المدجنون هم المسلمون الذين عاشوا في حماية الممالك المسيحية في إسبانيا، بعد أن اشتدت حركة الاسترداد في شبه الجزيرة الأيبيرية، منذ سقوط طليطلة عام 478هــ/ 1085م وحتى سقوط غرناطة سنة 897هـ/ 1492م. والمدجنون هو مصطلح مشتق من دجن؛ أي: قام خاضعًا، غير أنه تحرف على ألسنة الإسبان في بعض الأحيان إلى «دجل» و«دجر»، وصار الموصوف به يُسمى «مدجلًا» أو« مدجرًا»، فقيل موديخار [1]Mudejar. وقد شاع استعمال لفظ الدجن والمدجنين في الكتابات العربية، واحتلت حالة المدجنين حيزًا لا بأس به من اهتمام كتب النوازل وعلى رأسها «المعيار» للونشريسي[2].
لم تكن وضعية المدجنين سيئة حتى بعد سقوط طليطلة، ولكن وضعهم تدهور بعد معركة الزلاقة سنة 479هـ/ 1086م وما تلاها من صراع مرير بين المسلمين في الأندلس والممالك النصرانية، ففقد المدجنون حقوقهم وضماناتهم، واجتهد رجال الدين النصارى في التأليب عليهم؛ فتعرضوا لمختلف الأذى والاضطهاد، وكان عليهم أداء ضريبة Cenas reales عن محلاتهم السكنية[3].
والمعروف أن هذه الجماعات الإسلامية أدت دورًا فعالًا مؤثرًا في البيئة المسيحية الإسبانية، ومثلت صورة حية للإسلام والمجتمع الإسلامي بنظمه، وتقاليده، وعاداته بعد زوال الهيمنة السياسية والعسكرية للمسلمين، فقد أبقى عليهم النصارى الإسبان واستخدموهم في ممالكهم؛ إدراكًا منهم لأهمية هذه الجماعات وبراعتهم في الفنون والصناعات، في الوقت الذي حافظت فيه هذه الفئات على عروبتها وتقاليدها، فبقيت أثارها ماثلة للعيان، لا سيما في مجال العمران[4].
لم تكن عبارة الموريسكيين موجودة في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر ميلادي، إلا أن عددًا من المسلمين الأندلسيين وقعوا تحت الاحتلال المسيحي في الأندلس نفسها منذ القرن الخامس الهجري، وقد أطلق عليهم المؤرخون المسلمون لفظ المدجنين. فمصدر المدجنين من دجن ومعناه أقام بالمكان، إلا أن هذه العبارة لا تعكس الحقيقة لهذه المجموعة، كما أنها لا تعتبر جوانبها المختلفة والمعقدة، ولا أبعادها المأساوية التي تتشابه إلى حد كبير مع وضعية الموريسكيين منذ سنة 1492م[5].
أول إشكالية تصادف أي باحث في هذه الفترة التاريخية، هي قضية لقب «الموريسكي» كصفة للدلالة على الأندلسي المتنصر. وإذا حاولنا البحث في أصل المصطلح سنجد بأن أصله من اللغة البربرية من كلمة «أمور»، وتعني البلد، أو الدولة، أو القسمة، ودخلت هذه الكلمة إلى اللغة اللاتينية وأصبحت «Mauri Maurus» وتعني سكان المغرب[6]، وهي أيضًا كلمة تشير في العهد الروماني إلى سكان المغرب الأوسط والغربي «المناطق الساحلية في المغرب بالإضافة إلى مساحة الجزائر بأكملها» وموريتانيا [7].وكلمة «الموريسكوس» تصغير لكلمة Moros، وهو اللقب الذي أطلقه الإسبان على جميع المسلمين الذين كانوا يحكمون الأندلس ثم غُلبوا على أمرهم؛ فصغر اسمهم على سبيل التهوين من شأنهم[8].
على أنه، ورغم شيوع اللقب وعده مصطلحًا تاريخيًّا متداولًا، فإن القبول به فيه نوع من الإجحاف في حق العناصر الأندلسية، وإقرار بوضاعتهم التي يعتقدها من أطلق عليهم هذا اللقب، بما يحويه من تحقير لهم وانتقاص من قدرهم؛ إذ إنهم ما عُرفوا بذلك إلا بعد أن اضطُهدوا بصفتهم مسلمين أصاغر أذلاء، وما الحرص على استعماله للدلالة عليهم إلا في المؤلفات المسيحية، وبالمقابل لم يجر الوقوف -من خلال المؤلفات العربية المعاصرة للقرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين- على ما يذكرهم من دون لقب الأندلسيين، أو بلقب الغرباء، عند الرغبة في الإشارة إلى من أجبروا على التنصير بالأندلس، وبلقب المدجنين في المؤلفات التركية[9].
إن جل المؤرخين يرون بداية تاريخ الموريسكيين عند اكتمال عملية الاسترداد المسيحي، بقيادة الملك فرناندو والملكة إيزابيلا سنة 1492م. ونتيجة لذلك درس المتخصصون هذه الظاهرة من خلال زوايا مختلفة، وفي أماكن مختلفة، وذلك بعد سنة 1492م. وفي الإطار الزماني وقع تركيزهم بالدرجة الأولى على نهاية القرن الخامس عشر إلى النصف الأول من القرن السابع عشر الميلاديين. أما جغرافيًّا، فلم ينحصر تاريخ الموريسكيين في الأندلس أو مناطق شبه الجزيرة الأيبيرية التي حكمها المسلمون. لقد استقر الموريسكيون في أنحاء مختلفة من إسبانيا، والبرتغال، والمغرب، وتونس، والجزائر، وفرنسا، وغيرها، بل وصل بعضهم إلى العالم الجديد «الأمريكتين»[10].
علاوة على هذا فإن عبارة الموريسكيين تحتوي على أحكام مسبقة؛ لأنها كانت مستعملة من قبل المسيحيين الإسبان لتعريف الأندلسيين المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية، والذين فرضت عليهم شرطًا أساسيًّا وضروريًّا لاستمرارهم في بلادهم إسبانيا بعد احتلالها من قبل المسيحيين. بعبارة أخرى نظر المسيحيون الإسبان إلى مجموعة الموريسكيين نظرتهم إلى «الآخر»، ومع ذلك فإن الموريسكيين لم يعدوا أنفسهم كذلك، كما لم يشر إليهم إخوانهم في الدين فيما وراء العدوة في المغرب وفي أقطار العالم الإسلامي بتلك العبارة[11].
ومن هنا نضع تعريف «الموريسكيين» مصطلحًا يستخدمه المؤرخون الحاليون، بصفتهم مسلمو الممالك الأيبيرية «قشتالة، وأراغون، ونابارا» الذين أُجبروا على اعتناق المسيحية في أوائل القرن السادس عشر. وبهذا يمكن تمييزهم عن «المدجنين» من الأندلسيين، والذين كان بمقدورهم ممارسة شعائر الإسلام في الأراضي المسيحية على مدى العصور الوسطى قبل عمليات التعميد الإجباري في القرن السادس عشر. و«المدجنون» هم أبناء الأندلسيين أو المسلمين ممن كانوا يعيشون تحت الحكم المسيحي في شبة جزيرة أيبيريا. ونظرًا لأصلهم الإسباني، فإن الموريسكيين يختلفون عن البربر الذين يسمون الآن «مغاربيين» أو مواطني شمال أفريقيا الغربية في القرنين السادس عشر والسابع عشر –كما كان الحال في العصور الوسطى في إسبانيا– حين كان المسلمون يسمون sarracenos أو moros وهي كلمة اشتق منها لفظ «موريسكي»[12].
أما كلمة موريسكي morisco فمشتقة من كلمة «مسلم»، أما «مورو moro» فهي تصغير لها، وتحمل معنى الشأن الضئيل في كثير من الأحيان، ويُقصد بها تصغير وتحقير شأن هؤلاء. وكلمة موريسكي معناها أن الشخص يختلف عن المسلم العادي moro الوثني؛ إذ جرى تعميده وينظر إليه المجتمع الإسباني على أنه مسيحي. وبناء على ما سبق فإن كلمة «موريسكي» مشتقة من كلمة مورو moro ومعناها «المسيحي الجديد الذي كان مسلمًا قبل ذلك»[13].
يشيع استعمال مصطلح «الموريسكي» بين المؤرخين المعاصرين. وحسب تعريف ليفي بروفينسال: «اسم يُطلق في إسبانيا على المسلمين الذين بقوا في البلاد بعد أن استولى الملكان الكاثوليكيان فرديناند وإيزابيلا على غرناطة يوم 2 يناير 1492 بعد زوال حكم آخر أمراء بني نصر. وهذا التعريف على أهميته يقتصر على جانب واحد فقط من معنى المصطلح؛ لذا قد يكون من المفيد التوقف عند ما يورده معجم الأكاديمية الملكية الإسبانية، والذي نجد فيه أن لفظة الموريسكي: تُطلق على «الموروس الذين بقوا وتعمدوا بعد سقوط غرناطة». ويذكر هذا التعريف ميزة الموريسكيين الأساسية: وهي أنهم تعمدوا بوصفهم مسيحيين[14].
ومن هنا نرى أن هذا التعريف يتفادى الإشارة إلى أن تعميد هؤلاء «الموروس» (أي المسلمين) لم يحدث بناء على إرادة حرة من جانبهم، فلا غرابة أن تبقى غالبية هؤلاء على إسلامها، أو كما ورد في اتهام إحدى محاكم التفتيش: «لا يقلون إسلامًا عن مسلمي الجزائر». لكنهم كانوا مسلمين من نوع شديد الخصوصية، أي مسلمين سرًّا.
————————————-
[1] عبد الواحد طه دنون: أهمية الكتب الفقهية في دراسة تاريخ الأندلس نموذج تطبيقي عن كتاب المعيار، ضمن أعمال الندوة الدولية حول حضارة الأندلس في الزمن والمكان، الرباط 1992، ص138.
[2] مولاي أحمد الكامون– هاشم السقلي: التأثير المورسكي في المغرب، مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، وجدة، المغرب 2010، ص32.
[3] عبد الواحد دنون: المرجع السابق، ص251.
[4] محمد قشتيلو: الفن المعماري الإسلامي في المعابد المسيحية بإسبانيا، مجلة دعوة الحق، عدد1، ص243.
[5] المرجع السابق، ص69.
[6] الحسن السائح: الحضارة المغربية: البداية والاستمرار، منشورات عكاظ، الرباط 2000، ص69.
[7] ميكيل دي إيبالثا: الموريسكيون في إسبانيا وفي المنفى، ترجمة: جمال عبد الرحمن، الطبعة الأولى، حقوق الطبع والنشر المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2005 ص24.
[8] مولاي أحمد الكامون – هاشم السقلي: التأثير المورسكي في المغرب، المرجع السابق، ص34.
[9] حسن اميلى: الجهاد البحري بمصب أبو رقراق – رد فعل أندلسي، ضمن أعمال ندوة المغرب وإسبانيا، خلال القرن السابع عشر، كلية الآداب – الرباط 1997، ص10.
[10] لوي كاردياك: المورسكيون الأندلسيون والمسيحيون– لمجابهة الجدلية، ترجمة: عبد الجليل التميمي، ط2، منشورات المجلة المغربية التاريخية، زغوان 1989، ص145.
[11] مولاي أحمد الكامون– هاشم السقلي: التأثير المورسكي في المغرب، المرجع السابق، ص36.
[12] ميكيل دي إيبالثا: الموريسكيون في إسبانيا وفي المنفى، ترجمة: جمال عبد الرحمن، الطبعة الأولى، حقوق الطبع والنشر المركز القومي للترجمة، القاهرة 2005 ص24.
[13] ميكيل دي إيبالثا: المرجع السابق، ص24.
[14] ليفي بروفنسال: حضارة العرب في الأندلس، ترجمة: ذوقان قرقوط، مكتبة دار الحياة، بيروت لبنان، 85.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست