يرتبط ابن خلدون لدى الكثيرين بشخصيته المعرفية الفذة التي قل نظيرها، وبإسهاماته العظيمة في التأسيس لعدة حقول معرفية خاصة فلسفة التاريخ ومبادئ الاجتماع البشري، وكذلك في كونه من الرواد المؤسسين للمنهج الواقعي والاستقرائي الذي يتخذ من الواقع الاجتماعي ميدانًا للتحليل والدراسة.
يمكن القول بأن الإسهامات العظيمة التي دشنها ابن خلدون شكلت ثورة معرفية، سواء من حيث مباحثها بتطرقها لميادين جديدة، وكذلك من حيث منهجه الفكري الذي خالف فيها الاتجاه السائد الذي كان يميل إلى استنباط الأحكام الجاهزة والعامة وقياسها على ما هو خاص دون مراعاة تفردها ودون الاهتمام بالقوانين التي تتحكم فيها، والأكيد أن هذه العبقرية الفذة التي تفتقت في مرحلة بالغة السواد من تاريخ الأمة الإسلامية تبقى من الألغاز الغامضة والتي تضاربت حولها الآراء وشكلت موضوعًا لنقاش مستفيض حول بواعثها وأسباب انبعاثها، وبالتالي تشعبت المذاهب في تعليلها وفهم مقوماتها كل حسب زاويته ومنطقه الخاص.
والواقع أن ما نسميه العبقرية لا تولد مع الإنسان ويختص بها دون أقرانه عرضًا، بل تتأثر بجملة من العوامل والمؤثرات تسهم في صقلها وشحذها، فالإنسان ابن بيئته حسب القول المأثور وإذا تمحصنا سيرة هذا العالم سنجدها قد تضمنت كل شروط تحققها، فهو ينحدر من أسرة عرفت بالعلم وبمزاولتها المهام السياسية وقد وصفها ابن الحيان بأنها كانت تتقلب بين الرئاسة السلطانية والرئاسة العلمية.
وفي هذه البيئة المترفة تيسرت له سبل الارتقاء الفكري كما جعلته على احتكاك دائم بالواقع ومشاكله، خاصة حينما انخرط بدوره في شؤون الحكم سواء بالأندلس أو المغرب الإسلامي، وعليه فإن هذه العوامل متى ما توفرت إلا وانعكست إيجابًا على شخصية الفرد، من منطلق أنها تساعد على النضج المبكر علاوة على اتساع المدارك العقلية وهو ما نراه في شخصية ابن خلدون منذ نشأته الأولى في بيت أهله ومحيطه القريب.
يرى الدكتور علي الوردي أن النشأة المبكرة والتجارب الشخصية التي طبعت محطات حياته قد خلفت في أعماقه صراعًا نفسيًّا، بين حبه للعلم والدراسة وحبه للسياسة والحكم، ولهذا نجد أنه كلما اعتزل السياسة للتفرغ للعلم شده الحنين لمعاودة سيرته السياسية والخوض في دسائسها وصراعاتها، وحتى في فترات عزلته وانقطاعه عن الوظائف الحكومية ظلت ميوله سياسية حاضرة في مباحثه العلمية، خصوصًا في تأملاته للظواهر الاجتماعية وللحوادث المتعاقبة والتطورات السياسية التي شارك فيها جاعلا منها مادة للدراسة والتحليل، بل وتجاوز نطاق ذلك عبر استقراء تلك المبادئ التي تتحكم في نشأة الدول وأطوارها وكيفية انهيارها وفي قوانين الظواهر الاجتماعية.
هناك رأي آخر يذكره طه حسين يمكن الاستعانة به لفهم طبيعة هذه العبقرية العلمية، ويمكن كشفه من الظروف السياسية التي عرفها القرن الرابع عشر، فقد كان عصر التراجع الإسلامي أمام المد المسيحي الإيبيري ببلاد الأندلس، كما كان عصر اجتياح القبائل البدوية العربية للغرب الإسلامي بما ترتب عنه من فساد وخراب للمراكز الحضارية الزاهرة، إضافة إلى الغزو المغولي للعالم الإسلامي بكل أهواله ومآسيه، دون نسيان ما تعرض له هو شخصيًّا من مأساة فقدان الأحباب جراء وباء الطاعون ثم تجارب الفشل في مهامه السياسية وتعرضه للذل والسجن على يد الأمراء والحكام، ومما لا شك أن هذا قد خلف ندوبًا عميقة في وجدانه وفكره وقد دفعته للتأمل فيها بشكل عميق، وكانت من أسباب تبنيه للنزعة التشاؤمية في دراسته للتاريخ وميله لقبول منطق السيرورة الحتمية أي أن للتاريخ مسار حتمي لا بد من أن يصل إليه، وقد وظف هذه الرؤية في منهجه للتعامل مع ركام فوضى الحوادث والكوارث وإعادة قراءة الماضي بشكل واقعي، محاولًا إعطاء معنى لها ثم التوصل إلى منطقها الخاص.
مثلت مباحث ابن خلدون وأفكاره في فلسفة التاريخ اتجاهًا جديدًا لم يسبقه أحد في ذلك، وإن كانت العديد من القضايا التي تطرق لها قد وردت عرضًا في العديد من المؤلفات الفلسفية والعلمية والمصنفات الفقهية، فقد استفد منها واستند عليها لتدعيم أفكاره وبقريحته العلمية الفذة ونظرته الواسعة في التعامل مع المسائل والقضايا الفكرية تمكن من إجراء الكثير من التحوير والتغيير عليها عبر التعمق في معالجة العديد من القضايا التي وردت في أفكار سابقيه بشكل عرضي تحليلا وتفسيرًا، ومن هذا الخليط غير المتجانس صاغ نظريته في فلسفة التاريخ الإسلامي التي نجد تفاصيلها في كتابه الشهير المقدمة.
ومما ساعده في ذلك كما أسلفنا نشأته ببلاد إفريقية أي تونس الحالية، ففي ذلك الوقت شكلت مركزًا حضاريًا مرموقًا كانت تضاهي في إشعاعها حواضر الأندلس والمشرق الإسلامي كبغداد والقاهرة، برز فيها العديد من العلماء والفلاسفة تلقى عنهم نمطين من التعليم سواء بصفة مباشرة عن طريق الملازمة والتلقين أو بصفة غير مباشرة عن طريق الاطلاع على المؤلفات والتصانيف، فالنمط الأول فقهي مكنه من ضبط طرق الاستنباط والاستدلال ومناهج المحدثين في التحقيق والتقصي، أما الثاني فهو عقلي فلسفي وهذا الأخير كان بالغ الأثر في تفكيره الشمولي ونزوعه نحو الفكر المنطقي الذي ينظر نحو جوهر القضايا لا صورتها الشكلية.
يعتقد طه حسين أن ابن خلدون لم يكن بمقدوره إبداع هذه الأفكار لو عاش في زمن آخر، إذ كان من الضروري أن يطلع على كم هائل من العلوم والمعارف التاريخية والجغرافية لتدعيم أفكاره بالشواهد ومن ثم تأكيد صحة منطقه، وقد استطاع تحقيق ذلك لأن في ذلك العصر بدأت تظهر الموسوعات الضخمة ذات المجلدات المجمعة في شكل دائرة المعارف احتوت خلاصات الفكر العلمي، وهذا الاتجاه الفكري نراه عند النويري الذي كان من السباقين في هذا النوع بموسوعته الضخمة التي شرح فيها كل معارف من آداب وعلوم وتاريخ وجغرافيا، وامتد هذا الميل ليشمل حتى الفروع التخصصية حيث ظهرت دائرة معارف جغرافية وضعها العمري اضافة إلى مؤلف اخر في التاريخ وضعه القلقشندي، ومما لا شك فيه أنها كانت عونًا مهمًا ومادة مصدرية يسرت توسيع أفكاره والتعمق فيها، وقد اطلع على الكثير منها أثناء أسفاره في أقطار العالم الإسلامي.
والشاهد أن هذه العوامل التي كشفنا عنها لا تحط من مقدار الإبداع والفكر الخلاق الذي اتسم به ابن خلدون، فدوره الفكري يشبه ذلك البناء الذي يجمع أخلاطًا من المواد ثم يعيد جمعها وتشكيلها في معمار هندسي بديع، وحسبه كذلك أنه سلط الضوء على قضايا في أصول نشأة الحضارة وصراعها مع البداوة وفي بزوغ الدول وانهيارها لم يطرق بابها أحد قبله، غير أن سوء الحظ جعله معاصرًا لطور الانحدار والانحلال الحضارة الاسلامية ولذلك لم يحظ بالتقدير والمكانة التي يستحقها، ولم تكتب لنظرياته وأفكاره الانتشار إلا في عصور متأخرة وعلى يد المستشرقين والمفكرين الغربيين، ويمكن أن نذكر في هذا الصدد المؤرخ أرنولد توينبي، حيث يعتبر ابن خلدون أحد الروافد الفكرية التي استند عليها في صياغته لنظريته الشهيرة في تفسير التاريخ البشري والمعروفة باسم الاستجابة والتحدي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست