرسال فرقة من الجنود الأستراليين للقضاء على هذه الانتفاضة فما كان من «لجنة الثورة» إلا أن طبعت منشورًا بالإنكليزية ووزعته على الجنود ومما جاء فيه: «أيها الجنود، أنتم مثلنا، وإننا نثور على الإنجليز لا عليكم أنتم. إننا نثور من أجل الخبز والحرية والاستقلال. والإنكليز الذين يستخدمونكم في استعبادنا يجب أن يكونوا خصومكم أيضًا». رفض الجنود اقتحام «الجمهورية»، واكتفوا بالانتشار في محيطها. وعند ذلك الحد أرسلت السلطات تعليمات لتسوية الأمور بشروط منها أن يسلم أهالي زفتى 20 رجلًا منهم كي يتم جلدهم، حفاظًا على هيبة «الدولة».

قررت «لجنة الثورة» تسليم 20 رجلًا، واختارتهم من الوشاة وعملاء الإنكليز.

كما سبق وذكرنا بأن الدول المجهرية قد تكون نموذجًا للدول الفعلية كما كانت جمهورية زفتى نموذجًا للثورة والكفاح في وجه الاحتلال، كما أثبت النموذج نجاح إدارة وقدرة الثوار في تنظيم والحفاظ على نموذج الدولة في زفتى.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد