الإنسان ذلك الكائن الاجتماعي الذي تقوم حياته على التشارك والتعاون بينه وبين البشر من حوله، وهو جزء من الكون الفسيح، واحد مكوناته التي لا تعد ولا تحصى، فالكواكب تنتظم في مجموعات وتدور مع بعضها في مدارات، والطيور تعيش في أسراب، والحيوانات تعيش في قطعان، والمادة نفسها وهي أصل الحياة عبارة عن جزيئات متشابهة، والجزيئات تتكون من ذرات متشابهة لها نفس العدد من البروتونات والنيترونات والإلكترونات. هذا التناسق والتشابه هو بصمة الخالق عز وجل وهو إبداع صانع واحد ومبدع واحد وموجد واحد. ومن رمضاء الحياة يستجير الإنسان بظل من حوله من البشر فتنشأ بيننا وبين من حولنا أنواع عديدة من العلاقات الإنسانية التي تقوم على روابط من المنفعة والعطاء والمشاركة والمصلحة والحب والصداقة وغيرها من مقاصد وأهداف.

إذ كيف للإنسان أن يكابد الحياة ويُبحر في غمارها بغير صديق ويسافر عبر دروبها بلا رفيق، يستأنس به فى وحدته، ويقف معه في محنته، ويعينه في شدّته، ويُشاركه همومه، ويُشاطره أفراحه، ولولا الصحبة والصداقة لفقدت الحياة قدراً كبيراً من لذّتها.

كانت الكلمات السابقة تعبيرًا عن القناعة التي تجسّدت في قلب أحد الصحابة الكرام ومن منطلق هذه القناعة قام بتكوين علاقات شخصيّة وروابط أخويّة مع الكثير ممن كانوا حوله، على تفاوتٍ بين تلك الصلات قوّة وتماسكًا وعمقًا.

وإذا كان الناس يختلفون في صفاتهم وطباعهم، وأخلاقهم وشمائلهم، وأقوالهم وأفعالهم، فمن هو الذي يستحقّ منهم أوثق الصلات، وأمتن العُرَى، وأقوى الوشائج، ليُطهّر المشاعر، ويسمو بالإحساس؟

هذا هو السؤال الكبير الذي ظلّ يطرق ذهن الصحابي الكريم بإلحاح دون أن يهدأ، وسؤال بمثل هذا الحجم لا جواب له إلا عند من أدّبه ربّه وعلّمه، وأوحى إليه وفهّمه، حتى صار أدرى من مشى على الأرض بأحوال الخلق ومعادن الناس.

وهنا أقبل الصحابي يحثّ الخطى نحو الحبيب – صلى الله عليه وسلم – ليسأله عمّا يدور في ذهنه من تساؤلات، فوجده واقفًا بين كوكبة من أصحابه، فمضى إليه ثم وقف أمامه وقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟

خرجت الكلمات من فم الصحابي الكريم وهو يمعن النظر في وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – ينتظر جوابه، وكلّ ظنّه أن الإجابة ستكون بياناً لصفاتٍ معيّنة إذا اجتمعت في امرئ كانت دليلًا على خيريّته وأحقّيته بالصحبة، أوربّما كان فيها تحديدًا لأسماء أفرادٍ ممن اشتهروا بدماثة الخلق ورجاحة العقل.

لكن الجواب الذي جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن على النحو المتوقّع، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: (أمّك) ، نعم! هي أحقّ الناس بالصحبة والمودّة، ويستزيد الصحابي النبي عليه الصلاة والسلام ليسأله عن صاحب المرتبة الثانية، فيعود له الجواب كالمرّة الأولى: (أمّك) ، وبعد الثالثة يشير -عليه الصلاة والسلام – إلى الأب، ثم الأقرب فالأقرب.

لقد وضع الرسول – صلى الله عليه وسلم – اساسًا متينًا لأولويات العلاقات الإنسانية وصنف دوائرها تصنيفًا واضحًا من الأقرب إلى الأقرب، إن هرم العلاقات الإنسانية يجب أن يكون أغلى إنسان على وجه الأرض على قمته وهي الأم ثم الأب، ثم الأقرب فالأقرب.

إن عليناأان ندرك جيدًا فقه أولويات العلاقات الإنسانية وترتيبها المنطقي والتي يحكمها عاملان أساسيان العامل الأول هو درجة القرابة والقرب والعامل الثاني هو استمرارية العلاقات وديمومتها، وإذا طبقنا هذا النموذج سيصبح لدينا بوصلة توجهنا التوجيه الصحيح وتدفع عواطفنا لمن يستحقونها ويحتاجونها.

إن هرم العلاقات لابد أن تكون على قمته الأسرة الكبيرة وفي مقدمتها الوالدين (الأم والأب)، ثم الأسرة الصغيرة فالأبناء والزوجة، ثم الأهل والأقارب من الأجداد والجدات والأعمام والأخوال والعمات والخالات، ثم الجيران والأصدقاء. عندها تترتب مساحات الحياة ومساحات العلاقات ترتيبًا قائمًا على الأهم فالمهم حينها تسد منافذ جدران حصون حياتنا ونبقى محصنين من الاستغلال الاجتماعي والابتزاز الإنساني الذي لا يختلف كثيرًا عن الابتزاز المادي والذي يؤدى إلى تدمير علاقات أهم وأقرب وأبقى. فيا ترى كيف هو هرم علاقتنا وكيف هي بوصلتنا؟

وإن كانت كل كتب تنمية الذات تتخبط فى بحثها الحثيث عن سعادة الإنسان وشفاء روحه وهدوء عقلة وصفاء باله وطيب خاطرة، فإن بناء علاقة عميقة وقوية ومستدامة مع الأمهات والآباء هو السبيل الأوحد والأفضل للوصول إلى حلم السعادة المفقود وراحة البال المنشود.

إن ما اصطلح شرعًا وخلقًا على تسميته برًا بالوالدين هو في حقيقة الأمر يكاد يكون الضمانة الأولى والأكيدة لسعادة الدنيا والآخرة التي ينشدها الإنسان من كل دين ومذهب وهو بحق الكنز المفقود الذى لم تخبرنا عنه أبدًا كتب تنمية الذات وتطوير الشخصية.

وإن هدم تلك العلاقة وقلب ذلك الهرم واستبدال الأقرب بالأبعد هو انتكاس في أولويات الإنسان واستبدال الذهب بالنحاس يجعلنا أكثر هشاشة لما نتعرض إليه في محاولاتنا لبناء علاقات مع من حولنا من البشر الذين تحكمهم مصالحهم ودوافعهم والتى تجعلهم مستعدين لفعل أي شيء فس سبيل تحقيقها والوصول إليها. إن خوض غمار الحياة للبحث عن الدعم من خلال بناء علاقات جديده هو مغامرة لا تخلو من مخاطر أكيده وتجعلنا عرضة للوقوع فريسة سهلة وسائغة ضمن نموذج شاذ من الافتراس الاجتماعي أصبح مستشريًا في مجتمعاتنا عوامل المادية الجارفة والتنافس القاتل على موارد الحياة المادية والمعنوية.

وعلى عكس عالم الوحوش والحيوان فإن هؤلاء البشر قد يمتلكون فيما يبدو وجوهًا جميلة وضاءة وابتسامة ساحرة والسنة تقطر شهدًا وكلامًا معسولًا ناعمًا. وهم على الأرجح نساء جميلات أو رجالًا ناعمين وضائين.

لقد قابلت كثيرًا من الناس السعداء الأغنياء الذين لم يكن لهم من كنز إلا حب آبائهم وحبهم لهم وقابلت من اصحاب الملايين العصاميين من لم يكن يملك من الدنيا إلا حب أبيه وأمه فملك بحبهما وبرهما الدنيا كلها.

وعلى العكس لقد قابلت كثيرًا من الأشقياء الخاسرين الذين خسروا كل كنوز الدنيا بخسارتهم لحب آبائهم وأمهاتهم.

إن حاجة الإنسان ادإلى حب غير مشروط واهتمام بغير مقابل وعطاء بلا حدود يعتبر من أهم لوازم سلامته النفسية والإنسانية، ويمثل أولى متطلبات الثبات الانفعالي الضروري للشعور العميق بالسعادة والحب والتفاؤل والأمل. وأن للإنسان أن يجد هذا في غير أمه وأبيه وصاحبته وإخوانه وأخواته وقرابته، ثم إن كان محظوظًا بأحد الأصدقاء الأوياء القلائل النادرين.

لقد علمتني الحياة أن الأمهات والآباء هم كنز علاقتنا وكنز حبنا وإن شقاء الدنيا حتمي لمن أهمل كنز علاقاته وكنز حبه وصحبته ووفائه.. أو هكذا أرى القضية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد