«نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا، فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي».
بلسان الحكمة التي تتفجر من قلب الحقيقة قال شيخ المجاهدين عمر المختار تلك الكلمات عندما قدر الله عليه أن يقع في الأسر لدى أعداء بلاده المحتلين بعد حياة حافلة بجهاد أعياهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وحكموا عليه بالإعدام توهمًا منهم أنه إن مات ماتت معه قضيته وماتت مبادؤه التي نادي بها ووهب نفسه للدفاع عنها، وذلك لجهلهم بطبيعة هذه الدعوة، وبنوعية البشر الذين يحملونها ويبشرون بها، ولجهلهم بتاريخ الصراعات بينها وبين غيرها من الدعوات، فهي دعوة ربانية مؤيدة منصورة لأنها دعوة الله، وحملتها رجال ربانيون، الله غايتهم، ورضاه مقصدهم، والموت في سبيل الله أسمي أمانيهم.
والتاريخ يشي بأنها دعوة إن حاربوها اشتدت، وإن ضيقوا عليها امتدت، ومتي وجدت رجالها الذين يؤمنون بها فلن يقف أمامها جبار مهما بلغت قوته وسطوته، وإلا فأين قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم؟ وأين فرعون وهامان وجنودهما؟ وأين التتار والمغول ومن اعتدوا علي بلادنا باسم الصليب؟ وأين عبد الناصر ومن سار على دربه من الظالمين في التنكيل بهذه الدعوة وحملتها؟ هلكوا جميعًا وبقيت الدعوة وبقي التاريخ يذكر المجرمين باللعنات، ويذكر المخلصين بالرحمات.
ولعل مجرمي الانقلاب في مصر عندما اغتالوا الرئيس الشهيد كانوا يفكرون بنفس هذا المنطق الغبي، فظنوا أنهم إن قتلوه قتلوا معه قضيته وقتلوا معه الحق الذي وهب نفسه للدفاع عنه، فإذا بدمائه الزكية تعيد للثورة زخمها، ولقضيته روحها، وتجدد لقلوب الأحرار في كل بلاد العالم إيمانها، وإذا بهم يحولونه بقتلهم له، ثم بمنعهم الصلاة عليه إلى رمز عالمي ليصبح مثلًا تستلهم منه الشعوب معاني العزة والكرامة والثبات والصمود، فتقام عليه صلاة الغائب في كل بلاد العالم لينال ما لم ينله أحد من المسلمين قبله من هذا الشرف الذي اختصه الله به، وإذا بكلماته تدب فيها الروح بعد استشهاده لنسمعها وكأننا نسمعها لأول مرة واقفين على عمق معانيها وإخلاص قائلها، وليسمعها العالم أجمع ليصبح من قالها ومات في سبيلها أيقونة تغيير مرتقب في العالم كله يلبي طموحات الشعوب، حيث يزول الظلم، ويعم العدل، ويسعد الجميع بشرعة الله.
ولعله من الخير العظيم للأمة أن تقف جيدًا على سير عظمائها، وعلى عظمة مواقفهم، تربي أبناءها عليها، وتقف بهم على هذه القوة النفسية العظيمة التي حبا الله بها هؤلاء العظام والتي يجب أن يمتلكها أبناء الأمة، ليخلعوا عن أمتهم ثياب الذل والانكسار، وليلبسوها لباس العزة والفخار، هذه القوة النفسية العظيمة المتمثلة في إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.
ومن الخير أيضًا إذا أردنا أن نتعرف جيدًا علي هذه الشخصية العظيمة أن ندرس البيئة التي نشأت فيها بمكوناتها وأحداثها، فالبيئة الصالحة التي تحتضن المبادئ السامية، والخصبة بالأحداث العظيمة وبالتفاعل المجتمعي الإيجابي الذي يكون على قدر هذه الأحداث دائمًا ما تفرز القادة العظام الذين يقودون الأمة إلى حيث يجب أن تكون، ويضعونها في المكانة اللائقة بها.
والمتأمل يرى أن هناك الكثير من العوامل التي قد أثرت في بناء شخصية الرئيس الشهيد وساعدته على أن يمتلك هذه القوة النفسية العظيمة، وأول هذه العوامل هو طبيعة البيئة وظروف النشأة، فالرئيس الشهيد من مواليد محافظة الشرقية، وهي تلك المحافظة التي عاش فيها نبي الله يوسف، ومن بعده نبي الله موسي، وشهدت هذه المنطقة طرفًا كبيرًا من صراع الحق الذي يحمله موسي، والباطل الذي يحمله فرعون، إلى أن نجى الله موسى ومن تبعه وأهلك فرعون وجنده، وهذه الملاحم وغيرها من الأحداث التي جرت على أرضها، وخاصة بعد الفتح الإسلامي لمصر وعايشها الأوائل من سكانها قد ساعدت كثيرًا على أن تصح تصورات أبنائها وأن يحسن إدراكهم لطبيعة ومآلات الصراعات التي يشهدونها.. وهي كذلك أول منطقة في مصر تستقبل نور الإسلام حيث كانت المعبر الذي سلكه سيدنا عمرو بن العاص عند فتح مصر، فاختلط أهلها بالعرب الأوائل، وتأثروا كثيرًا بطبائعهم وأخلاقهم التي عرفوا بها.. فالشهامة والمروءة والصبر والجلد والعزة والأنفة والعفة والكرم كلها أخلاق تأثر بها أهل هذه المنطقة بمخالطتهم للمسلمين الأوائل من العرب الذين كانت هذه الأخلاق من سجاياهم التي لا يتكلفون إظهارها، بل هي جزء أصيل من بناء شخصياتهم، ودين أمرهم به قرآنهم وحثهم عليه نبيهم.
وفي أحد بيوتات هذه المنطقة، وفي قرية من قراها، قرية العدوة، إحدى قرى مركز ههيا، نشأ الرئيس الشهيد، فكان له الحظ الوافر من هذه الأخلاق التي أبهرت كل من عرفه أو خالطه أو سمع عنه، بيت ريفي بسيط يضم أبًا كان له المثل الأعلى في الرجولة والشهامة والمروءة، يعمل مزارعًا، ويشاركه أبناؤه في زراعة حقله، فيتذوقون معه طعم الفرحة بعد النجح، ولذة الراحة بعد التعب، وطعم النعيم بعد الشقاء، وأما أرضعته لبان الحكمة، وأشربته مكارم الأخلاق، وربته على أن يؤمن بربه، ويثق بنفسه، وينفع غيره، وأختين وثلاثة من الإخوة كان هو أكبرهم، فكان لهم بمنزلة الأب وكانوا له بمنزلة الأبناء، يوقر صغيرهم كبيرهم، ويرحم كبيرهم صغيرهم، وكان القرآن لهم صاحبًا، وحفظهم له أملًا، فحفظ القرآن الكريم، وجوده، ووقف على معانيه، وأعمله في كل مسارات حياته حتى أصبح جزءًا منه، ولعلنا قرأنا إحدى كلماته التي حفظها له التاريخ عندما منعوا عنه المصحف في محبسه فقال: منعوا عني المصحف ونسوا أني أحفظه منذ 30 سنة، كنت أريد فقط أن ألمسه.
والعلم لكل أبناء الريف هدف وطموح، فهو أقصر الطرق لتغيير حياتهم إلى الأفضل، فماذا لو كان هذا الطموح لدى فتى ذكي عبقري أريب كرئيسنا الشهيد؟ والذي لم يرض بين أقرانه إلا بالتميز، فحفظ القرآن علي نحو ما ذكرنا، وكان من العشرة الأوائل على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة، ثم التحق بكلية الهندسة جامعة القاهرة، فكان أول دفعته بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف ليكون معيدًا فيها، ثم يحصل منها على درجة الماجستير في هندسة الفلزات ليحصل على منحة دراسية للحصول على درجة الدكتوراة من جامعة جنوب كاليفورنيا لتبدأ سلسلة من بحوث واختراعات ما زالت تؤتي أكلها ويستفيد منها الدارسون في كل بلاد العالم في معالجة أسطح المعادن واكتشاف نوع من المعادن يتحمل السخونة الشديدة الناتجة عن السرعة العالية للصواريخ العابرة للفضاء الكوني، هذا وقد استفاد من علمه وتتلمذ على يديه الكثيرون من أبناء جامعات القاهرة والزقازيق وجنوب كاليفورنيا ولوس انجلوس وجامعة الفاتح بطرابلس.
وكما كان الرئيس الشهيد ناجحًا في حياته العملية فقد ورث نجاحه إلى أبنائه وأعطانا من حياته درسًا مهمًا في تربية أبنائنا، فليس من المهم أن يلتحق الابن بإحدى الكليات التي نسميها في بلادنا النامية بكليات القمة ليكون ناجحًا، بل إن نجاحه يتحدد بدخوله المسار التعليمي الذي يحبه ويناسبه والذي يستطيع من خلاله أن يصل إلى قمته التي يحددها ويرى نفسه فيها، فهذا أحمد ابنه الأكبر طبيبًا، وهذا أسامة محاميًا، وهذه شيماء حاصلة على بكالوريوس العلوم، وهذا عمر طالب بكلية التجارة، وآخرهم عبد الله طالب بالثانوية العامة، وإنك لتعجب عندما ترى أصغرهم هذا وهو يتحدث عن أبيه والقضية التي يحملها ويدافع عنها كما لو كنت تسمع شخصًا مخضرمًا في عالم السياسة ولم يكن ذلك كذلك إلا بحسن التربية والتوجيه الذي حظي به في هذه الأسرة الطيبة.
والبيئة الأخرى التي نشأ فيها الرئيس الشهيد وأسهمت بالنصيب الأكبر في بناء شخصيته وتوجيهه كانت جماعة الإخوان المسلمين والتي أصبح أحد أعضائها منذ عام 1979، وإن انتمى إليها فكرًا قبل ذلك بعامين، ولقد شهدت هذه الفترة معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ببنودها التي أصبح بعدها نصر أكتوبر كأن لم يكن، وبيع النصر بثمن بخس، وأصبح العدو صديقًا معترفًا به، وأصبح لسفنه الحق في المرور بقناة السويس، وأصبحت سيناء أرضًا منزوعة السلاح، وانتهت حالة الحرب بيننا وبين اليهود تاركين إخواننا في فلسطين يعانون من ظلم المحتل، ومقدساتنا لعدونا يدنسها ويعتدي عليها كيفما شاء، وليس لنا إلا أن نقول: نشجب ونستنكر، فعزلت مصر عربيًا، وعلقت عضويتها بجامعة الدول العربية حتى عام 1989، وانتفضت الشعوب مستنكرة ما فعلته القيادة المصرية بقضية العرب والمسلمين، ولقد كان الشاب محمد مرسي أحد هؤلاء الذين اعتصرت قلوبهم ألمًا من هذه الخطوة المذمومة وهذا الإجراء المرفوض الذي اتخذته القيادة المصرية، فقرر أن يضم صوته إلى صوت المخلصين من أبناء أمته، وأن يضم جهده إلي جهودهم، ليقوي صوت الحق بصوته وليعذر نفسه أمام ربه، ووجد ضالته في جماعة الإخوان المسلمين، فتربى معهم على قيم الإسلام ومبادئه، وفهم عنهم الإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ففهم عنهم أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، وأن مرجع كل مسلم في تعلم أحكام الإسلام هو القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلي الله عليه وسلم، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن الإسلام يحترم العقل ويحث على النظر في الكون ويرفع قدر العلم والعلماء، وأن الخلاف في الفروع لا يكون سببًا للتفرق في الدين ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، وأننا دعاة ولسنا قضاة دورنا التبيين وليس التكفير إلا من كفر كفرًا صريحًا وأقام عليه الراسخون في العلم الحجة درءًا للفتنة، وأن الجهاد شرف المؤمن وأنه ذروة سنام الإسلام، ومن أفضل أنواعه كلمة حق في وجه سلطان جائر، فعمل معهم لدينه جنديًا مخلصًا، جندي فكرة وعقيدة لا جندي غرض ومنفعه، لا يرى اعوجاجًا إلا وقومه، ولا معروفًا إلا وأقامه، مخلصًا لفكرته متجردًا لها، فأصبح عضوًا في القسم السياسي للجماعة منذ إنشائه عام 1992، وسلك مع الجماعة درب الجهاد السياسي، فتقدم ممثلًا عن دائرته الانتخابية في عام 1995، ثم عام 2000 ليكون في هذا العام متحدثًا رسميًا باسم كتلة الإخوان المسلمين المكونة من 17 عضوًا، ويبلي في هذه الدورة بلاءًا حسنًا، ويقدم استجوابًا للحكومة بشأن حادثة حريق قطار الصعيد أثبت من خلاله تورط الحكومة في هذه الحادثة، فيفوز في هذا العام بلقب أعظم برلماني في العالم، ثم انتخابات 2005 والتي فعل النظام المصري الأفاعيل في مرحلتها الثالثة لئلا يفوز الدكتور محمد مرسي، ويعتقل بعدها عام 2006 بعد مشاركته في تظاهرة تندد بإحالة اثنين من قضاة مصر إلى لجنة الصلاحية بعد معارضتهما لتزوير الانتخابات، ثم كانت الثورة المصرية والتي كان الإخوان المسلمون في القلب منها وكانوا درعها الواقي، فيعتقل الرئيس الشهيد في جمعة الغضب مع 45 من إخوانه ليحررهم الناس بعد ذلك بعد هروب كل القائمين علي سجن وادي النطرون، ويتصل الرئيس الشهيد بقناة الجزيرة في مكالمته المشهورة والتي يؤكد فيها على أنهم لم يفروا وأنهم مستعدون لتسليم أنفسهم إلى أية جهة مسؤولة موجهًا خطابه إلى أي مسؤول في النظام، ثم تحقق الثورة إنجازاتها فتخلع رأس النظام، وتختار من يمثلونها في المجالس النيابية، وتكتب دستورها، وتختار رئيسها فيكون الرئيس الشهيد هو أول رئيس مدني منتخب بعد الثورة، وتبدأ سلسلة صراعات جديدة بين الدولة العميقة والثورة بذلت فيها الدولة العميقة قصارى جهدها للالتفاف على الثورة وإفشال الرئيس، وبذل الرئيس فيها قصارى جهده للدفاع عن الثورة ومكتسباتها، ويحقق في هذا المسار نجاحات عظيمة، ولما تبين لهم استحالة ذلك كان الانقلاب عليه هو الحل، وقتل أنصاره واعتقالهم وتشريدهم وتهجيرهم هو المسار الأمثل لإخماد الثورة ووئدها، وظلوا سنوات ست يحاولون أن ينتزعوا منه ومن إخوانه في المعتقلات كلمة تأييد واحدة يشرعنون بها وجودهم ويحمون بها رقابهم ويهدرون بها حقوق الشهداء والمظلومين فما استطاعوا، فلم يبق أمامهم إلا أن يقتلوه رجاء أن يقضوا على الأمل الوحيد المتبقي لأنصاره والمنادين بشرعيته وليخمدوا صوت الثورة إلى الأبد فقتلوه.. هم أرادوا ذلك، ولكن الله يريد غير ذلك، فلقد أشعلت دماؤه الزكية جذوة الثورة في قلوب أنصاره من جديد، وجمع موته فرقاء الثورة، وأضاف قتله إلى سجل جرائمهم جريمة جديدة لن يفلتوا من عقابها، وأيقظت دماؤه ضمائر غافلة طالما صفقت للباطل، وأصبح الرئيس الشهيد أيقونة موجات ثورية جديدة لن تهدأ حتى تقوض عروش الظالمين، فيزول الظلم، ويعم العدل، ويسعد الناس بشرعة الله، ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست