أمران تحكما وما زالا يتحكمان إلى يومنا هذا في خطاب الفلسفة في وطننا العربي: أولهما حمولة تاريخ الفلسفة الغربية، وثانيهما الموروث الإسلامي، وبين المحدد الأول والثاني وفي سياق المجرى التاريخي الذي يؤطر القول الفلسفي العربي، استقرت عادة إنتاج القول الفلسفي محددة نمطها الفكري استنادًا إلى مرجعيتين يستطيع المهتم بالنصوص ذات الصيغة الفلسفية في الفكر العربي أن يتلمس ثقلهما في صياغة منطق الكتابة، كما يستطيع تبين الدور الذي لعبته في توجيه الخطاب الفلسفي العربي[1]، وهاتان المنظومتان هما: المرجعية الإسلامية، والمرجعية الغربية، فإذن ستكون مهمتنا في هذا القسم أن نتبين كيف حضرت هاتان المرجعيتان في القول الفلسفي العربي مشكًُلتين سندًا مرجعيًّا له.
الإجابة عن هذا السؤال تقتضي منا الوقوف عند اتجاهين يتعلقان بثقل هاتين المنظومتين:
الاتجاه الأول:حركة الإحياء أو البعث، التي سعت إلى نفض الغبار عن حصيلة الترجمة الفلسفية العربية الأولى، مع التخلي عن حصر مفهوم الفلسفة في معناه الاصطلاحي المقصور على المنتسبين إلى المدرسة اليونانية بفرعيها المشائي والأفلاطوني.
وهذه الحركة تتألف من ممارسي الإحياء من جيل النهضة، رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، محمد إقبال، الذين استعادوا مقولات الاعتزال والرشدية ووائموها مع زمنهم الحضاري[2].
فكان خطابهم خطابًا إصلاحيًّا ركز على فهم الإسلام وتاريخه، وهو خطاب مؤسس على طريقة في التفكير عرفها الباحثون العرب القدامى وهي قاعدة (قياس الغائب على الشاهد).[3]
الغائب هنا هو المستقبل الذي ينشده هذا الخطاب المتمثل في: «التقدم، الحداثة، النهوض»، والشاهد هنا هو النموذج الحضاري الإسلامي، وعملية القياس هنا تأتي مستندة إلى قول الإمام مالك:«لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها».
وهذا ما يسجله جمال الدين الأفغاني الذي يكاد ينطق بلسان الغزالي وبألسن عشرات من المصلحين الذين تقدموه.[4]
«إن علاج هذه الأمة يكون برجوعها إلى قواعد دينها والأخد بأحكامه على ما كان بداية، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية لتطهير القلوب، وتهذيب الأخلاق، وإيقاد نيران الغيرة، وجمع الكلمة، وبيع الأرواح لشرف هذه الأمة»، ويؤكد الأفغاني كون هذا هو السبيل الواحد للرشاد؛ فمن «طلب إصلاح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه فقد ركب شططًا وجعل النهاية بداية، وانعكست التربية وخالفت فيها نظام الوجود، فينعكس عليه القصد ولا يزيد الأمة إلا نحسًا ولا يكسبها إلا تعسًا».[5]
إن الأفغاني هنا يختزل الإصلاح في الرجوع إلى المنابع الأولى للحضارة الإسلامية، ويحصر إمكانية النهوض في هذه الدائرة لا سواها، إن الملاحظة التي يمكن نلاحظها هنا أن المرجعية – الإسلامية – الحاضرة بقوة هنا طبعًا جعلت من هذا الخطاب ميكانيزما للدفاع يحتمي بالماضي ويؤكد من خلاله شخصيته ضد الخطر الخارجي.[6]
الاتجاه الثاني: حركة الاستنبات التي سعت إلى توطين الفكر الغربي الحديث بكل اتجاهاته العلمية، والأدبية، والتقنية، والمجتمعية، والفلسفية بحيث إن مفهوم الفلسفة صار هنا كذلك ذا معنى شامل، فهو قد بات منسحبًا على التصور الحديث للعالم، ومنه الفكر الفلسفي بوصفه ذروة هذا التصور، وقد تأثرت حركة الاستنبات هذه بمناهج الفلسفة الوضعية، فنجد الملتزم بالوجودية والماركسية، والوضعية والذريعية مقابل قضايا عربية إسلامية بسنن غربية مكيفة مع الوضع العربي.
فتبلور خطاب يقضي بالضرورة بتصفية الحساب مع الماضي في صورته الماضوية، والارتكاز على خطاب نقدي داعٍ للإقلاع عن ثقافة الماضي، وإحداث قطيعة معها إطلاقًا، وعدم الركون لانتقائية معرفية تاريخية مفصولة عن شروطها الموضوعية التي أنتجها، وذلك على اعتبار أن الماضي لا دخل له في الحاضر، فلا معقولية له، إذ إن المعرفة التراثية كابحة للإصلاح والبحث والتطور، وأن العقل المشكل منها عقل مؤطر بالماضي لا قيمة له ولا منفعة فيه[7]، وهكذا أيضًا يقطع طه حسين وهو أحد رواد هذا الخطاب «إن سبيل الحداثة واضحة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أن نسير سير الأوروبي ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا، ولنكن لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها، ومرها ما نحب منها وما نكره وما يحمد منها وما يعاب»[8].
لعلنا لا نحتاج بعد هذا إلى مزيد كلام لنبين ثقل المنظومتين: الإسلامية والغربية في المعطى الفلسفي العربي بوصفهما مرجعيتين استند إليهما الخطاب الفلسفي العربي في تشكيل قوله الفلسفي، لكن إذا عدنا على ضوء ما تقدم سنجد أن الخطاب الاستنباتي لا يختلف في المضمر عن الخطاب الإحيائي إلا في الإطار المرجعي الموجه، أما طريقة التفكير واحدة، ذلك أن هناك دائمًا شاهدًا يقاس علية، سواء تعلق الأمر بماضٍ غائب (التراث الإسلامي) أو حاضر قائم (الحضارة الغربية ).
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست