«إن الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب الله لها الحياة العزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهن الذي أذلناإلا حب الدنيا وكراهية الموت، فأعدوا انفسكم لعمل عظيم. واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة واعلموا أن الموت لا بدَّ منه، وأنه لا يكون إلا مرةً واحدةً، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربحَ الدنيا وثوابَ الآخرة».
كلمات موجزة للإمام الشهيد حسن البنا يشخص فيها للأمة أصل أدوائها، ويصف لها رأس علاجها، ويدلها على سبيل خلاصها، ويحدد لها الطريق لعزها ولمجدها، ولم يأت الرجل بجديد، إنما نقل ما فهمه من كتاب الله، وما أرشد إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم، وحسبنا أن نقرأ قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38) إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) التوبة/38-39
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حيث يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِثَوْبَانَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا ثَوْبَانُ إِذْ تَدَاعَتْ عَلَيْكُمْ الْأُمَمُ كَتَدَاعِيكُمْ عَلَى قَصْعَةِ الطَّعَامِ يُصِيبُونَ مِنْهُ؟ قَالَ ثَوْبَانُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا؟ قَالَ: لَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ يُلْقَى فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهَنُ. قَالُوا: وَمَا الْوَهَنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: حُبُّكُمْ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتُكُمْ الْقِتَالَ. رواه الإمام أحمد.
إنه طريق الجهاد ولا طريق غيره هو الذي يحفظ للأمة كرامتها، ويضمن لها أمنها واستقرارها، ويحفظها من مكر أعدائها، ويمكنها من تبليغ الرسالة وأداء الأمانة التي ابتعثها الله من أجلها، ويضعها في المكانة التي يرتضيها لها الله بين الأمم، مكانة الأستاذية، حيث السيادة والريادة وقيادة البشر إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة، إنه طريق الجهاد بالنفس والمال طلبًا لجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، إنه سبيل الشهادة حيث أقصر طريق إلى الجنة، وما حل بالأمة الآن من ضياع حتى طمع فيها أعداؤها، واستبد بشؤونها خصومها، فسلبوها حقوقها، واغتصبوا ثرواتها، وبددوا مقدراتها، وحرموها من خيراتها، واستحلوا دماء أبنائها، ودنسوا مقدساتها، إلا لأنها تركت الجهاد ولم تحافظ على جذوته مشتعلة في نفوس أبنائها حتى تحول الجهاد عند الكثيرين من أبناء الأمة من أشرف مضمار يستبقون فيه لنيل أسمى أمنية وهي الشهادة إلى سبيل تهلكة يفرون منه فرار المجذوم من الأسد، وما كانت التهلكة إلا في ترك هذه الفريضة الواجبة اللازمة إلى يوم الدين (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة 195.
ومع ذلك فما زال الخير في الأمة، وما زال في الأمة من يرفع لواء الجهاد في كل ميادين الحياة، بداية من الجهاد بالكلمة وحتى القتال بالسيف والسنان، باذلين من أعمارهم وراحتهم وأموالهم ودمائهم ما تكون به كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تراهم يجاهدون الكافر المحتل بقوة الساعد والسلاح على أرض فلسطين مدافعين عن مقدسات الأمة، ومقاتلين التحالف الكافر على أرض سوريا والمتمرد الظالم علي أرض ليبيا، ومجاهدين بكلمة الحق في وجه الظالمين في مصر مطالبين بحريتهم المسلوبة وإرادتهم المغصوبة متحملين صنوف الظلم من سجن وتعذيب وقتل ومصادرة أموال وتهجير، وتراهم كذلك في اليمن والجزائر والسودان، هذا ولن تخلو بقعة من بقاع الأرض من أولئك الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، والخير في أمة محمد إلى قيام الساعة.
ولكن أي قلب ذلك الذي يحمله هذا المجاهد الذي اصطفاه الله من بيننا لينال شرف الشهادة، وابتعثه الله في الأمة ليجدد لها أمر دينها، وليوقظ الإيمان المخدر في قلوب أبنائها؟ إن هذا القلب ليستحق أن نقف معه طويلا، فهو حجة الله على العالمين أنه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وأنه في وسع كل منا أن ينهض إلى نفسه فيستكمل فضائلها، وأن يعمد إلى قلبه فيطهره من أدرانه، فلا تستبد به شهوة، ولا تعلق به شبهه، حتى يخلص هذا القلب لله، وتصبح حياتنا بحق -كما يجب أن تكون – كلها لله. (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
إنه قلب قد امتلأ باليقين بالله وبوعده، يوقن أن الله حق، ووعده حق، ولقاءه حق، والجنة حق، والنار حق، والملائكة حق، والنبيين حق، وأنه سبحانه يبعث من في القبور، وعلم أنه خلق لمهمة، وحمل رسالة، وعلم أنه عنها مسؤول، فتخفف من جواذب الأرض، منطلقا لأداء مهمته، وتبليغ رسالته، معدًا للسؤال جوابًا، ومعذرًا نفسه أمام ربه، ليس له هم إلا الدعوة إلى سبيله، وليس له أمل إلا رضاه، وشعاره في الحياة:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
هذا اليقين نراه مع سيدنا زيد ابن الدثنة، الذي وقع في الأسر، وعندما قدمه الأعداء للقتل، استأذنهم أن يصلي ركعتين، وبعد أن فرغ تقدم للقتل وهو ينشد:
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
ومع الشهيد محمد فرغلي شهيد الإعدامات في مصر، الذي اعتلى منصة الإعدام قائلا: مرحبا بلقاء الله، ومع الشهيد أحمد محروس شهيد الإعدامات في مصر الذي صدر وصيته قبيل استشهاده بقول الله عز وجل: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وقوله تعالي: (إنك ميت وإنهم ميتون) وكان مما كتبه في وصيته: (الموت ليس مخيفا، لأنه البوابة التي توصلك إلى الله، فهل يكون لقاء الله مخيفا؟… ونرى هذا اليقين فيما كتبه الشهيد أحمد وهدان شهيد الإعدامات في مصر لابنته ليلى حيث يقول لها: «سامحيني، لم أستطع ضمك ضمة أخيرة أو أقبل جبينك الطاهر، لكني سأنتظرك هناك على باب الجنة حيث لا فراق ولا وداع، غاليتي..أحبك» ونرى هذا اليقين أيضا في وصية الشهيد سامح عبد الله، يقين في وعده، ويقين في معيته، فيقول في وصيته مخاطبا أهل بيته: أهل بيتي الكرام، أشهد الله عز وجل أني أحبكم جميعا في الله وأسأله سبحانه أن يجعلني شفيعا لكم جميعا يوم القيامة وأن نكون جميعا من سكان الفردوس الأعلى، وأما ابنتي خديجة وعائشة فهم في معية الله عز وجل تاركهم إلى ربي يربيهم ويرعاهم كيف يشاء).
نعم، فهذا هو اليقين أو الإيمان، إذا استقر في قلب عبد كان حاله على نحو ما رأينا، قلب يستعذب ما يلاقيه في سبيل الله، عصي على الانكسار، مستسلم لقدره، راض بقضاء الله فيه، يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فاللهم املأ قلوبنا باليقين الذي يعيننا على مواصلة المسير على طريقك حتى نلقاك وأنت راض عنا.
وهو قلب تملؤه السكينة التي هي من ثمار الإيمان، فهو راض بما قد يسخط عليه غيره، يستعذب ما قد ينفر منه سواه إن كان فيه رضا الله، مطمئن على ما يهتم له الناس إذ أوكل أمره إلى من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهي أيضًا فضل من الله على عبده الذي تسلح بسلاح الإيمان، يمسح بها على قلبه، ويصلح بها باله، نرى هذه السكينة مع شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان يقول بلسان المطمئن: (ماذا يفعل أعدائي بي؟ إن قتلوني ففي قتلي شهادة، وان سجنوني ففي سجني خلوة، وإن نفوني ففي نفيي سياحة).
ونراها مع الشهيد معتز بالله غانم شهيد الإعدامات في مصر الذي كتب في وصيته: (في اليوم الأول في زنزانتي الانفرادية ربع الإعدام، اجتاحت نفسي حالة من الهدوء والسكينة حتى أنني نمت كما لم أنم من قبل، أحسست أن ثقل الخياة قد انزاح عن كاهلي، وكأن عقلي وفكري قد استراح أخيرا من كثرة التفكير، حاولت جاهدا أن أفكر عبثا كيف هي أمي وكيف حالها، أخي وأختي وصغاري الرائعين فلم أستطع أن أراهم إلا مبتسمين، حاولت أن أقلق عليهم فلم أستطع، أدركت أننا نتكلف الهموم أحيانا ونتصنع العناء، فوجدت أن تلك السكينة التي ملكتني ولا حيلة لي فيها بل هي فضل من الله ربما ليست إلا دعوة منها أصابت وقت إجابة)… فلا نتعجب إذن إذا رأيناهم وأحبابهم خلف القضبان مبتسمين تكسو وجوههم السعادة رغم ما هم فيه من كرب، يستقبلون إرادة الأعداء فيهم بقلوب واثقة ونفوس مطمئنة تعلم أن أعداءهم لن يستطيعو أن يضروهم إلا بشيء قد كتبه الله عليهم، إنها السكينة، هبة الله لعباده المؤمنين، والتي معها لا قلق ولا جزع، ولا هم ولا خوف، فاللهم أنزل علي قلوبنا السكينة والطمأنينة وأسكن السعادة قلوبنا وقلوب من نحب إنك سميع قريب مجيب.
وهو قلب يهتم بقضايا الأمة، راق في أحاسيسه ومشاعره، راق في اهتماماته، راق في طموحاته، راق في آماله، مترفع عن السفاسف والتفاهات، نرى هذا القلب مع الشهيد أحمد محروس الذي كتب في وصيته: (كم تمنيت منذ صغري كأغلب شباب جيلي أن يرزقني الله بالشهادة على أعتاب المسجد الأقصى فاتحين منتصرين، رافعين راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكن هي أنفسنا وأرواحنا بيده عز وجل يقضيها أينما شاء وكيفما شاء).
ونرى ذلك في وصية الشهيد أحمد وهدان حيث يقول مخاطبا ابنته ليلي: (ليلتي، أي بنيتي، اعلمي يا حبيبة قلب أبيك أنه لم يرتكب أي جريمة أو ذنب، حبيبتي، كان همي هو حمايتك وإيجاد وطن يحميك، وليس مجرد سجن كبير تعيشين فيه).
نعم، فما حل بالأمة من ضياع، وما رخصت دماء أبنائها، وما تقطعت أوصالها. وما أصبحت أضيع من الأيتام على مائدة اللئام، وما أصبحت كغثاء السيل رغم كثرة عددها إلا لأنها استجابت لمخطات أعدائها في توجيه اهتمامات بنيها إلى سفاسف الأمور والانحدار بسقف آمالهم وطموحاتهم إلى القاع، فاللهم ردنا إلى دينك ردًا جميلا وهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك.
وهو قلب صادق في نصحه للأمة، عينه على أسقامها، لا يلحظ داء أصابها إلا وبذل وسعه في البحث عن دوائه، ولا يلحظ منها تقصيرًا إلا وأسرع ليسدد ويقارب، يستكمل نقصها ويجبر كسرها، ولا يرى ثغرة قد يتسلل منها أعداؤها إليها إلا وأسرع ليدق لها ناقوس الخطر كاشفًا لها كيدهم محذرًا لها من مكرهم، ولا يري سببًا تقوى به أمته ويعلو به شأنها إلا واستكمله في نفسه أو نصح به لها، نرى ذلك في وصية الشهيد أحمد محروس حيث كتب لإخوانه في وصيته قائلا: وأنتم يا من تسيرون في طريق الله، اعلموا أن الطريق صعبة، وأن الصبر عليها أصعب، لكن ثمرتها حلوة فلا تستعجلوها، فما زال ينقصكم الكثير، إن أردتم بلوغ الغاية فعليكم بالإعداد لها، واحمدوا الله على البلوى قبل النعمة، إن طريقًا ارتضيتم المشي فيه وعلمتم عواقبه _ وهو ليس طريقًا محفوفًا بالورود _ فلا تيأسوا مما يصيبكم فيه، فلن يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، ولا تجزعوا من أن تتموه، فإن النصر مع الصبر (ألا إن نصر الله قريب).
إن قلبًا هذه صفاته، وتلك أخلاقه، وتلك همومه وآماله وطموحاته، محال أن يختم الله له إلا بالخاتمة التي تليق به، عاش كأعظم قلب يرتضيه الله، فختم الله له بأعظم خاتمة يتمناها المؤمن، خاتمة الشهادة، فالله نسأل أن يرزقنا قلبا كقلب الشهيد، يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، يحب الله ورسوله، ويؤمن بالله، ويوقن بوعده، ويحمل الخير للعالمين، ونسأله جل في علاه أن يتقبل شهداءنا وأن يفرج كرب إخواننا وأن يفك أسرهم وألا يجعل للظالمين عليه سبيلا، وأن يعجل بهلاك ظالميهم إنه سميع قريب مجيب وهو نعم المولى ونعم النصير.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست