سمعنا مؤخرا عن دعوات أُطلقت تناشد فكرة خلع الحجاب وجاءت متمثلة بدعوة لمليونية يتم حشدها وتخلع (المحجبات) فيها حجابهن على حد الداعين لها.

ولا يخفى على أحد فشل هذه الدعوة والحشد، ومر اليوم المحدد لها دون حدوث شيء.

لا يهمنا فشل هذا الحشد على قدر ما يهمنا حيثياته وأسبابه، وهل تكررت مثل هذه الدعوة في التاريخ الحديث؟ لكي نحكم عليها ونتوقع إمكانية تكرارها ثانيةً؟

إن المستقرئ للتاريخ الحديث لمصر يمكنه أن يضع هذه الدعوة موضعها الصحيح ويرى مدى تأثيرها. وفي هذا السرد نستقرأ التطور التاريخي لفكرة السفور وخلع الحجاب والدعوة إليها في العصر الحديث.

كان موضوع المرأة المسلمة وزيها (الحجاب) من ضمن قائمة أمور شملت اللغة والأدب والنظرة الى الدين، وكانت هذه القائمة هي محل النزاع والصراع بين الشرق والغرب، تجسدت في محاولة الغرب فرض أفكاره على الشرق من خلال الاستعمار والاحتلال الحاصل في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

ولأن موضوع الحجاب ثقافي وفكري بحت فجاءت محاربته إعلامية ودعائية في البداية.

فكانت البداية بعام 1894حيث نُشر كتاب (المرأة في الشرق) للمحامي النصراني مرقص فهمي دعا فيه إلى بعض المفاهيم المنافية لآداب الإسلام وكانت ركائز كتابه الخمسة باختصار (القضاء على الحجاب – إباحة الاختلاط – تقييد الطلاق – منع الزواج بأكثر من واحدة – إباحة زواج مسلمة من غير مسلم) وتم نشر الكتاب وتوزيعه بكثافة في شوارع مصر ونُشر في بلاد عربية أخرى، والحقيقة أن الكتاب لقي هجوما وصخبا شعبيا لما فيه من كلام لا يرتضيه مسلم مفتخر بدينه ولا مصري متمسك بمبادئه وأعراف أجداده.

ولم يمر وقت طويل على هذا الكتاب حتى لحقه كتاب للكونت داركور يصف فيه المجتمع المصري بالتخلف لأنه متمسك بقيم الاسلام وحجاب المرأة وحشمتها، واتهم فيه المثقفين بالرجعية لأنهم لا يدعون المرأة المصرية إلى التحرر من الحجاب والاختلاط السافر مع الرجال، ويرى أن مرجع كل هذا التخلف على حد قوله هو التمسك الزائد عن حده بالقيم الدينية.

وجاءت سنة 1899 ليصدر كتاب قاسم أمين (تحرير المرأة) الذي ذهب يؤكد فيه أن الحجاب عادة وليس تشريعا وأن البيئة تغيرت والأوضاع تطورت ولذلك لا بد لنا من مواكبة الحضارات الأوروبية وأن تسير المرأة المصرية خلف المرأة الغربية قدما بقدم في سفورها وتبرجها واختلاطها بالرجل، وترجم الاحتلال الانجليزي هذا الكتاب للعديد من اللغات اقتناعًا بأفكاره وبضرورة نشرها.

ثم بعد ذلك انطلقت “مجلة السفور” كأول إعلام متخصص يحارب الحجاب ويؤكد على ضرورة التماشي مع حضارة الغرب، وممن كتب فيها داعيًا إلى السفور مصطفى عبد الرازق وأخوه علي عبد الرازق وطه السباعي وغيرهم.

وإلى قيام ثورة 1919 كانت هذه الدعوات محصورة في أضيق الحدود حتى أن المتظاهرات اللاتي أغراهن دعاة التحرير بالخروج في ذلك الحين في مظاهرات مخدوعات بالواجهة الزائفة للمبادئ المسمومة اللاتي يظهرها دعاة السفور، هؤلاء النساء كن محجبات يرتدين البراقع البيضاء ولا يخالطن الرجال.

حتى جاءت ثورة 1919 التي شاركت فيها المرأة المصرية مشاركة مبهرة ليتخذها دعاة السفور فرصة يستغلونها في نشر قبائحهم من خلال خديعة تمكين المرأة، فبعد أن تشكل الوفد المصري من الرجال همت المرأة فشكلت لجنة الوفد من السيدات اللاتي اجتمعن برئاسة ” هدى شعراوي” بالكنيسة المرقصية (يوم 8 يناير سنة 1920)!!!

ومنذ ذلك التاريخ انتقل التنظيم النسائي إلى مرحلة العمل المنظم على أساس أنه هيئة مستقلة حرة معترف بها (الاتحاد النسائي) لها الحق في أن تشارك في مجريات الأحداث التي تمر بها البلاد، وظلت الصحافة في هذه المرحلة تؤازر المرأة خاصة التي يحررها صحافيون سفوريون، والعجيب أن “هدى شعراوي” هيكلت الاتحاد النسائي على مبادئ كتاب (تحرير المرأة) الذي ليس له أي علاقة بالسياسة رغم إعلانهم أنه اتحاد لتوسعة نشاط المرأة السياسي وتثقيفها، ولكن يمكنك تفهم هذا في إطار سفر هدى شعراوي إلى أوروبا واستقائها من حضارتهم ما اقتنعت به ورأت أنه الأمثل والأفضل لكل المصريات.

بل إن الأمر لم ينحصر داخل مصر، فانطلقت “شعراوي” تنشر أفكارها المسمومة في بلاد العرب حتى كونت (الاتحاد النسائي العربي) الذي يتبنى نفس قيم الاتحاد النسائي ولكن على نطاق أوسع يشمل البلدان العربية.

وكانت الصحافة داعمة لهذا الاتحاد بقوة ومؤيدة لفكرة اتخاذ المرأة الأوروبية كقدوة ومثال يحتذى للمرأة المصرية حتى جاء في إحدى الصحف: (المرأة الأوروبية عندها واجبان مقدسان بيتها ووطنها وبين الواجبين تخص بساعة نفسها فتحضر حفلا موسيقيا أو تدعو أصحابها لليلة راقصة ولا تنسى أن تقف أمام المرآة لتزين حالها فتتذكر دائماً أنها امرأة إنها في نظري مثال المرأة الأعلى ويحسن بالمرأة الشرقية أن تقتبس عنها كل شيء(.

ثم توالت بعد ذلك الاتحادات والأحزاب القائمة على أسس الاتحاد النسائي وكان من أبرزها الحزب النسائي وهو حزب نشأ سنة 1945 ونشأ معه حزب نسائي آخر “بنت النيل” تزعمته درية شفيق الذي أصدر 3مجلات (2عربيتان و1 فرنسية)، وكانت درية دائما تحضر مؤتمرات دولية وبرفقتها مندوبة إسرائيل!!

هذا على المستوى الإعلامي والنخبوي من حيث الكيانات والأحزاب، أما من حيث التحركات الميدانية لحركة السفور فكان أبرزها ما نشرته بعض الصحف في تقاريرها عن سعد زغلول وهو أنه عند رجوعه الى مصر هُيئ الجو في الإسكندرية لاستقباله وأُعد سرادق كبير للرجال وآخر للنساء وأقيمت الزينات في كل مكان ونزل “سعد” من الباخرة وعلى استقبال حافل وهتافات أخذت طريقها إلى سرادق النساء دون سرادق الرجال فلما دخل على النساء المحجبات استقبلته “هدى شعراوي” بحجابها، فمد يده فنزع الحجاب عن وجهها تبعاً لخطة معينة وهو يضحك، فصفقت هدى، وصفق النساء .. ونزعن الحجاب!!

وبعض المؤرخين يُرجعون سبب تسمية ميدان التحرير – أشهر ميادين القاهرة ومهد الثورة – إلى حادثة حدثت بعد ثورة 1919 وملخصاها أن “صفية زغلول” وقفت وسط مظاهرة نسائية في القاهرة أمام قصر النيل فخلعت النقاب (البرقع) مع مجموعة من النساء، وداسته تحت أقدامها، وفعلت النساء مثلها، والناس ينظرون، ثم أشعلن النار بتلك الأحجبة الملقاة على الأرض. ولذا سُمي هذا الميدان باسم: ميدان التحرير!!

وإن كانت هذه الفعلة لم تكن بالحجاب كله ولكن لجزء منه وهو البرقع الذي يغطي الوجه، إلا أنها كانت حلقة أولى في سلسلة متواصلة من مهاجمة الحجاب ومحاولة إخفائه تماما.

كانت هذه ملخص محاولات القرن العشرين، والحق أنها استمرت حتى الآن ولكن حدتها كانت خافتة نوعا ما، فما السبب وراء ظهورها الآن بقوة على لسان أحد دعاة السفور بل وبنفس الوسيلة التي قامت بها صفية زغلول ولكنها هذه المرة تشمل الحجاب كله؟

وهل من الممكن أن نتوقع – وفقا للتطور في الأحداث – أن يسمع أبناؤنا بدعوة للتعري تماما تحقيقا لمبدأ الحرية؟!

ولماذا قامت معظم النساء المنتسبات للعمل الحقوقي والمنتميات للاتجاه العلماني بالتحفيز لهذه الدعوة؟! هل انبهرن بها؟ أم وافقنها لمكايدة سياسية في الإخوان كما أعلنت بعضهن؟

ولماذا هذا الصمت الذي يخيم على عمم الأزهر الشريف؟! وأي قيمة لعلم ملأ رأس صاحبه ولم يحرك صاحبه للدفاع عن شيء هو معلوم من الدين بضرورة فرضيته وواجبيته؟!

كل ما سبق يوضح لنا أن تلك الدعوة للسفور لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة طالما لم تجد رادعًا قويا يُرجع أصحابها إلى رشدهم!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد