تمثل الحضارة في جانبها الإنساني العنصر الأهم في بقاء الأمم وامتداد عنصرها وطول فترة بقائها وأمنها،

وإن من المحزن أن تنجرف أمة تتطلع للريادة لرسوب أخلاقي في قيمها أو معاملاتها أو تعاطيها مع الآخر، أو ترى في عموم رعاياها من ينال من الآخر باللسان شماتة أو شتمًا، أو فرحًا في مصائبه القدرية، ويظن في شماتته تلك أن الله ينتصر له بما حدث لخصمه، هل يمكن أن تتوقع تمكينًا لأمة مصابة في عمقها الأخلاقي والإنساني؟، وهل يمكن أن تنتصر أمة بمجرد امتلاكها صناعات متقدمة أو تقنيات معقدة؟ أو يمكنها قيادة كون وانتشاله من هوة الانحراف والسقوط وهي لا تملك الرصيد الإنساني والأخلاقي الذي تتعامل به مع الآخر؟

إن الإنسانية التي نلحُّ على ضرورتها في التعايش مع المخالف ومع النفس، تكون مطلوبة في إطار أمة الدعوة وهم الخلق من حولنا، وأشد طلبا في أمة الإجابة ممن شهد شهادة التوحيد، وهي أحد أسباب بقاء الأمم وخلود عنصرها ما دامت الحياة باقية، وفي تحليل الصحابي الجليل عمرو بن العاص لكلام النبوة ما يؤيد هذا، فلقد قال عنده المستورد القرشي وهو صحابي: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول «تقوم الساعة والروم أكثر الناس». فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لئن قلت ذلك؛ إن فيهم لخصالًا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة؛ وأمنعهم من ظلم الملوك.[صحيح مسلم]

لقد استبعد عمرو رضي الله عنه بقاء الروم باعتبارها أمة كبيرة أكبر من سائر الأمم في نهاية الزمان ابتداء، خاصة وأنها على غير الحق، ثم لما علم أن ذاك وحيا قاله النبي صلى الله عليه وسلم – سلّم وبه، وشرع في ذكر أسبابه، والتي لخصها في أشياء ثلاثة؛ بعضها يعود إلى صفة تحمل صاحبها على التصرف بكامل الإنسانية ، وهي الحلم ومراجعة النفس إثر التولي.

والأخرى مثلها وآكد، وهي الرحمة للمسكين واليتيم والضعيف .

ثم إن الروم زينوا مجتمعهم بالعدل، فكانوا من أقل الأمم تظالما على مستوى الأنظمة (أمنعهم من ظلم الملوك).

ونلاحظ البعد الإنساني في إدراك عمرو رضي الله عنه لطبيعة الاستمرار والبقاء، وكيف أن العوامل الإنسانية من الحلم والرحمة ورفض ديمومة الانكسار، وميل النظم للعدل كانت ذات أثر في بقاء نسلهم وديمومته إلى قيام الساعة.

إن النظام أي نظام والأمم أي أمم لا تبقى وتخلد بالآثار المادية والمنشآت العمرانية إلا إذا اقترن عمران مدنها بعمران نفوس أفرادها، وترسمت العدل نظامًا وحكمًا.

ولئن ظن بعضهم أن بناء السدود والقناطر، وتعبيد الطرق، وتشييد المرافق وإنشاء المشافي، نوعًا من الازدهار الحضاري الدال على عظم الحضارة، فإن هذا على أهميته وضرورته لأي نهضة، إن لم يكن متجاورا مع العامل الإنساني فإنه سرعان ما يبيد ويفنى، وفيما حدث للسالفين من الأمم عبرة وعظة بالغة لمن تأمل.

لا تجاوز عين الناظر للمجتمعات العربية التي تمثل القلب في العالم الإسلامي ما آلت إليه الأمور الإنسانية والأخلاقية في هذا الأيام ، وليس أدل على هذا من وسائل التواصل الاجتماعي حيث احتلت مكانة كبيرة جدا في التعاطي مع الأحداث وتقييمها وإشاعتها ،إلا أن عين الناظر في تلك الوسائل لا يعدم أن يرى فيها مروقًا أخلاقيًّا وتبذلًا واسع النطاق، ولقد ساعد على هذا أن الأشخاص لا يكترثون بعواقب ما يكتبون، فالرقابة الاجتماعية الكفيلة بضبط الانجراف السلوكي أو الحدّ منه معدومة، والشخص يتنكر خلف الأسماء والرموز التي لا تنبئ عن حقيقته، ويكتب وهو آمن كل الأمن من اللوم والمؤاخذة، إلا أنك تخرج من هذا كله بأن الأمر أضحى على المستوى الأخلاقي والإنساني بالغ السوء، وليس الأمر مقتصرا على تلك الوسائل بل في الممارسات العامة للأفراد وفي تعايشهم اليومي ما يفطر الكبد، وقد ورد في الأثر: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) وهذا ليس أصلًا في التعاطي مع المواقف، فالأصل أن تكون رقابة المرء بالله لا بالسلطان، فعنده من رقابة الضمير وسلطان النفس ما يحول بينه وبين التوقح، ورقابة السلطان مكملة لمن لا يعبأ بما لله عليه من حقوق.

على المستوى الإنساني أيضا قد يروعك حالة الشماتة وحب هلاك الآخر واضمحلالُ أثره بين الفرقاء، لكن هل هلاك الآخر واضمحلال أثره كفيل بموت أفكاره وانمحائها؟ وهل هذه هي الطريقة التي يمكن الانتصار بها للمواقف والآراء؟ وهل شاع في تاريخ الإسلام نماذج حصار الآخر والشماتة في إملاقه؟

من نافلة القول أن نقول: إن حالة العداء والخصومة بين المعتزلة –خاصة الغلاة منهم- وبين التيار الأشعري والسلفي الغالب على الأمة لا تخطئها عين الناظر، إذ تعجُّ بها كتب التاريخ، وتلحظها بين السطور في بعض كتب علم الكلام، وهي خصومة لو كانت في عصرنا لاستدعت الخصومة والتشفي، لكن يأخذنا ابن نباتة المصري في كتابه (سرح العيون) لهذا النموذج الإنساني الفريد نقله عنه المرحوم عبد الفتاح أبو غدة، فقد ذكر الجاحظ عن النظام أنه قال له: أخبرك أنى جُعْت حتى أكلت الطين، وما صرت إلى ذلك حتى قلبت قلبى، أتذكر؛ هل ثمَّ رجل أُصيب عنده غداء أو عشاء، فما قدرت عليه، وكان عليّ جبة وقميص، فبِعت القميص، ثم قصدت الأهواز (تقع الآن بإيران)… فلما صرت إلى الخان (مكان للمبيت) وأنا حائر ما أصنع؟ إذ سمعت قرع باب البيت الذى أنا فيه، فقلت: من هذا؟ فقال: رجل يريدك. فقلت: من أنا؟ فقال: إبراهيم بن سيار النظام. فقلت: هذا عدو أو رسول سلطان، ثم إني تحاملت وفتحت له الباب، فقال: أرسلني إليك إبراهيم بن عبد العزيز ويقول لك: إن كنا اختلفنا في المقالة (أي فى الرأي والمذهب)، فإنا نرجع بعد ذلك إلى حقوق الأخلاق والحرية، وقد رأيتك حيث مررت بي على حال كرهتها، وينبغى أن تكون نزعت بك -أي أخرجتك من بلدك حاجة-، فإن شئت فأقم مكانك مدة شهر أو شهرين، فعسى نبعث إليك ببعض ما يكفيك زمانا من دهرك، وإن اشتهيت الرجوع، فهذه ثلاثون دينارا، فخذها وانصرف وأنت أحق من عذر).

لقد جسد إبراهيم بن عبد العزيز، وهو في موقف القدرة والعطاء، مع إبراهيم النظّام، وهو في حالة الإملاق والمسكنة بموقفه ذاك صورة من أروع صور الخصومة في جانبها الإنساني، ولو تجرد إبراهيم من مروءته وما يمليه عليه دينه لما اهتم بشظف عيش عدوه الألدّ، بل ربما بالغ في الشماتة به والفرح فيه، وأن ما حدث له بسبب ضلاله وضلال ما يقول به، وربما استشهد مزهوًا بأن الله أذاقه لباس الجوع بما ضلّ… لكن كان هذا صنيعه الإنساني والأخلاقي في الخصومة المستعرة بينهما، فقد يحرص المرء في مجال المناظرة أو الفكر أو الجوانب العلمية الأخرى على هزيمة خصمه وإبطال مذهبه أو حجته، لكن ليس من المروءة ولا من أخلاق الإسلام أن يكون إهلاكه وإفناؤه جوعًا وحاجة مقصدا لذوي المروءات من أصحاب الخصومات، كما أن الشماتة في مصائبه القدرية هي من ذات القبيل.

وإذا تجرد أصحاب المبادئ والقيم العليا من القيم والإنسانية فهم وخصومهم سواء بسواء، وليس لهم ميزة عن مخالفيهم، فميزة الحق بوضوحه وشموله وإنسانيته.

إن تغلييب قيم الإنسانية وقيم الرحمة في التعاطي مع الخصوم هو الخليق بأمة تبحث عن دورها وريادتها، وإنه لا يحق لمن يتشاتمون على وسائل التوصال الاجتماعي  أو على قنوات فضائية أو في أي مبارزة، أو يعتبرون مصائب الخصوم انتقامًا ربانيًا لصالحهم أن يتطلعوا لريادة أو قيادة، فلا قدست أمة لا يتراحم أفرادها، أو يبيتون متخمين وقد بات القوم من حولهم خماصًا جائعين.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد