استعرضنا سويًا في المقال السابق عوامل تكون الأزمة، وكيف كانت بداية الكساد ونتائجه الكارثية على الاقتصاد الأمريكي أولًا، ثم الاقتصادات الأوروبية التابعة ثانيًا، والمترنحة بعد حرب دارت رحاها على أرضها، وجعلت منها ورقة تذروها رياح الأزمة التي هبت من بلاد العم سام. في تلك السطور سنستعرض الأخطاء التي أفضت لتحول الركود الأمريكي لكساد عالمي عظيم، وكيف كانت الحرب العالمية الثانية هي منقذ الاقتصاد الأمريكي.
عوامل تحول الركود ونشأة الكساد
تمثلت أهم تلك العوامل في التوسع الائتماني الكبير من قبل جميع البنوك المركزية وبشكل خاص منذ عام 1920، وعلى رأسهم الفيدرالي الأمريكي بسبب الفشل العام في العالم الغربي بالعودة لمعيار الذهب بعد الحرب العالمية الأولي وبالتالي أعطى مجالًا للسياسات النقدية التوسعية والتضخمية من قبل الحكومات؛ مما أدى إلى توفر كميات ضخمة من الائتمان الرخيص خلق حالة من الانتعاش الوهمي؛ وهو ما يؤدي دومًا إلى ركود حاد في إجراء تصحيحي يحدث دائمًا طبقًا لقوانين حركة السوق المسماة Boom and Bust Cycle، كذلك قيام المصارف بالاستثمار في الأسهم دون حد أو قيد وقيامها أيضًا بالإقراض بضمان ملكية الأسهم، وهو ما نسميه بحساب الهامش «أشبه بنظام المارجن في البورصات العالمية حاليًا»، أدى ذلك لتعريض أموال المدخرين والأسر الأمريكية لخطر كبير نتج عنه ضياع 90% من قيمة مدخراتهم حيث لم تحصل أغلب الأسر سوى على 10 سنتات مقابل كل دولار تم إيداعه في البنوك الأمريكية قبل الأزمة.
في أوائل عام 1930 ضربت موجة من الجفاف الحاد وسط الغرب الأمريكي استمر على مدار 10 سنوات «ما يعرف بسنوات قصعة الغبار نتيجة العواصف الغبارية الناتجة عن جفاف التربة وغياب الغطاء النباتي» لتمتد رقعة الجفاف من تكساس جنوبًا حتى كندا شمالًا، دمرت خلالها الزراعة الأمريكية وكل الصناعات القائمة عليها ودفع بعشرات الآلاف من الأمريكيين لسوق العمل الذي يعاني أصلًا من ركود نتيجة إفلاس المصانع والبنوك؛ فارتفعت معدلات البطالة من 3% لنحو 25% فيما انخفضت أجور من نجحوا في التشبث بوظائفهم بواقع 42%.
بعد الأزمة انتهج الفيدرالي الأمريكي سياسات انكماشية متشددة على أثرها حاولت البنوك الأمريكية التخفيف من أثر الأزمة، وتعزيز مراكزها المالية عبر استرجاع أموالها واستثماراتها وقروضها من المصارف الأوروبية، وهو ما أدى إلى انهيار البنوك الأوروبية ونشر الأزمة لتتحول من أزمة أمريكية لأزمة عالمية تدهورت على أثرها معدلات النمو في العالم وتراجعت الدخول والضرائب وانهارت الجمهورية الألمانية تحت الضغوط الاقتصادية؛ مما مهد لصعود النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، وكلتيهما حركات قومية اتسمت بالعداء تجاه القوي الإمبريالية التي دفعت لتصدير أزماتها على حساب الدول الأقل قوة، ولم تنج من النتائج الكارثية للأزمة سوى دولة اليابان.
السياسات الحمائية التي انتهجها الرئيس هوفر وزاد من تفاقم الأمور إصدار الكونجرس قانون سموت هاولي بفرض قيود جمركية على أكثر من 20 ألف سلعة ومادة مستوردة والبضائع القادمة من الخارج في محاولة منه لحماية الوظائف الأمريكية؛ مما نتج عنه قيود مماثلة من دول العالم أدت في النهاية لسياسات انغلاقية وانخفاض التجارة العالمية بنسبة تراوحت بين 65% – 70%.
ظلال علي حاضرنا
في ختام سرد تلك الأحداث وجب علينا التذكير أن الركود الاقتصادي هو مكون طبيعي لا مفر منه من مكونات الدائرة الاقتصادية وعنصر حتمي يتبع عادة مرحلة من النمو والانتعاش وعادة ما ينتج عن خلل في ميزان قوى العرض والطلب تتمثل نتائجه في تراجع معدلات النمو لربعين متتاليين من العام المالي أو أكثر، وكلما نجحنا في توقعه، والتعامل معه، كان من السهل علينا الخروج منه بأقل الخسائر، واتقاء إمكانية تحوله لكساد قد يستمر لسنوات ويدمر النشاط الاقتصادي للدولة والمستثمرين والعمال لفترات طويلة.
وجب الحديث الآن عن كساد 29 لما تحمله تلك الأيام من ظلال ثقيلة حملت في جعبتها العديد من العوامل ذاتها التي شكلت الكساد العظيم: فبداية من حرب الرسوم الجمركية من قبل أمريكا على عدد من المنتجين الدوليين وعلى رأسهم الاقتصاد الثاني عالميًا المتمثل في الصين، تشتعل في تلك الأيام حرب أخرى متمثلة في سباق النفط والغاز بين كبار المنتجين، كل هذا يأتي بعد 12 عامًا من الأموال الرخيصة التي ضختها البنوك المركزية في أعقاب أزمة الرهن العقاري عام 2008 في شرايين اقتصاداتها عبر الاستدانة؛ مما ساهم في رفع الدين العام الإجمالي للدول لثلاث أمثال الناتج المحلي العالمي ووصول بورصات العالم لأرقام قياسية غير مسبوقة في تاريخها ( تجاوز مؤشر داو جونز الصناعي حاجز 27 ألف و330 نقطة لأول مرة في تاريخه).
أخيرًا ترافقت كل تلك الظروف مع أحد العوامل الطبيعية التي تعوق الإنتاج وتقف حجر عثرة في وجه عجلة الاقتصاد والمتمثلة الآن في جائحة كورونا، والتي سيكون لها ما بعدها من تأثيرات ضخمة قد تمتد لفترة لن تكون قصيرة على النشاط الاقتصادي، وقد تكون الرصاصة القاتلة للنظام المالي بشكله الحالي، والذي حول أغلب دول العالم لنماذج من شركات الزومبي المكبرة التي تعيش فقط على الاستدانة، وتعالج ديونها بمزيد من الديون في دائرة مفرغة ربما تضافرت كل تلك العوامل بعد مرور أكثر من 90 عامًا لتضع حدًا لذلك النموذج الاقتصادي الذي أثبت فشله هذا ما لم تنجح أمريكا في إعادة فرض ذات الظروف التي أسست لقوتها الاقتصادية في أعقاب الحرب العالمية الأولى واستعادة اقتصادها عنفوانه بعد الحرب العالمية الثانية، فهل تلجأ لثالثة لاستعادة هيبتها المفقودة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست