سجلت الليرة التركية أقوى هبوط لها منذ عقد بأكمله، وزادت التكهنات حول بواعث انهيار الليرة أمام الدولار، ولماذا وصلت الأزمة التي تواجهها تركيا الآن إلى عنق الزجاجة، وهل كان اعتقال رجل دين هو القشة التي قصمت ظهر البعير؟! وكيف يخرج أرودغان من المأزق الحالي؟ أسئلة كثيرة تظهر مع السقوط المدوي للعملة التركية في مواجهة الدولار الأمريكي. يمكننا النظر إلى أسباب الأزمة التركية من نقاطٍ ثلاث؛ السلاح والعقوبات الإيرانية وتباين المصالح الأمريكية التركية.
موقف السلاح الروسي
لعبت أنقرة دور الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، واستمر التقارب الأمريكي التركي لم يعكر صفوه إلا قليلًا، لا سيما والأجواء التركية الروسية ملبدة بالعداء التاريخي. مع اندلاع حرب قبرص، دخلت العلاقات الأمريكية التركية مرحلة ضبابية، وحظرت أمريكا توريد الأسلحة إلى أنقرة،وتجمد العلاقات بين البلدين قرابة نصف قرن. الأجندة السياسية لعبت دورها في إعادة تقريب وجهات النظر بين تركيا وأمريكا مرة أخرى، ثم وقع الانقلاب التركي الفاشل في الخامس عشر من يوليو (تموز) 2016 وهنا توترت الأجواء للمرة الثانية.
حاولت عناصر تركية تابعة لمنظمة المعارض السياسي التركي فتح الله كولن، المقيم في ريف ولاية بنسلفانيا الأمريكية، ونجحت الحكومة التركية في إبطال مفعول قنبلة الانقلاب، وبدأت في تعقب المتورطين وعلى رأسهم كولن، لم تعرب واشنطن عن تضامن واضح مع الحكومة التركية، ولم تسلم غولن إلى السلطات التركية؛ فاشتعلت الأجواء الملتهبة بين البلدين.
منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2016، احتجزت السلطات التركية القس الأمريكي أندرو برونسون، الذي كان يدير كنيسة بروتستانتية في محافظة إزمير التركية، بتهمة العمل لصالح شبكة غولن وحزب العمال الكردستاني. ثمة نقطة أخرى ساخنة للخلاف تمثلت في وحدات حماية الشعب التابعة لحزب العمال الكردستاني؛ فالحكومة التركية صنفت وحدات حماية الشعب ضمن المنظمات الإرهابية، وتتهمها بالضلوع في قتل آلاف المواطنين الأتراك منذ عام 1984، كما أن أمريكا نفسها اعتبرت وحدات حماية الشعب ضمن المنظمات الإرهابية قبل ذلك، لكن واشنطن زودت تلك الوحدات بخمسة آلاف شاحنة وألفي طائرة لنقل الأسلحة، وفق تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
تصاعدت وتيرة الأحداث بعد إبرام تركيا صفقة سلاح ناجحة مع الروس، وهي أنظمة الدفاع الجوي إس-400 المنافسة لأنظمة الدفاع الصاروخية الأمريكية من نوع باتريوت، والتي رفضت واشنطن تزويد أنقرة بها. كانت روسيا وتركيا قد وقعتا اتفاقية حول قرض لتوريد إس-400 في ديسمبر (كانون الأول) 2017 في أنقرة، وهذا ما صب الزيت على النار التركية الأمريكية المتأججة. ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد؛ فإن الدب الروسي هو المستفيد الأكبر من الأزمة التركية، وفتحت روسيا ذراعيها للأتراك، ونجح فلاديمير بوتين في إذابة نسبة كبيرة من الجليد في علاقات موسكو وأنقرة.
نجح بوتين في التوصل لتسوية مؤقتة بالشمال السوري، ومنح أنقرة الضوء الأخضر لعملية غصن الزيتون، كما أنه سبق وغض الطرف عن إسقاط أنقرة لطائرة روسية دخلت المجال الجوي التركي في 2015، مما مهد للتقارب الروسي التركي ولعل ذلك يغير الكثير من السياسات في الملف السوري لاحقًا.
الخلاف حول العقوبات الإيرانية
في مايو (آيار) الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، وهو الاتفاق المبرم في لوزان السويسرية عام 2015 بمشاركة أمريكا وإيران وخمس دول كبرى (الصين، وفرنسا، وبريطانيا، وروسيا، وألمانيا)، ثم أصدر ترامب أمرًا تنفيذيًا واجب النفاذ أعاد بموجبه تفعيل العقوبات الاقتصادية على إيران. في اتصال هاتفي بين بوتين وأردوغان، رفضت روسيا وتركيا الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وعملت الدولتان على مساعدة إيران، وهذا عزز التفاهم الروسي التركي، وبدأت تعاملات نشطة بين المصرف الحكومي التركي (خلق بنك) وإيران، وهو ما اعتبرته واشنطن تقطة خلاف جديدة أثارها الأتراك، وتحديا سافرًا للرغبة الأمريكية في إخضاع إيران.
تباين المصالح الأمريكية التركية
الخلاف حول تسليم غولن واعتقال أنقرة للقس برونسون، والخلاف حول العقوبات الإيرانية، مع نجاح أنقرة في إبرام صفقة إس-400، الرفض التركي لصفقة القرن، كلها عوامل ارتبطت بأزمة الليرة التركية، وليس صحيحًا أن اعتقال برونسون هو السبب الأوحد لهذه المشكلة. العقوبات الأمريكية ستكون قاسية على تركيا، وهي رسالة صريحة لكل من يقف في صف إيران، وتباين المصالح بين البلدين دفع أنقرة للتقارب مع موسكو، كما حث الأتراك على محاولات حثيثة لإيجاد أسواق عالمية بديلة مثل الصين والهند والدول الإفريقية.
بعد محاولة الانقلاب التركي، عانى الاقتصاد من اهتزازات انخفضت على إثرها قيمة الليرة، لكنها لم تصل منذ عشر سنوات إلى ما هبطت عليه الأيام الأخيرة، ويحتاج الأتراك لعمليات إنقاذ سريعة لإيقاف هبوط الليرة. في الوقت نفسه فإن وكالات الجدارة الائتمانية (التصنيف الائتماني) الأمريكية (موديز/ فيتش/ ستاندر آند بورز) تضرب الاقتصاد التركي في مقتل؛ فعلى سبيل المثال قدمت وكالة موديز في 29 سبتمبر (أيلول) 2016 تقارير حول الوضع التركي، ووصفته بالعالي المخاطر مما يبعث على قلق المستثمرين الأجانب، وهذه الوكالات للسياسة يد فيها، وهذا ما يزيد الأوضاع سوءًا.
التقارب الواضح مع روسيا والصين، وطلب أروغان قبول انضمام تركيا إلى مجموعة بريكس، قد تقلل من حدة الأزمة لكن التحسن لن يكون فوريًا، كما أن أروغان قد لوّح قبل ذلك بإعادة ربط الليرة التركية بالذهب، لكن احتمالات نجاح هذه الخطوة في الوقت الحالي تبدو ضئيلة. وتلخصت المطالب الأمريكية لإنهاء الأزمة مع تركيا في النقاط التالية:
1- الإفراج عن 15 معتقلًا في السجون التركية من المتورطين في محاولة انقلاب 15 يوليو بما فيهم القس الأمريكي.
2- القبول التركي للعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وإعادة تقييم العلاقات مع إيران بما يوافق السياسة الأمريكية.
3- التراجع عن صفقة إس-400 مع الروس.
4- قبول تركيا للأجندة الأمريكية بخصوص صفقة القرن.
5- التخلي عن الغاز الطبيعي والنفط حول جزيرة قبرص.
6- القبول التركي غير المشروط للعقوبات المزمع دفعها عن (خلق بنك).
7- إغلاق ملف المعارض السياسي فتح الله غولن، وعدم المطالبة مجددًا بتسليمه إلى أنقرة.
8- قصر ترخيص استخراج المعادن على الأراضي التركية للشركات الأمريكية فقط.
رفضت تركيا المطالب الثمانية، والأيام القليلة القادمة ستحمل المزيد من التطورات؛ فهل سيرضخ أردوغان للشروط الأمريكية؟ ماذا في جعبة الأتراك لإنقاذ الاقتصاد من كبوته؟ ماذا يحمل الجمهوريون في أجندتهم لتركيا؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست