تاريخ الأمم بصفته مخزنًا للذكريات والتجارب يحتوي على فترات انتقالية حادة تميز كل حقبة عن التي سبقتها، وترسم نظامًا جديدًا لعصر تكون أهدافه وأسسه مختلفة عن سابقاتها، كانت الفتنة الكبرى تحديا لعقلية الأمة الجديدة وصاحبة أكبر تأثير سياسي وديني في تاريخ المسلمين، تحددت بعده وبناء على نتائجها ملامح الفرق الإسلامية وتوجهاتها الجديدة والتوزيعات الدينية والكتل السياسية في مختلف أراضي الدولة وأفرزت أيضًا ما يشبه تيارات معارضة للحكم وصاحبة مشروع مستقبلي رؤيته للحاكم وشرعيته تعارض رؤية الدولة، أحدثت هذه الآراء المتضادة والرؤى المختلفة روايات شتى لهذه الأحداث، كل فرقة لها روايتها وتبريراتها الخاصة وموقف عدواني نشأ عن هذه الروايات موجود في معارك كلامية سبقتها حروب أدت إلى هذا الاختلاف، والسبب الأساسي في هذا الاشتباك والحساسية الكبيرة لهذه الفترة هم المشاركون فيها، فقادة هذه الحروب من أعمدة هذا الدين، ضحوا في سبيله وجاهدوا مع رسوله، وأخذوا عنه سنته، وكلهم عند المسلمين مصدق ورأيه مقدم، فعلى هؤلاء كان الخلاف وبينهم انقسم الناس أو اعتزلوهم جميعًا، فلا شك أن الكتابة في هذه الحقبة بشكل عام ملغم والجميع يفترض سوء النية فاختلاف النصوص والروايات غير طبيعي وكل فرقة لها رؤيتها الخاصة لتلك الفترة، وكان يمثل لطه حسين بشكل خاص تحديًا منتظرًا من المجتمع الثقافي بعد كتابة المثير للجدل «في الشعر الجاهلي»، ولذلك كان موقف الجميع محسومًا من البداية – طه هناك إذًا نحن هنا – وأجل أحدث الكتاب نقاشًا واسعًا مع صدور كل من جزئيه «عثمان» و«علي وبنوه» ولم يزل يفعل.
منهجه الذي اتبعه في تأليف الكتاب
تظهر بوضوح طريقة الكاتب في معالجة هذا الكم الكبير من الروايات فهو يقوم بذكرها، ثم يعقب عليها وعلى مناطقيتها، وهل هناك روايات أخرى مشابهة لها أو التوجيهات المراد تمريرها داخل بعض تلك النصوص، فهو بهذه الطريقة يتخذ موقع المؤرخ والمنقح أيضًا فلا يسرد الروايات فقط، بل يضعها في سياقها الزمني مع الأخذ في الاعتبار نوايا الراوي وتوجهه إن ثبت له توجه، كان موقفه في معظم الكتاب يتسم بالحيادية والتجريد فكان يقول عند الأحداث التي ربما تستدعي التوقف أنه لا يشغل باله بالحكم على أحد، وإنما مهمته السرد والتأريخ فيقيس الجميع بميزان واحد: سياستهم العامة، محاسبتهم لولاتهم، طريقتهم في بيت المال.
عن أبي بكر وعمر
مع أن موضوع الكتاب الرئيس هو أحداث الفتنة الكبرى، لكن الكاتب تطرق إلى الفترة الأولى من عصر الخلافة عهد الخليفتين عمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق كأنه يضع مثالًا لسياسة لم يختلف عليها المسلمون، لا في زمنها، ولا على مدار تاريخهم، بل كانت نموذجًا منشودًا في كل عصورهم، يرى الكاتب أن تجربة هذين الخليفتين كانت سابقة لزمانها ودعامتها كانت سنة النبي والتجارب التي كانوا يطورون أنظمتهم عليها مثل استخلاف أبي بكر لعمر، والنظام الذي وضعه عمر لاختيار الخليفة، يمهد بهذه الفترة وتفصيلها للسجالات القادمة، وكيف كان شكل الدولة وسياستها المالية والحربية في عهديهما، خوفهما من التمدد والتوسع بدون حذر ونتائجه الخطيرة على هذا المجتمع البكر الذي لم يعتد على الحضارة والتأثير الواسع لتلك الشعوب المغلوبة على أمورهم، وسياستهم مع صحابة النبي من إشراكهم وأخذ رأيهم في جميع الحوادث، وأيضًا رقابتهم فلم يأذن لهم عمر بحرية التنقل، بل جعلهم قربه في المدينة حتى لا يفتتن الناس بهم ثم موقفه من خالد بن الوليد أيضًا ومحاسبته العسيرة لولاته؛ مما جعل هذه الخلافة سنة أخرى في إدارة الدولة بعده، فكأن الدافع الأساسي لهذه المقدمة من الكاتب هو التأسيس لنموذج مثالي حتى يكون للقارئ وجه يقارن على أساسه.
«الفتنة إذن إنما كانت عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء» – الفتنة الكبرى، عثمان.
بين عثمان وعلي
لم يكن الانتقال سلسًا هذه المرة مع وجود نظام الستة الذي وضعه عمر لاختيار الخليفة القادم أصبح الاختيار عسيرًا؛ فكلهم مرشح لأن يكون الخليفة، وقد كانت المسؤولية على المختارين هؤلاء أعظم، وأفرزت هذا المجلس بعد العديد من الأحداث عن عثمان، وكانت هذه بداية مرتبكة لفترة ستكون لنتائجها عظيم الأثر على الخلفاء من بعدهم، رغم أن المسلمين كانوا مستبشرين في بداية عهده حيث كانوا يتوقعون توسيعه عليهم بعد الشدة التي أخذهم بها عمر، والحقيقة أن الاختلاف والجدل حول الكاتب يبدأ من هنا وهذا طبيعي فمن هنا يبدأ الخلاف التاريخي بين المسلمين، ولا يمكن إنكار التالي وهو أن المسلمين اختلفوا في عهد عثمان، كان بعد خليفة قوي، وكانت المؤثرات الخارجية كبيرة وأيضًا طريقة عثمان اختلفت عن سابقيه في سياسة الولاة والعطاءات، وهذا ما أثار عليه الناس في آخر عهده، ويبدأ طه حسين هنا في سرد حجج الثائرين ومنطقهم ومساوئ ولاة عثمان الجدد الذين لم يجدهم المسلمين أكفاء لولاة عمر، ثم يفصل في حادثة عبيد الله بن عمر التي اختلف على قراره فيها الصحابة حيث أنه قد عفا عنه ودفع ديته.
عن ابن السوداء (هل لا تكتمل القصة بدون اليهود؟)
ثم يأتي ذكر واحدة من أهم شخصيات هذه المرحلة باعتبارها كانت المنظمة لكل هذه الفتنة – عبد الله بن سبأ – ولكنه يرجح اختلاقها أصلًا لعدم وجودها الا في روايات الطبري، وبعيدًا عن هذا الجدل فإن هذه الشخصية التي تشعر أن وجودها يكون ضروريًا تكون غير مريحة فهي ترفع المسؤولية عن طرف وعندما يكون ذا أصل يهودي أيضًا ترى كم التناسق والافضلية التي من الممكن أن تضيفه هذه الشخصية إلى رواية ما، فترة حرجة كتلك سيكون من المقبول جدًا أن يشارك فيها هذا العدو التاريخي، ولكن هذه الرؤية الشاملة والخطوات المسبقة التي تأخذها هذه الشخصية بذكاء منقطع النظير يظهر وكأنه محرك للدمى خلف الكواليس، وليس له مجابه والسؤال المحير هنا إذا كانت هذه الشخصية مهمة ومؤثرة بهذه الطريقة لماذا لم يكن معروفا لأبناء عصره أو للصحابة، لماذا لم يسطع اسمه بالشكل الكافي، ولماذا يختفي تمامًا في أحداث صفين وما بعدها؟
في مقاله «الفتنة الكبرى» يأخذ محمود شاكر على طه حسين هذه النقطة بحجة أن ذكر الطبري لهذه الشخصية كاف وأن عدم ذكر البلاذري وباقي المؤرخين له ليس حجة لإسقاط هذه الشخصية كون الطبري أقوى منه، والواضح أنه قد رد على نفسه فإذا كان كل هذا الخلاف يدور حول هذه الشخصية واذا كان لها كل هذا التأثير ولم يذكرها إلا الطبري في كتابه فكيف تأخذ على الكاتب أنه رجح اختلاقها ويقول أيضًا: «وإذًا فالدكتور قد اشتط وركب مركبًا لا يليق بمثله حين نفى خبر عبد الله ابن سبأ، وخبر الكتاب الذي فيه الأمر بقتل المصريين بعد الذي قد رأيت من تهافت أسلوبه في البحث العلمي؛ وإذًا فالدكتور قد خالف سنة العلم والعلماء في نفي الأخبار، وتكذيبها بلا حجة من طريقة أهل التمحيص، بل تحكم تحكمًا بلا دليل يسوقه عن فضيلة البلاذري وتقديمه على الطبري، وبلا مراجعة للصورة التي طبعت عليها الكتب، وبلا دراسة لنفس الكتب التي ينقل عنها كما هو القول في ابن سعد والبلاذري معًا» – جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر، ص522. كأنه يصادر حق طه في تفضيل رواية البلاذري ويترك لنفسه حق تفضيل رواية الطبري وسياق حجج مثل هذه أن طابع كتاب البلاذري يهودي كعادة محمود شاكر مع المستشرقين.
هل نراهم خيرا مما رأوا أنفسهم؟
«لا أقاتل حتى تعطوني سيفًا يعقل ويبصر وينطق فيقول: أصاب هذا وأخطأ ذاك» – سعد بن ابي وقاص.
من المهم أيضًا ذكر موقف الصحابة الذين عاصروا هذه الاحتجاجات ورأوا حصار المدينة واحتجازهم للخليفة في منزله وتأخر جند الشام عن نجدته. كان هناك ارتباك يصعب تخطيه، ولم يكن لأحد منهم طرف معين مارسوا مهمتهم في النصح للخليفة واعتزال ما أمكنهم تركه، حتى خرج الثوار في المرة الثانية وجاءوا يريدون اقتحام المدينة والقصة المعروفة حول خداعهم لأهل المدينة ثم بدأ الحصار حول دار عثمان التي انتهت باستشهاده، والحق أن موقف علي في هذه الفترة – رغم مجلس الشورى وانحصار الاختيار بينه وبين عثمان فالنهاية – كان شبيها بموقفه من الخليفتين السابقين فادى واجبه في النصح اللين والمعرضة المباحة، بل إنه كان وسيطا في بعض الأحيان بين الطرفين ورفض الخلافة حين قدمها إليه الثائرون أول الأمر بعد مقتل عثمان، والحقيقة أن خلافة علي كانت مشحونة من عامها الأول ويعقب طه على حادثة محمد بن أبي بكر واتهامه بالاشتراك في مقتل عثمان، حيث استقصى فالبحث حتى لم يجد ما يثبت اشتراكه في القتل فأطلقه، في مقارنة بينها وبين حادثة عبيد الله بن عمر في بداية خلافة عثمان.
ولم يكد يأخذ البيعة ويفرغ لمعاوية المترقب فالشام حتى بدأت إرهاصات موقعة الجمل وخروج طلحة والزبير مع السيدة عائشة إلى البصرة بعد إعطائهما البيعة لعلي بحجة الانتقام لعثمان فيخرج علي بجيشه إلى البصرة للقائهم، وتعود هنا شخصية ابن سبأ مرة أخرى حيث يتفق القوم ويظهر أنهم عدلوا عن القتال حتى ينظم هذا الرجل طريقة لانشاب القتال بين الفريقين إذا اجتمعوا، وأيضًا في هذه المرة يسقط الكاتب هذه الرواية بحجة التكلف، ولأنه افترض اختلاق هذه الشخصية بأكملها لعدم ورودها بالشكل المناسب لتأثيرها، وما أن انتهى من البصرة حتى خرج إلى الشام للقاء معاوية الذي أعد جيش الشام وسبق جيش علي إلى صفين، والغريب من معاوية واعتبار نفسه وليًا للدم أنه عندما حاصر المتمردون المدينة وطلب الخليفة العون له ولأهلها من الأمصار أبطأ هذا الجيش ولم يصل للمدينة وقد قتل الخليفة وتحكم الثوار فيها، فها هو يسرع بجيشه لقتال علي الذي كان محاصرًا بنفس الكيفية وجاء يطلب منه الدم لم يلق بالا لجمع المسلمين وبيعتهم لعلي.
«كان علي يدبر خلافة وكان معاوية يدبر ملكًا، وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أظل» – الفتنة الكبرى، علي وبنوه ص165.
ثم توالى ما كان من أحداث حرب صفين حيث لم يباشر علي القتال حتى راسل جيش معاوية في محاولة للصلح وحقن الدماء، ولكن معاوية ثبت على موقفه ورد على علي بأن شرطه هو أن يرسل له قتلة عثمان وكأنه يتهمه بحمايتهم ومنعهم في المقام الأول، هل لو كان بمقدرة علي من البداية معرفة هؤلاء القتلة لما أخذهم بجريرتهم؟ ومضت الحرب وظهر جيش علي على جيش الشام وتنبه معاوية لذلك فأمر بأن ترفع المصاحف على أسنة الرماح في إشارة إلى دعوة للصلح، فارتبك الأمر على أصحاب علي معظمهم يرى تلبية الدعوة ووقف القتال وعلي ونفر معه يرون الخدعة ويعرفون أن الصلح يكون قبل الحرب وقد عرضوه بالفعل وأسقطوا عن أنفسهم الحجة والنصر في أيديهم، ولكنهم خضعوا لأكثريتهم ووافقوا على التحكيم وقد حدث ما خاف منه علي ورفاقه وكانت تلك المصاحف مجرد ورقة رابحة يرمي بها معاوية لما ظهرت له هزيمته وكانت ورقة أخرى قسمت جيش علي إلى غير رجعة وظهرت فرقة الخوارج الذين رفضوا التحكيم، ثم اجتمع ممثلو الفريقين – أبو موسى الأشعري ممثلًا لعلي وعمرو بن العاص ممثلًا لمعاوية – لكتابة صيغة شاملة يتفق عليها الفريقان وقد اتفقا بينهما على خلع علي ومعاوية وترك الأمر للجماعة تختار رجلًا دونهما، وخرجوا للناس يسردون ما اتفقوا عليه فتكلم أبو موسى أولا وسرد الاتفاق، ثم تكلم عمرو بعده وقال للناس إنه يتفق معه في خلع علي، ولكنه لم يخلع معاوية، فلما علم علي بالخبر ذكرهم بنصيحته لهم حينها، ولكن فات الأوان وأصبحوا بين ناري معاوية والخوارج، ثم تثاقل أصحابه عنه، وعن الخروج للقتال، واستمروا على ذلك حتى استشهد على يد أحد الخوارج.
انحيازاته: هل كان يؤرخ أم كان ينظر؟
كان طه هادئا بالتأكيد في تعامله مع خلافة علي أكثر من عثمان حتى في أمر الولاة فقد لام على عثمان تولية أقربائه، ثم احتج لعلي لكثرة الخلافات حوله وعدم استقرار أمر الدولة له فكان لا بد ان يعين على الأمصار من يثق به ويتأكد من نصرته له إذا احتاج منه العون ولا شك أن الفاصل هنا يكون للكفاءة ولتعاطي الخليفة مع هؤلاء الولاة ومراقبته لهم وقد كانت سيرة علي معهم شديدة بالفعل أعادت للناس سيرة عمر، ثم طريقته في بيت المال التي كانت مختلفة عن سابقيه حيث كان يرى أن هذا المال لا ينبغي أن يكدس وإنما هو للناس فالأحرى أن يملكوه وهذه الطريقة مع توسع الدولة وتعقد إدارتها سيكون من الصعوبة تطبيقها أصلا، ليس طه فقط من ترفق بخلافة علي فمعظم المسلمين على مدار تاريخهم كانت مواقفهم من هذه الحادثة، إما صمت يشبه المداراة أو إشفاقًا وعاطفة ناحية علي وشيعته فقد اختلطت الأهواء في عهده واختلف المحكومون أيضًا وزادت رقعة الدولة ودخل المسلمون على الدنيا فرأوا آثار المغلوبين وفهموا أنهم لم يكن لهم من الدنيا شيئًا وأيضًا علي قد ورث الفتنة مع الخلافة ونظر فإذا هي دولة محاطة بأعدائها خارجها ثم داخلها كل يرقب خصمه ويتحسس سيفه، وإذا من أخذ منهم البيعة يخرجون عليه ويجمعون عليه الناس ثم توالت عليه الحروب تباعا حتى ما كان من أمر أهل الكوفة وتخاذلهم عنه، فهو في معظم وقته كان إما يحارب أو يعد للحرب أو يشحن الناس لها وهكذا كان حتى استشهاده.
«ومن هذه الحقائق حقيقة لا ينبغي أن نهملها أو نشك فيها، هي أن المسلمين بعد الفتح، وبعد أن قوى اتصالهم بالأمم المغلوبة وخالطوهم في دقائق حياتهم، كانوا بين اثنتين: إما أن يغيروا طبائع هذه الأمم كلها ويفرضوا عليها طبائعهم، وليس إلى هذا سبيل فأمور الناس لا تجري على هذا النحو، وهي لم تجر عليه في وقت من الأوقات. وإما أن يغير المغلوبون طبيعة الغالبين ويفرضوا عليهم طبائعهم الأعجمية المتحضرة، وهو شيء كذلك لا سبيل إليه، لم نره كان في وقت من الأوقات».
فلم يبق إلا شيء ثالث هو المنزلة المتوسطة بين هاتين المنزلتين، هو أن يعطي المسلمون المغلوبين شيئًا من طبائعهم، ويُعطى المغلوبون المنتصرين شيئًا من طبائعهم أيضًا. وتنشأ من ذلك طبيعة قوام بين الطبيعتين، ليست بالإسلامية الخالصة، أو قل ليست بالإسلامية العربية الخالصة، ولا بالرومية أو الفارسية الخالصة، ولكنها شيء بين ذلك». – الفتنة الكبرى، علي وبنوه ص232.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست