«ومن الحُب ما قتل»

يُقال إن أصل تلك العبارة هي قصة حدثت في عصر الأصمعي الشاعر المعروف، وهي أنه أثناء تجوله في البادية وجد صخرة منقوش عليها «أيا معشر العشاق بالله خبّروا .. إذا حلّ عشق بالفتى كيف يصنعُ»

فكتب الأصمعي تحته «يُداري هواه ثم يكتم سره .. ويخشع في كل الأمور ويخضعُ» وعندما مر في اليوم الذي يليه وجد بيتًا آخر تحت الذي كتبه «وكيف يُداري والهوى قاتل  الفتى .. وفي كل يومٍ قلبه يتقطع» وعندها كتب الأصمعي «إذا لم يجد صبرًا لكتمان أمره .. فليس له شيء سوى الموت ينفعُ» وبعد مرور بضعة أيام وجد بيتًا أخيرًا مكتوبًا تحت آخر ما كتبه .. «سمعنا أطعنا ثم متنا فبلِّغوا.. سلامي إلى من كان للوصل يمنعُ هنيئًا لأرباب النعيم نعيمهم.. وللعاشق المسكين ما يتجرعُ»

إنّ كثيرًا من قصص العشق خالدة، والسبب في هذا إما المبالغة في الحب، أو القصة المأساوية التي أحاطت بهم، وعلى ذكر المبالغة يُعد مجنون ليلى هو أكثر المبالغين، وقد قالت العرب مُستغربةً أمره «لو تزوج قيس ليلى لعلم أنها امرأة مثل باقي النساء».

وقد قيل إنَّ قيسًا وُجد ميتًا في البراري، بعدما تزوجت ليلى بشخصٍ آخر، وهو قد خرج ناحبًا ليس له إلا شعره، وقد حاول نسيان أمرها فغدا يُنشد

ألست وعدتني يا قلب أني .. إذا ما تُبتُ عن ليلى تتوب

فها أنا تائب عن حب ليلى .. فما لك كُلما ذُكرت تذوب

وما لك قد حننت لوصل ليلى .. وكنت حلفت أنك لا تؤوب

بلى قد عُدت يا قلبي إليها .. فهذا الدمعُ مُنسكب صبيبُ

يخبرُ أنما الأشواق نار .. وتحت النار أضلاع تذوب

إلى كم تنحني شوقًا إليها .. وأحناء الفؤاد بها ندوب

جروح سائلات أنهرتها .. يد السيَّاف أنت لها طبيبُ

تضمدها وتبكي من جواها .. أما يا قلبُ يُتعبُك النحيبُ؟

وكأن القلب والجسد كلاهما كان بحاجةٍ لراحةٍ طويلة بعدما رحلت ليلى، وقيل إنها ماتت قبله، وقد أنشد عند قبرها بضعة أبيات عندما أوصلوه إليه:

أيا قبر ليلى لو شهدناك أعولت .. عليك نساء من فصيحٍ ومن عجم

ويا قبر ليلى أكرمن محلها.. يكن لك ما عشنا علينا بها نعم

ويا قبر ليلى إن ليلى غريبة .. بأرضك لا خال لديها ولا ابن عم

ويا قبر ليلى ما تضمنت قبلها .. شبيهًا لليلى ذا عفافٍ وذا كرم

ويا قبر ليلى غابت اليوم أُمها .. وخالتها والحافظون لها الذمم

مرَّت قرون على تلك القصة، فنيت وتآكلت الأجساد، وبقيت الكلمات شاهدة على حُبٍ لم يُكتَب له الجمع. ومن القصص الغارقة في الشوق أيضًا، قصة جميل وبثينة، وقد حدثت تلك القصة في العصر الأموي، وقد ذاع هذا الحب في جميع الأرجاء، من جرّاء الكلمات التي دائمًا ما كان يُنشدها جميل مثل

أيا ريح الشتاء أما تريني .. أهيم وأنني بادي النحول

هبي لي نسمة من ريح بثن .. ومني بالهبوب إلى جميل

وقولي يا بثينة حسب نفس .. قليلك أو أقل من القليل

لم يتم الجمع بين بثينة وجميل سوى أوقات كان يسرقها كلٌ من الآخر، وفي نهاية المطاف رحل جميل إلى مصر ومات هناك بعدما ضُيِّق عليه.

غريبة هي قصص الحب المُشتعلة، ولكن على غرابتها يكون أجمل ما فيها هي تلك الأسطر التي قد لا يعرف العاشق أنّ أناسًا من بعده سيتحرقون بها، وربما يبكون أنفسهم وهم يُعيدون قراءتها للمرة الألف. ربما لم تكن الأشعار هي الميراث الأوحد الذي تركه العُشاق دليلًا على ما كان بدواخلهم، بل كانت الرسائل أيضًا أحد أهم الشُركاء في هذا الأمر، وأشهر تلك الرسائل هي ما خلَّفه الأديب الفلسطيني غسان كنفاني.

كنفاني كان صحافيًّا وأديبًا ومُناضلًا فلسطينيًّا، عُرف بعداءه الشديد للاحتلال الصهيوني، ومناضلته الدائمة ضده، وعلى الرغم من هذا كان قلب الأديب كأي إنسان يُمكن أن يقع في الحب، وهو ما حدث فقد أحب الكاتبة غادة السمان وظلَّ يُراسلها، وبعض رسائله لها توضح كيف كان الأمر وإلى أي مدى وصل بينهما «في أعماقي أعرف أنني حين أراك سأتكوم أمامك مثل قطٍ أليف يرتعش من الخوف، فلماذا أنتِ معي هكذا؟ أنتِ تعرفين أنني أتعذب، وإنني لا أعرف ماذا أريد، إنني أغار وأحترق وأشتهي وأتعذب، تعرفين إنني حائر وإنني غارق في ألف شوكةٍ برية، تعرفين..، ورغم ذلك فأنتِ فوق ذلك كله، تحولينني أحيانًا إلى مجرد تافهٍ آخر».

وفي إحدى رسائله قال «لن أنسى، كلا فأنا ببساطة أقول لكِ لم أعرف أحدًا في حياتي مثلكِ، أبدًا.. أبدًا، ولذلك لن أنساكِ، لا إنكِ شيء نادر في حياتي، بدأتُ معكِ ويبدو لي أنني سأنتهي معكِ».

كان غسان يتعذب من حُبه، وكان ما يبتغيه أن يهدأ قلبه، وتستريح نفسه ويتم اللقاء، ولكن ربما الأمر يسير كما قال والتر سكوت «إنّ لذّة الحب كلذّة الصيادين في المُطاردة».

والآن أباتت لذّتنا في التغني بتلك الكلمات، أم أنها أصبحت رثاءً لقلوب بعضنا؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد