“في حين أن الممثل هو العنصر الرئيس في فن المسرح، فإن المخرج في فن السينما هو العنصر الرئيس والأهم. والفيلم وإن نُسب – تجاريًّا- إلى بطله، أو إلى منتجه، إﻻ أنه دائمًا ما ينسب – فنيًّا- إلى مخرجه، فيقال (فيلم لـ فلان الفلاني)”.

يعجبني دومًا الاستشهاد بتلك المقولة وإن كنتُ ﻻ أعرف على وجه التحديد من قائلها، ربما كنت أنا صاحبها، أو ربما قرأتها هنا أو سمعتها هناك وعمدت إلى ترديدها والاستشهاد بها بين الحين والآخر حتى التصقتْ بي والتصقتُ بها. على أية حال، طالما تعلق الأمر بفن السينما فابحث دومًا عن المخرج.

فيلم The Grand Budapest Hotel أو “فندق بودابست الكبير” من إنتاج عام 2014، والحائز على أربعة جوائز “أوسكار” من أصل تسعة ترشيحات، للمخرج المتميز Wes Anderson. قد يبدو الفيلم بتعبير الترجمة السينمائية “غريب الأطوار”، معقدًا بدرجة ما، عصي على الفهم أحياناً، ولذلك لن تجد – بعد أن تذرع الشبكة العنكبوتية من أقصاها إلى أقصاها- مقالًا نقديًّا بالعربية يتناول هذا الفيلم ﻻ بالمدح أو التقريع. لكن هذا شأن أفلام “أندرسون” التي وإن بدت غير مفهومة في ظاهرها إﻻ أنها تحمل من القيمة الفنية الكثير.

المخرج

ويسلي ويلز أندرسون. ولد بمدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية عام 1969. كانت لطفولته التأثير الأكبر على تكوين شخصيته الفنية التي أضفت طابعًا خاصًا على كل أفلامه. بدأ شغفه بالسينما منذ الطفولة حيث اعتاد إخراج الأفلام الصامتة التي قام بالأداء فيها أخواه وأصدقاؤه، وباستخدام كاميرا أبيه (super 8) تلك الكاميرا التي ذاع صيتها في الستينيات والسبعينيات وقدمتها شركة كودك باعتبارها نقلة نوعية في مجال الأفلام المنزلية أو أفلام الهواة.

وعلي الرغم من هذا الشغف المبكر للإخراج والكتابة، لم يتجه أندرسون إلى دراسة السينما، وإنما درس الفلسفة بجامعة تكساس. وهناك التقى بصديقه ورفيقه الفني الممثل والكاتب Owen Wilson، الذي شاركه في صناعة عدد من الأفلام القصيرة التي عُرضت في حينها على شبكات التلفزيون المحلية كان أخرها فيلم Bottle Rocket عام 1994، والذي ﻻقى استحسانًا على نطاق واسع وهو ما جلب التمويل اللازم لأندرسون ليتحول فيلمه القصير إلى فيلم سينمائي طويل عام 1996، وليبدأ به مسيرته الفنية التي امتدت طوال ما يقرب من العقدين من الزمن، قدم خلالها ثمانية أفلام كانت حصيلته من ورائها ستة ترشيحات لجائزة الأوسكار ثلاثة منها لفيلمه الأخير The Grand Budapest Hotel.

التيمة الفنية

يقولون في الأمثال الشعبية “صاحب بالين كداب”، أما في السينما فكثيرًا ما يصدق ذو البالين، وكثير من المخرجين يميلون إلى الجمع بين الإخراج والكتابة، فيشاركون في كتابة أفلامهم أو يكتبونها بمفردهم، وربما لهذا السبب تتشابه أفلامهم إلى حد كبير، وتصطبغ بصبغتهم الخاصة. هكذا هي أفلام أندرسون الذي شارك في كتابتها جميعًا. ولكن ليس لهذا السبب وحده تتميز أفلامه عن غيرها حتى لتقترب من كونها أيقونة سينمائية متفردة، بما يجعل المشاهد لدى تعرضه بشكل عشوائي ﻷي من مشاهد أفلامه – أو “صوره” على حد التعبير اللغوي بالإنجليزية- أن يجزم دون سابق معرفة بأن هذا الفيلم مطبوع بخاتم أندرسون، وإنما لعدد من الأسباب منها:

القالب البصري والسردي

يستمد أندرسون التيمة الفنية المميزة له من عدة عناصر عمد إلى تكرارها في أفلامه، أولها وأهمها القالب البصري والسردي، حيث يعتمد أندرسون على أسلوب مميز في السرد والانتقال بين الأحداث سواء على مستوى التصوير حيث الحركة الذكية والمعبرة للكاميرا، أو على مستوى الكتابة حيث التفاصيل المتداخلة واللعب على أكثر من سياق زمني في شكل قصة داخل قصة. ففي The Grand Budapest Hotel يبدأ الفيلم في الزمن الحاضر بقصة الفتاة التي تزور النصب التذكاري لكاتب تحمل مذكراته الخاصة بين يديها، ثم تأخذك الكاميرا إلى الكاتب نفسه يجلس إلى مكتبه في عام 1985، الذي يواجه الكاميرا ويبدأ في قراءة الفصل الأول من مذكراته التي تحكي رحلة قام بها إلى فندق بودابست الكبير. ثم تنقلك الكاميرا مرة أخرى إلى الفندق في عام 1968، عندما التقى الكاتب بمالك الفندق الذي يروي له كيف أصبح مالكًا لهذا الفندق الكبير، ومن ثم تنتقل بك الكاميرا إلى المرحلة الأخيرة والقصة الرئيسية في الفيلم والتي تبدأ أحداثها في عام 1932. وبانتهاء أحداث القصة الرئيسية تعود بك الكاميرا القهقري في الزمن، فتنتقل من الثلاثينيات مرورًا بالستينيات ثم الثمانينيات وأخيرًا إلى الوقت الحاضر، في رحلة بانورامية أخاذة الجمال.

Let me tell you about my boat

الجوانب التقنية

إذا ما تخيلنا أن مباراة ما تجري رحاها بين التقنيات الحديثة (المؤثرات البصرية والسمعية)، وبين الإبداع البشري في فن السينما، فيمكننا القول بمنتهي الأريحية إن “أندرسون” قد تغلب بهذا الفيلم على التقنيات الحديثة ودحرها في عقر دارها (على حد تعبير معلقي كرة القدم). فعلى الرغم من انتشار المؤثرات التقنية بأغلب مشاهد الفيلم، إﻻ أن أندرسون برع في تطويعها واللعب عليها – بل والتلاعب بها- لتقديم فيلم سينماتوغرافي (Motion picture) في صورة فيلم رسوم متحركة (Animated picture)، وهو ما ستلاحظه جليًّا في أداء الممثلين وحركتهم، حركة خطية مستقيمة تبدو مرسومة بالقلم الرصاص أكثر منها طبيعية، سترى ذلك في مشهد المطاردة على الثلج، ومشهد الهروب من السجن، وغيرها من المشاهد بطول الفيلم. ستلاحظه أيضًا في هيئة الشخصيات وأزيائهم ما يجعل بعض الشخصيات مثل “الشقيقات الثلاثة” تبدو وكأنها كرتونية وليست طبيعية.

وإلى جانب أداء الممثلين، برع أندرسون في توظيف حركة الكاميرا لتساهم في إضفاء تلك الهالة الكرتونية، بالإضافة إلى دورها في “كوميديا الموقف”، ففي أحد المشاهد يذهب “زيرو” لزيارة “مستر جوستاف” في السجن، يظهر “زيرو” في الكادر ضئيلًا أمام بوابة السجن الهائلة، يقرعها عدة مرات قبل أن يسمع صوت صرير لبابٍ يُفتح، يتلفت حوله مندهشًا حيث البوابة ﻻ تزال على حالها، ثم تتحرك الكاميرا بضعة إنشات إلى اليسار ليظهر في الكادر باب الدخول صغيرًا ملاصقًا للبوابة الهائلة.

العائلة

فكرة العائلة حاضرة في كل أفلام أندرسون، وقد يرجع ذلك إلى التجربة التي عايشها في طفولته حين انفصل والداه وهو ما يزال بعدُ في الثامنة من عمره، واضطراره إلى الانتقال للعيش مع والدته. ولذلك ستجد أن أندرسون يستحضر طفولته في كل أفلامه، فستجد مثلًا أن شخصية الأم في فيلم The Royal Tenenbaums كانت عالمة آثار وكذلك كانت والدته، بل إنها أدت بعض المشاهد باستخدام العوينات الخاصة بوالدة أندرسون. كما أن فيلم Rushmore والذي يحكي قصة طالب بمدرسة ثانوية، قد تم تصويره بمدرسة St. John’s School، وهي المدرسة التي قضي بها أندرسون المرحلة الثانوية.

ومن ذلك أيضًا أن أندرسون كرر الاعتماد على عدد من الممثلين حتى ليكاد يتطابق طاقم العمل بكل أعماله. فمن بين أفلام أندرسون الثمانية شاركه صديقه ورفيقه الفني Owen Wilson في بطولة ستة أفلام، وشاركه الكتابة في ثلاثة منهم. وكذلك الممثل Jason Schwartzman الذي شاركه العمل في خمسة أفلام. أما الرقم القياسي فيعود للمثل Bill Murray صاحب الفيلم الشهير “Groundhog Day” الذي اقتُبست فكرته في فيلم “ألف مبروك” لأحمد حلمي، وقد شارك أندرسون في سبعة أفلام من إجمالي ثمانية. وهذا الأمر من الغرابة إلى الحد الذي يدفعني إلى أن أتخرص و”أتفذلك” وأقول “أن أندرسون يجد في الاعتماد على أصدقائه بشكل متكرر نوعًا من الحميمية العائلية التي افتقدها في طفولته”.

الهزلية

عندما كان في الثانية عشر من عمره جمع “ويز” أبويه ليطلعهم على رغبته في ترك المنزل والانتقال إلى فرنسا، ومن أجل ذلك قام بتحضير عريضة مسببة ليقرأها عليهما ويشرح فيها دوافع ومبررات قراره، وجاء في ثناياها أن “النظام التعليمي بفرنسا أقوى من نظيره بالولايات المتحدة، ﻻ سيما فيما يخص برنامج العلوم”.
قد تلخص هذه الحادثة فلسفة المخرج “ويز أندرسون” ونظرته الهزلية للحياة. تلك النظرة التي ساهمت في تشكل التيمة المميزة لأفلامه.

وبالعودة إلى فيلمنا The Grand Budapest Hotel فأحداث الفيلم تدور في دولة Zubrowka الخيالية والتي تقع على جبال الألب بشرق أوروبا في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، وقبيل الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من حالة التأهب القصوى التي يعيشها هذا البلد تحسبًا للحرب، ستجد أن ضابط الجيش Henckels منشغل طوال الوقت في مطاردة Gustave في مشهد هزلي ممتد طوال الفيلم. وبقليل من البحث بعد مشاهدتك للفيلم ستعرف أن اسم الدولة الخيالية Zubrowka هو في الحقيقة اسم يطلق على نوع من الفودكا المصنعة في بولندا، والتى تحظى بشهرة واسعة في كل أوروبا. وستعرف أيضًا أن الوحمة على وجه Agatha هي بالفعل على شكل دولة المكسيك.

الجائزة

على الرغم من أن “أندرسون” لم يسبق له الفوز بالأوسكار، إﻻ أن فيلمه الأخير The Grand Budapest Hotel قد فاز بأربع جوائز من أصل تسعة ترشيحات، وهو أكبر عدد من الترشيحات والجوائز يحصدها فيلم في المسابقة لهذا العام. كما أنه هو الوحيد من أفلام أندرسون الثمانية الذي فاز بالجائزة.
وعلى الرغم من أن أندرسون لم يفز بأي من الترشيحات الثلاثة التي وصل إليها عن هذا الفيلم، إﻻ أنك ستلمس طابعه المميز في الجوائز التي حصدها الفيلم. ومن ذلك مثلًا جائزة “أفضل إنجاز في الموسيقي التصويرية” فقد يكون من المدهش أن تعرف أن الموسيقى التصويرية للفيلم اعتمدت على آلة نادرة تدعى “بالالايكا”، وهي آلة شعبية روسية الأصل. هذه الآلة كانت من اختيار أندرسون نفسه وليس Alexandre Desplat المؤلف الموسيقي. وأن أندرسون قد جمع العشرات من عازفي هذه الآلة النادرة من روسيا وفرنسا لتسجيل الموسيقى التصويرية وحضر بنفسه كل جلسات التسجيل.

وكذلك جائزة “أفضل إنجاز في المكياج وتصفيف الشعر” فقد اقتنصها الفيلم عن كامل جدارة واستحقاق على العمل المبدع الذي حول الممثلة Tilda Swinton ذات الخمسة وخمسين عامًا، إلى Madame D، تلك العجوز التي بلغت من العمر أرذله بتجاوزها الثمانين. وقد اعتادت Tilda Swinton أن تقضي الساعات على كرسي المكياج حتى تخرج شخصية مدام دي بهذا الشكل. يقول أندرسون: “نحن ﻻ نعمل عادة بميزانيات ضخمة كتلك التي ينفقها Jerry Bruckheimer، ولكن عندما تعلق الأمر بمكياج مدام دي قلت: “فلنأتِ بأغلى المتخصصين من أجل هذه الشخصية”.

وأخيرًا

أندرسون الذي اعتمد طوال مشواره الفني على ميزانيات متواضعة لإنتاج مستقل، حقق فيلمه The Grand Budapest Hotel أعلى إيرادات حصل عليها فيلم مستقل في عام 2014 بإجمالي 175 مليون دوﻻر. بل إنه تصدر القائمة على الرغم من توزيعه المحدود في دور السينما. فقد حصد في أسبوعه الأول 811 ألف دوﻻر بعد عرضه في أربعة مسارح فقط.

لماذا كل هذا الاحتفاء بأندرسون؟ هو ليس احتفاءً بأندرسون بقدر ما هو احتفاء بكل صاحب رسالة، وبكل مناضل من أجل رسالته وفنه. وبالأحرى احتفاءً بالسينما المستقلة التي طالما حلم بها الفنان المصري العبقري أحمد زكي، والذي كان دائمًا ما يشكو صعوبات الإنتاج وظلم التوزيع، وهو ما دفعه للإنتاج بنفسه حتى ﻻ يتنازل عن مستوى من الفن يليق بأحمد زكي، ويليق بكل صاحب رسالة يناضل من أجلها.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

أفلام, فن, هوليود
عرض التعليقات
تحميل المزيد