نرزح كأفراد تحت وطأة التنظيمات والبنى التي تشكل عالمنا اليوم ومنها منظومة الدولة القومية الوستفالية، وحتى مع وجود مشاكسة من تنظيمات جديدة تسحب شيئًا فشيئًا السيادة من الدولة، فإن الشعور بوطأة الدولة الحديثة وثقلها علينا كأفراد ربما يبرر هذا التهافت الكبير من بعض المنظرين للحديث عن ترتيبات دولة ما بعد الكورونا، أو دولة ما بعد القومية، وهو تهافت نراه في عددٍ كبيرٍ من المقالات التي تصدت مؤخرًا لمناقشة تأثيرات كورونا في الدولة القومية وبنيتها الحالية.

وهذا المقال محاولة للاشتباك مع واقعية هذا التفاؤل بشكلٍ جديدٍ للدولة تخلقه الجائحة، وهل فعلًا يحمل كورونا في مستقبله القريب أو حتى البعيد تأثيرًا بنيويًا حقيقيًّا في شكل الدولة الذي نعرفه حاليًا؟

قبل البداية: الوباء الذي لم يكشف كل أوراقه:

قبل الشروع في الاشتباك مع الأطروحات المقدمة لدولة ما بعد الكورونا، ثمة إشكال نظري لا يمكن أن نغفل عنه قبل هذا الاشتباك، فقد دأبت الفلسفة في أخذ خطوات للوراء قبل الشروع في فعل التنظير لظاهرة ما، هذه الخطوات هي عادةً ما تكون خطوًا في الزمن، وابتعادًا عن اللحظة وتفاصيلها الآنية، حتى تعود الفلسفة، وقد انفض الجمع لتقدم رؤية أوسع وأشمل تهتم بالحاكمات الكلية بعيدًا عن المتغيرات الآنية، لكن يبدو أن الوباء خلق حالةً جديدةً من التعاطي مع الفيروس، فقد عاينا حالةً من السيولة الفلسفية في الكتابة عن الجائحة حاضرًا ومستقبلًا؛ خاصةً مع تصدر مجموعة من الفلاسفة للكتابة بشكلٍ متواصلٍ عن الجائحة، وعلى رأسهم السلوفيني سلافوي جيجك والإيطالي جورجيو أجامبين؛ وحتى عربيًا ظهرت كتابات تتنبأ بمستقبل ما بعد الكورونا، كما كتب المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز «ستصبح لحظة جائحة كورونا علامة من العلامات المفْصلية التي تدخل في جُملة تحقيب التاريخ، سيكون عالم ما بعد كورونا غير ما كانه عالم ما قبلها، أو قل سيختلف عنه بمقدار كبيرٍ؛ في البنية والتوازنات والملامح» (1)

إذًا هل خانت الفلسفة تقاليدها؟ أم أن الجائحة كانت أكبر من أن تتجاهلها الفلسفة ولو مؤقتًا؟ وهذا الإشكال يصدُق أيضًا على الأطروحات النظرية المقدمة لدولة ما بعد كورونا، ففي النهاية نحن أمام وباء عالمي بدأ وما زال مستمرًا، فهل هذا التنظير السائل عن الجائحة يتناسى إذًا حقيقة أساسية وهي كون الفيروس التاجي لم يكشف بعد عن كل أوراقه؟ فها نحن نقترب من الدخول في العام الثالث وما زال الفيروس يتمدد، وهو ما يؤكد أن التسرع في التنظير الفلسفي للجائحة، لم يقف فقط على التعاطي الفلسفي، بل العلماء كذلك اشتركوا في هذا التسرع، حين بدأوا يطلقون تكهنات بزوال الوباء مع حلول الصيف في العام الأول للجائحة، وهو ما أثبتت الأيام عدم تحققه.

شكل الدولة ما بعد كورونا:

الـ«مابعديات» باب مهم في فهم التاريخ، وفي تتبع التحولات الفكرية والسياسية.. ما بعد الحداثة، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الإسلاموية، وغيرها؛ وهو باب لا يقل أهمية عن الـ«ماورائيات».. ما وراء الطبيعة، ما وراء المنهج، وغيرها. (2)

وجزء كبير من مقاربات الجائحة توجه للكتابة عن شكل الدولة «ما بعد» الوباء، وهنا تكرار لجدلٍ أصيلٍ عن مستقبل الدولة القومية الحديثة، وعن مشكلات بنيوية تواجهها، وحول إمكان الحديث عن بدائل لهذا الإرث الوستفالي.

وجاء التنبؤ الأكثر تفاؤلًا للباحث ديفيد براي (3) الذي يطرح عدة احتمالات أو بدائل للدولة القومية ما بعد كورونا، أحدها المدن الضخمة (mega-cities) والتي يمكن إعادة تصميمها بشكلٍ كبيرٍ في المستقبل لتقوم بتقديم الخدمات الأساسية بطريقةٍ أكثر مرونة وأكثر قدرة على التصدي للأوبئة المستقبلية والكوارث الطبيعية الأخرى، ويتم تحديد هذه المدن بدرجةٍ أقل من خلال الهوية الوطنية، وبدرجةٍ أكبر من خلال ما تقدمه للأفراد الذين يعيشون داخلها؛ إذ يرى أن التكنولوجيا ستُمكن المدن الضخمة من الاستجابة لمشكلات المواطنين بشكلٍ أسرع من الدولة، ويتوقع براي أن هذه المدن هي التي ستقوم بصياغة الاتفاقيات التجارية وترتيبات الصحة العامة واتفاقيات تغير المناخ مع المدن الأخرى حول العالم عبر العلاقات الدبلوماسية.

الشكل الآخر هو المجموعات عبر القومية المنظمة على أساس الأيديولوجيا أو الهوية المؤسسية والتي تحل محل الدولة القومية الوستفالية التي تحددها الجغرافيا؛ ففي عالم ما بعد كورونا ستكون هناك حاجة للتأكد من أن الأفراد غير مُعديين، ولا يشكلون خطرًا على الآخرين، وغير معرضين للعدوى أيضًا؛ وهو ما يحفز إنشاء حلول تكنولوجية مرتبطة بجواز سفر الشخص أو بعمله أو بعض الآليات العالمية الأخرى المشابهة؛ والتي قد تمكن شخصًا مثلًا من أن يصبح مقيمًا إلكترونيًا في إستونيا دون الإقامة الفعلية فيها؛ إذ يعتقد براي أن تحديات ضمان أن الأفراد آمنون في السفر، وأن السلع آمنة لعبور الحدود قد تُجهد نموذج الدولة القومية بما يؤدي إلى انهيارها واستبدالها بشيءٍ آخر قائم بدرجة أكبر على الشبكة.

الانكفاء إلى الداخل:

في المقابل يرى البعض أن العكس تمامًا قد حدث أثناء الجائحة، فقد انكفأت الدول القومية على نفسها، وكما يرى بلقزيز يبدو وكأن الإنسانية جمعاء بدأت تلوذ بما وقع «التبشير» بنهايته: تعتصم بحبل المجتمع والجماعة، تلوذ بالدولة، تتمسك بالسيادة، تنكفئ إلى هوياتها القومية، وكأن قيامة جديدة للدولة قد قامت، والكيان الذي بُشر بنهايته عاد من تحت الأنقاض.

يدافع هذا الاتجاه عن وجود الدولة التي لولاها لتعرضت الإنسانية لنكبة أكبر، فالدولة بتنظيمها المُحكم وبأجهزتها القوية وقفت كحجر صلب في مواجهة الجائحة.

يرى هذا الاتجاه في الجائحة أيضًا فرصةً كبيرةً لتقوية الدولة القومية، والدفاع عنها أمام كل الضربات التي تسحب منها السيادة، لكن ماذا عن الدول التي فشلت في مواجهة الجائحة؟ أليس هذا سببً إضافيًّا للبحث عن بديل للدولة؟

دول شبه حديثة:

يثور تساؤل لا غنى عن طرحه كلما بدأ الجدال حول نقد الدولة الحديثة أو الحديث عن بدائل لتجاوزها، والتساؤل يدور حول جدوى النقاش عن تجاوز الدولة الحديثة في منطقة عربية لم تتحقق لديها الدولة الحديثة من الأساس، ويجعل هذا البعض يتحدث عن أن جدل تجاوز الدولة الحديثة هو جدل مستورد ولا يعنينا بهذا القدر المتصور، في دولٍ ربما أقصى ما يُمكن أن تكون قد وصلت إليه هو أن تكون أشباه دول حديثة.

وينكأ هؤلاء التاريخ ليعودوا إلى اللحظة التاريخية التي بدأ فيها محمد علي الشروع في بناء ما عُرف بالدولة المصرية الحديثة، ويشكك هؤلاء في تحقق هذا التحول، وهو تشكيك بالأساس في استعداد المنطقة حينها في التحول لدولٍ حديثةٍ، فالسياق الأوروبي كان مستعدًا في وستفاليا لهذا التحول الجوهري، إذ كانت أوروبا قد قطعت شوطًا كبيرًا في التجهيز للحظة التي تحل فيها الدولة محل الدين في استحواذ المقدس، وهو ما حدث بعد قرونٍ من الفصل شبه الكامل بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، فلم يكن للدولة القومية الحديثة في أوروبا أن تستقر بدون أن تتخلص من كل شريكٍ لها في السلطة الرمزية، هذه التحولات التي سبقت إعلان الدولة الوستفالية، لم تمر بها المنطقة العربية، وبالتالي جاء التحول للدولة القومية في منطقتنا مبتسرًا.

بهذا المنطق يتم التشكيك في جدوى البحث عن بدائل للدولة الحديثة، وأن الاهتمام يجب أن ينصب على إحداث تحول حقيقي لدولة حديثة وبعدها سيكون من المقبول الحديث عن بديلٍ لها إذا ما أثبتت فشلها، لكن في المقابل يأتي الرد من نُقاد الدولة القومية؛ إذ يعدون هذه النظرة السابقة تفترض انفصالًا زمنيًّا لمناطق العالم الحضارية المختلفة، وكأن التاريخ هو مسار تقدمي على كل حضارة أن تمر به مرحلة بعد أخرى، وهو ما يشكك فيه نقاد الدولة الحديثة، فتأثر الحضارات بعضها ببعض أصبح يتسارع مع الثورات المعلوماتية الهائلة، وتأثر دول العالم بعضها ببعض لم يعد كالسابق، لذا ففي حالة ظهور نموذج جديد يشكل بديلًا فعالًا للدولة القومية الحديثة، فإن مناطق العالم بما فيها المنطقة العربية لا محالة ستتأثر به، وربما تتبناه كما حدث سابقًا مع ازدهار نموذج الدولة الاشتراكية، مع المد الشيوعي.

في المحصلة النهائية للتحليل نفهم أننا أمام شيء مختلف هذه المرة، فمستقبل الوباء لن يجدي معه التسرع في الحكم، نعم.. التسرع في إصدار التكهنات والأحكام يريح العقل عن النظر في التعقيدات أو الوقوف عاجزًا أمام المجهول وهو هنا عالم ما بعد الكورونا، لكن قد تصلح هنا الحكمة القائلة «الحقيقة المرة خير من الوهم المريح»؛ إذ إن الوهم هنا هو السيولة الفلسفية والعلمية المتكهنة بنهاية الفيروس وشكل العالم الذي سيخلفه، لكن الحقيقة هي أن تأثيرات الوباء المستقبلية على شكل الدولة لا يمكن التنبؤ بها، ولا يُفهم هذا أنه دعوة للتوقف عن تقديم التحليلات أو حتى التنبؤات عن الفيروس ومستقبله، إنما المهم أن تأخذ هذه التنبؤات حجمها الطبيعي، لا بوصفها حقائق مُسَلمًا بتحققها المستقبلي لكن مجرد أطروحات توضع على طاولة النقاش.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد