مقدمة سريعة

إنَّ أحدُ الأشياء التي تجعلُ العقلَ في حيرة دائمة هي المساحات المرعبة الموجودة في هذا الكون، ومن يتأمَّل هذا الحجم العظيم يمكن أن يدركَ كم مِن الأشياء الـمُبهرة التي يُخفيها هذا الرَّب العظيم، وعلى الرَّغم من اكتشافِ العلم لهذه المساحات، فهو لم يكتشف إلا نقطةً من بحر، يبلغ قُطرُ الكون المرئي أكثر من 90 مليار سنة ضوئية، والسّنة الضوئية تساوي حوالي 9 آلاف مليار كم، أي أن قطر الكون المرئي يعادل تقريبًا مسافة أكثر من 840 ألف مليار كم، إنَّها مساحة مرعبة جدًا، فلو كان هناك مدينة تبعد عنَّا مسافة ألف كم فقط، فإنَّنا سنُصاب بالصُّداع من مُجرَد التفكير في السَّفر إليها، فما بالكم بـ840 ألف مليار كم، وكوننا هذا غير ثابت المساحة بمعنى أنَّه يتوسَّع، أي أنَّ قطره يكبُر ويزيد بسرعة رهيبة.

إنَّ عدَد النجوم في مجرتنا درب التبانة متوسطة الحجم يبلغ من 100 مليار إلى 300 مليار نجم، وعدد المجرات في الكون يقدر بـ200 مليار مجرة، وكل مجرة تحوي مليارات النجوم والكواكب، ولو فكرنا أن نقوم بجولة استكشافية ضمن مجرة درب التبانة متوسطة الحجم، وذلك باستخدام مركبة سريعة تسير بسرعة الضوء (300 ألف كم في الثانية)، فسوف نحتاج إلى 200 ألف سنة لكي نسافر من طرفِ المجرة إلى الطرف الآخر، ومع ذلك، وعلى الرَّغم من أنَّ مجرتنا تملك حجمًا مرعبًا، فإنَّها تصبح نقطة تافهة غير مرئية بالنسبة إلى مجرات أكبر منها بكثير، بالرغم من أنها تحوي 300 مليار نجم، إلا أنّها تختفي وتتلاشى أمام غيرها من المجرات.

والآن إلى المخلوق المتكبر المسمى الإنسان

يقول الإله الحاكم في كتابه العزيز: «هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِــيْــنٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا».

ظهرت الديناصورات قبل حوالي 230 مليون سنة، وسيطرت على الأرض لأكثر من 160 مليون سنة ثمَّ انقرضت قبل 60 مليون سنة تقريبًا. عدد سكان الكرة الأرضية الآن حوالي 7 مليارات، وأعداد البشر الذين رحلوا تقدر بـ100 مليار، وسوف يأتي يوم على البشرية تنقرض فيه كما انقرضت الديناصورات من قبلها.

إن عمر البشرية منذ آدم عليه السلام وحتى الآن هو بضع عشرات من آلاف السنين، وسوف أضخم الرقم وأعتبره 100 ألف سنة، فلو فرضنا أن عمر الكون المقدر بـ14 مليار سنة تقريبًا يعادل يومًا واحدًا فقط، فإن عمر البشرية كلها منذ 100 ألف عام يشكل من هذا اليوم 0.6 ثانية أي ستة أجزاء من الثانية فقط، وعمر الإنسان المقدر بـ70 سنة يعادل فقط أربعة أجزاء من 10 آلاف جزء من الثانية، زمن يكاد لا يذكر، وبعد حذف عمر البشرية المقدر بـ100 ألف سنة سوف يتبقى من عمر الكون أكثر من 13 مليار و999 مليون و900 ألف سنة، «هَلْ أتىٰ على الْإنسانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهرِ لَمْ يَكُن شيئًا مَّذْكُورا».

إنَّ المجموعة الشمسية قد تشكلت قبل حوالي 4.5 مليارات سنة أي بعد أكثر من تسع مليارات سنة من نشوء الكون، فلو فرضنا أن ثقبًا أسود قد ابتلع مجرتنا درب التبانة بما تحتويه من مليارات النجوم والكواكب والكويكبات والأقمار، في الحقيقة بالنسبة إلى هذا الكون الذي يحوي أكثر من 200 مليار مجرة، ولا كأنَّ شيئًا قد حدث، مجرد فقاعة ضوئية خاطفة، ثم سيختفي كل شيء، كأنك بالضبط قد ألقيت حجرة صغيرة في وسط المحيط الأطلسي، لذلك يظن هذا المخلوق الجاهل أنه محور الوجود، وهو فعليًا لا شيء، تشاهد ببساطة رجلًا يسألك لماذا كل هذا؟ ولماذا نحن موجودون في هذا الكون؟ لأن نظرته سطحية جدًا نابعة من هدف شخصي، فهو يظن أن الحياة ملخصة بعمره المقدر بـ70 عامًا، ولهذا يعتبر كل شيء خارج السبعين مجرد هراء.

يقول لك أرى أن الأمر عبثي، وهو محق لو نظر إليها من منطلق شخصي. الديناصورات قد انقرضت منذ 65 مليون سنة، وما زالت الحياة مستمرة وبشكل أبهر من ذي قبل، وبعد انقراض الإنسان سوف تستمر الحياة بشكل ربما أكثر تعقيدًا، وقد يبقى الأمر 100 مليار سنة بعد فناء البشرية، ثم تقوم بعد ذلك ساعة الحساب، ولهذا يقول ربنا: «وما خلقنا السَّماء والأرض وَما بينهما باطلًا ذلك ظَنُّ الذين كفروا فَويلٌ للذين كفروا من النار»؛ لأنَّ الله ينظر إلى الرواية ككل، ينظر الى 14 مليار سنة من عمر الكون، وإلى مليارات غير معدودة بعد ذلك، وإلى الأزل الموجود هو فيه، فما بال هذا الإنسان يتكبر ويتعالى على الوجود وعلى الإله، مع أن كل البشرية منذ عشرات آلاف السنين، وحتى يومنا هذا لا تشكل شيئًا من رواية الوجود العظيمة، فهي لا تتعدى أن تكون فاصلة منقوطة أو مسافة فراغ بسيطة بين حروفها، «خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِين».

معضلة الخير والشر

في الحقيقة يمكننا فهم أنَّ الإنسان مخلوق مخير، وليس مسيرًا، وأنَّه يستطيع أنْ يختار ما يريد من الاحتمالات المعروضة أمامه، ولكن الشّيء الذي لا يمكن فهمه أو أنَّ الإجابة عليه صعبة جدًا، هو لماذا يختار هذا الإنسان الخير؟ ويختار ذلك الإنسان الشر؟ لماذا يكون هذا خيّرًا وذلك شريرًا؟ حتى نفهم لماذا، نحتاج أن نعرف من هي الأطراف المتصارعة داخل الإنسان، ومن الذي يقرر، ففي رأس كل إنسان تجري العشرات وربما المئات من الأحاديث، ولا تعلم من بالضبط من الذي يتكلم الآن هل هي النفس أم العقل أم الشياطين أم الملائكة… إلى آخره. ولماذا يختار الإنسان في لحظة ما الخير؟ وغيره يختار الشر؟ ومن الذي يختار بالضبط ويقرر؟ إنه طلسم الطلاسم يا سادة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد