ومن الوسائل التي أجاد النظام العالمي استخدامها في دعايته السوداء التي يتسلط بها على العقول عامة وعلى عقول المسلمين خاصة، السينما والأفلام والمسلسلات… إلخ.

وقد ارتبطت السينما في مسيرتها بتشكل ذلك النظام على مدى عقود تشكله، فرغم أن اكتشاف (صناعة السينما) كان قبل الحرب العالمية الأولى، إلا أن تلك الصناعة لم تقفز قفزتها الأولى ولم تجذب ملايين المشاهدين إلا بين يدي الحرب العالمية الأولى، لتنتقل بعد الحرب من السينما الصامتة إلى السينما الناطقة. ثم تأتي الحرب العالمية الثانية واستخدام ألمانيا النازية للسينما في الترويج لنفسها، ليستقر ثقل صناعة السينما بعد انتهاء الحرب وهزيمة ألمانيا  في الولايات المتحدة الأمريكية، رأس مصفوفة النظام العالمي الجديد منذ ذلك الوقت.

والحقيقة أن تلك الصناعة استطاعت الوصول إلى فئات وآفاق لم تصلها أي وسيلة أخرى من وسائل الدعاية، واستطاعت أن تنتحل شخصية الكتاب والصحيفة ومصادر خبرة الحياة عند الكثيرين، وأصبحت مصدرًا للثقافة والأخبار وحقائق الأمور والخبرات عندهم، فكثيرون هم من لا تتجاوز معلوماتهم عن (صلاح الدين) أو قطز – مثلًا – ما شاهدوه في الفيلم أو المسلسل من الحقائق المشوهة، والأكاذيب المدلسة، فصلاح الدين لم يقل أو يعتقد أن (الدين لله والوطن للجميع)، ولكن السينما جعلت ذلك أحد أسباب انتصاره وفتحه للقدس. وقطز كان أكبر وأعظم من أن تكون قضيته الأولى في الحياة هي العشق والوله، ولكنهم أرادوا الترويج للعشق بقطز المنتصر.

وما تلك إلا أمثلة على ما ترسخه السينما وأخواتها في لا وعي مشاهديها، وقدرتها على ترسيخ صور ذهنية مشوهة لخدمة صانعيها. وتلك هي المشكلة الكبرى للسينما، فالملايين عرفوا صلاح الدين مثلًا بالصورة التي قدمتها السينما، وربما بضعة مئات فقط من هذه الملايين هم من اطلعوا على شخصية صلاح الدين من مصادر أخرى موثوقة واكتشفوا باطل ما قدم لهم.

وبنفس الطريقة تسرب إلى لا وعي الشعوب اقتران الإسلام والإرهاب، وقبح شريعة الإسلام، وصنعوا الصورة الذهنية للمسلم المعتدي دائمًا، والذي ليس له قضية عادلة ينافح عنها.

وبنفس الطريقة أيضًا رسخوا الصورة الذهنية للسيد الغربي المبشر بالديمقراطية والذي يريد ترسيخ الحق في بلاد المسلمين حتى ولو بالسلاح، ولكنه السلاح العادل الذي لا يقتل مدنيًّا ولا ييتم أطفالًا ولا يرمل نساءً إلا من يستحق ذلك!

وعلى المستوى المحلي، استخدمت السينما لتشويه التيار الإسلامي وربطه بكل مسلبة ونقيصة؛ فالمتدين الذي تقدمه السينما لا يخرج عن كونه مريضًا نفسيًّا، أو جاهلًا أحمق، أو متظاهرًا كذابًا دعيًّا. وعلى الرغم من أن أبناء التيار الإسلامي الذين يعيشون في المجتمع ويخدمونه يقدمون أروع النماذج الأخلاقية، إلا أن الصورة الذهنية المنطبعة لا شعوريًّا في العقول تأبى على تلك العقول إلا أن تبصر النقائص وتضخمها وتجعل منها أصلًا لا استثناء. فكل نقيصة مقبولة من أي فرد في المجتمع، لا يقبل معشارها من ذلك الذي ينتمي لذاك التيار، فلو تعددت العلاقات النسائية غير المشروعة لأحد أفراد المجتمع من غير الإسلاميين مثلًا لالتمسوا له الأعذار وقالوا: (ومن منا بغير خطيئة؟!). أما لو عدد أحد الإسلاميين في الزوجات كما أحل الله فإنهم يستدلون بذلك على كونه – ومن يشبهه – شهوانيًّا زير نساء! وما ذلك إلا للصورة الذهنية المنطبعة لا شعوريًّا في نفوسهم عن ترسخ تلك الصفة فيه كما قدمتها السينما وأخواتها.

وخطورة السينما وأخواتها لا تتوقف عند طمس الحقائق وتقديم الأكاذيب وترسيخ الصور الذهنية المشوهة، ولكنها تعدت ذلك إلى تقديم نخبة سقيمة فاسدة يتم توجيه المجتمع من خلالها.

فالممثل المشهور بتقديم أدوار مقاومة الظلم ومحاربة الفساد، عندما يخرج على الشاشات داعمًا للنظام الحاكم – رغم ظلمه وجبروته – فإن المجتمع لا يستمع إليه من خلال شخصيته الحقيقية التي يعرف عنها الفساد والانحراف، ولكنه يستمع إليه – لا شعوريًّا – من خلال الشخصية التي اعتاد تقديمها في أعماله، شخصية البطل المقاوم للظلم والفساد، فيتلقى المجتمع كلام بطله بالتصديق والتسليم والاتباع!

وعندما يكرم المجتمع الراقصة التي قضت عمرها وهي تعرض جسدها في الملاهي الليلية وعلى الشاشات، عندما يكرم المجتمع تلك الراقصة كأم مثالية فإنه لا يكرم شخصيتها الحقيقية الساقطة، ولكنه يكرم صورة الأم التي انطبعت مؤخرًا في لا وعي المجتمع عنها من خلال المسلسل الذي قدمته في السنوات الأخيرة والذي لاقى رواجًا واسعًا.

وعندما يبرر ذلك الممثل إقصاء المجتمع لفئة معارضة وتنكيله بها، فإن من يشاهده لا يتلقى كلامه بالقبول لأنه يراه على حقيقته التي لا تتعدى كونه عنصرًا فاسدًا من عناصر مجتمع مهنته الغارق في الفساد، ولكنه يقبل كلامه لأنه يراه في صورة المثقف صاحب المبادئ كما اعتاد أن يراه دومًا من خلال الشاشة.

ولعل ذلك هو ما يبرر إنفاق الحكومات للملايين والمليارات على ذلك القطاع بدون عائد مادي ولا ربحية مناسبة، ولكنهم ينفقون عليه لضمان ولاء هؤلاء لهم، حتى يتم استخدامهم وقت اللزوم لتوجيه المجتمع شطر الوجهة التي يريدونها.

وهكذا يتم ترسيخ الصور الذهنية في اللاوعي من خلال السينما وأخواتها، ويتم تشويه المفاهيم وطمس الحقائق لا شعوريًّا للمجتمعات، بل ويتم بناء ممالك من الوهم في عقول المجتمعات.

وما زال في حديثنا عن مصفوفة النظام العالمي بقية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد