لم يكن يومًا مغريًا الحديث عن السعودية، المملكة التي حكمها لعقود شيوخ كانوا يرفضون الظهور والمبادرة، سواء في الداخل أو الخارج، إلا في لحظات مصيرية ومتباعدة، وغالبًا ما تكون حاسمة، فالمملكة التي بُنيت لتكون خيمة تقوم على عماد الأسرة الحاكمة والشيوخ وقوة النفط مع هدف سام هو حجب أشعة الأفكار الأجنبية، خصوصا أفكار العصر، كالحرية والمساواة والانفتاح، لم تكن تتصور أن يأتي اليوم الذي تنجرف فيه الأمور بعيدًا عن هذه الأسس؛ لأن قوة المال والعصبية الدينية كانتا كفيلتين بمواصلة نفس النهج ولمدة طويلة، لهذا فالكتابة عنها الآن وبعد أن برزت عضلاتها في مواجهة الرئيس السوري بشار الأسد وبعده انطلاق عاصفة الحزم في اليمن، ثم حصار قطر، ثم التلويح بمواجهة حاسمة مع إيران وذراعها القوي حزب الله، ثم تطهير مربع الحكم من العناصر المعارضة لسياسة ولي العهد يُظهر لنا تحولًا كبيرًا في هذه المملكة النفطية، والتي تحوي أكبر مخزون نفطي وأكثر المناطق قداسة في العالم الإسلامي.
من الهمس إلى الزئير
بدأ التغيير يجتاح السعودية بعد انطلاق ثورات الربيع العربي الذي أدى إلى سقوط أكثر الأنظمة بوليسية وقربًا من الحليف الأمريكي، وهي نظام تونس ورئيسه بن علي ونظام مصر ورئيسه مبارك، ثم الصعود المفاجئ للإسلاميين الخصوم الأكثر رعبًا لمنطقة الخليج في نفس الدول، حينها كانت السعودية تعيش آخر لحظات حكم الملك المعتدل عبد الله بن عبد العزيز، الذي بدأت تترسخ عنده قناعة كبيرة بأن نجم الأنظمة العربية بدأ في الأفول، وأن الحليف الأمريكي سيلعب نفس اللعبة التي لعبها سابقًا مع الشاه، وأنه سيتخلى إن لم يكن تخلى عن حلفائه العرب، لهذا وجهت دعوة لتوسيع مجلس التعاون الخليجي بضم كل من المغرب والأردن فيما بدا حينها خطوة لتأسيس ناد للملكيات العربية في مواجهة المد المتنامي للثورة، خصوصًا وأن البلدين الملكيين شهدا احتجاجات واسعة تم إخمادها عن طريق إصلاحات سياسية بدأها المغرب بإصلاح دستوري تلاه صعود الإسلاميين إلى الحكومة بينا قام الأردن بتوسيع هامش المشاركة السياسية للإسلاميين.
ومع أن الأردن رحب بالخطوة، إلا أن المغرب اعتذر؛ لأن مكانه الطبيعي هو جواره المغاربي واتحاده المتعثر كما جاء في تصريحات رسمية، بالرغم من الاعتزاز الذي أبداه بالثقة الخليجية والعلاقات المتينة، وإذا نظرنا اليوم إلى الدعوة السعودية (لم تناقشها مع أعضاء التعاون الخليجي) نجدها خطوة أملتها ضرورة ظرفية، ولم تكن ضمن استراتيجية بعيدة المدى يُمكن أن تعزز الاندماج العربي، أو أن تُساهم في تقوية ميثاق جامعة الدول العربية التي أنشئت لتوحيد وجهات النظر للدول في أفق الاندماج الكامل، بل كانت ردة فعل تتوخى خلق جسر للنجاة ستكشف الأيام أنها بوادر للعصر السعودي القادم.
خلال الربيع العربي وجدت السعودية نفسها تقاتل على عدة جبهات، ألأولى هي الجبهة الداخلية حيث اضطرت إلى ضخ سيولة كبيرة لدعم الطبقة الوسطى والفقيرة، ثم جبهة الحلفاء الذين عملت على تقويتهم ودعمهم ماليًا ضد المطالب الاجتماعية التي واجهتهم، خصوصًا البحرين والأردن والمغرب، وعلى ضوء الربيع العربي تشكلت جبهة موازية من الأعداء المتمثلة في سوريا وإيران وحزب الله والإخوان المسلمين والعلمانيين الثائرين، كما وجدت نفسها في مواجهة كبرى مع دول نفطية كروسيا وفنزويلا حليفتي إيران، واللتين حاولتا إخضاعهما عن طريق زيادة الإنتاج النفطي وخفض الأسعار، ولو على حسابها شخصيًا.
هذه الحالة الجديدة من التغيرات فرضت على السعودية اتخاذ موقف وهو موقف المعارض لأي تغيير يمس الأوضاع القائمة في المنطقة، خصوصًا أن إيران، وهي المنافس الشرس، تستعد لابتلاع كل ما تجده في طريق توسيع نفوذها، لهذا تكونت قناعة راسخة بعد توقيع الاتفاق النووي، وبعد أن سقطت صنعاء وبعد بروز داعش وتدخل روسيا لصالح الأسد، أنها تقف على منحدر خطير، وأنها يجب أن تكون لنفسها جبهة قوية تحمي من خلالها مصالحها.
التــــــــــحالف
هذه التسمية الأثيرة على قلوب أهل الخليج، خصوصًا بعد عاصفة الصحراء التي هزمت صدام في الكويت، وبعدها قوات التحالف التي اقتلعت نظامه من العراق، ثم نشوء التحالف ضد داعش جعلتهم يعتبرون الاسم مصدر قوة، وفأل خير، لهذا ومع تولي الملك سلمان زمام الحكم تم تجميع دول عربية تحت مسمى عاصفة الحزم تحت إشراف التحالف العربي لإعادة الشرعية إلى اليمن وسط صخب إعلامي كبير (بدأ يخف مع توقيف دور قطر) لم يسمح لأي صوت معارض بالبروز، وفي البداية كانت مشاهد قصف مراكز الحوثيين تملأ الشاشات وصور الطيارين تغزو الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي مع مباركة شعبية، ومع توالي الأيام بدأت صور المدنيين ضحايا القصف والتجويع تملأ تقارير الإعلام الغربي وتقارير الهيئات الحقوقية المختلفة؛ ما أدى إلى حملات ضد السعودية أحرجت الدول الغربية التي تبيعها السلاح أكثر مما أحرجتها.
إن عقيدة السعودية المعاصرة والمستقبلية هي المواجهة والضرب بقوة، فإذا كانت تنتظر في الماضي أمريكا لتبادر ثم تتبعها، أو أن تنتظر الآخرين لحمايتها بسبب ثقلها الاستراتيجي فقد أصبحت الآن هي من يبادر لحماية نفسها وحلفائها عن طريق الاستثمار المالي والعسكري والرمزي (لمكانتها الدينية)، فهي ماليًا تقوم باستثمار في اقتصاديات حلفائها ومساعدتهم ماليًا لتكوين شبكة مصالح اقتصادية أشبه بلجام تستطيع به جرهم انطلاقًا منه، كما فعلت لعقود مع الولايات المتحدة وبريطانيا حيث استطاعت عبر عقود التسليح والاستثمار ضمان ولائهما لمصالحها، سواء وقت الحرب أو السلم، بينما تقوم عسكريًا بدعم صفقات التسليح للدول الحليفة وتسهيل التعاقدات مع الشركات الأمريكية، وخير مثال هو السودان الذي ضمنته السعودية، وبدأت بتأهيل نظامه ودفع أمريكا لرفع عقوباتها ضده بعد انخراطه في عاصفة الحزم.
.إن التحالف ضد الحوثيين، كان مجرد البداية حيث أعلنت السعودية فيما بعد إنشاء التحالف الإسلامي الذي سيتكون من دول إسلامية غير عربية إلى جانب الدول في التحالف ضد الحوثي، وهذا التحالف الذي يراد له أن يكون حلف ناتو جديد، بدا للوهلة الأولى مضحكًا، حيث لم تسبقه استعدادات ولا يُعرف كيف يُمكن تجميع جيوش هذه الدول في إطار واحد، خصوصا أن لكل منها عقيدته وحساباته، حتى أن أغلب دوله لم تُستشر في مسألة العضوية وفي وضعه الاعتباري، وهل يُمكن له أن يكون فعلًا مظلة لحماية الدول الضعيفة منه، وليس تعبئة الصغار لحماية الكبار فحسب؟ كما جرت العادة كلما أحس الخليج بالضغط، هذه الأسئلة لم ُتُجب عليها السعودية، وربما لن تُجيب عنها ما دامت لم تقرن الكلام بالفعل، حيث لم تضع مقرًا مركزيًا ولا ميثاقًا جامعًا كما لم تهيئ العتاد والجنود ولم تضع ميزانية خاصة له، ولم تحدد مساهمات الأعضاء وعقيدة للحلف، خصوصًا أن أغلب دولة ستكون عالة على الغرب فيما يخص التدريب والتسليح، أي أن هذا الناتو الإسلامي سيكون تكرارًا لسيناريو الجيوش الوطنية حيث تتجمع كتل بشرية تغيب عنها قدرة الاعتماد على الذات والتصنيع والتخطيط، فما بالك لعب دور استراتيجي يضع أوروبا وأمريكا وروسيا في موقع الند.
الأحلام شيء والواقع شيء آخر، والواقع قد أثبت أن القوة الجوية والإفراط في استعمال القوة في حروب لا تتأسس على مشروع منطقي وحجة تبرر العنف، مادامت السياسة والدبلوماسية أسبق منه (ربما هم يرون الحرب أقصر الطرق لبلوغ الغاية)، لا يمكن أبدًا أن تصل إلى مراميها، وهو ما حدث في حرب اليمن، ويُمكن أن يحصل في حرب محتملة ضد إيران وحزب الله؛ لأن التناقضات وعدم احتمال الرأي المخالف وهي مبادئ بسيطة، قد تؤدي إلى فاتورة باهظة، لكن ربما لهؤلاء منطقهم الخاص.
سياط الحزم، من الخارج إلى الداخل
في حرب اليمن، بدا جليًا أن ابن سلمان يريد إرساء صورة القائد القوي عن نفسه وأن يرسي دعائم عقيدة المواجهة كرسالة مباشرة لكل من يحاول اللعب في مجال نفوذ بلاده، وبالرغم من كل الانتقادات والتشجيعات لم يتوقع أي من المتشائمين أن تمتد هذه السياسة نحو من كانوا يشكلون أركان الدولة نفسها، كالشيوخ والأمراء إلى من يشكلون امتدادًا طبيعيًا للسعودية من الدول كقطر، أي الانتقال من مواجهة حازمة مع الأعداء الذين يجاهرون بعدائهم في الخارج إلى مواجهة الإخوة المختلفين في المواقف ووجهات النظر وهذه قفزة كبيرة ومقامرة تكشف عن طبيعة المرحلة القادمة.
هذه المقامرة تكشف نزعة نحو التحول من نظام متعدد الأقطاب ومراكز الثقل إلى نظام موحد خلف ركيزة واحدة ورأي واحد، فالعصر الذي كانت فيه العائلة والأعراف والمال ضمانة للصمت والطاعة لولي الأمر بدأ في التلاشي ليحل معه نظام أكثر تشددًا لا يسمح حتى بإبداء الرأي المخالف، ولا بامتلاك نصيب من الثروات كما كان مألوفًا، لأن رؤية 2030 تراهن على التحول إلى مجتمع عامل ومنتج، وبالتالي فريع البترول سيذهب نحو بناء مشروعات ضخمة، وليس لجيوب الأمراء والشيوخ بشكل مباشر، وبالرغم من أن هذه المسألة إيجابية، لكنها بالنسبة لمجتمع ريعي هي تحد مباشر للوجود والاستمرار، أو ربما كما هو مأمول قد يكون حافزًا لنمو طبقة محلية أكثر ميلًا نحو اقتصاد السوق والتصنيع والانفتاح التجارة العالمية بدل الاعتماد الكلي على موارد النفط، وهذان هما وجها المقامرة التي تنخرط فيها السعودية.
إننا على أبواب عصر آخر، لم يتم التمهيد له ولا توقعه، فالمال الذي حجب لفترة طويلة طموح الشباب وآمال التقدميين وأنوار العالم بدأ يدب رويدًا داخل جسم هذه المملكة التي تتوق نحو الصدارة، لكن بسرعة فائقة يتوجس الكثيرون أنها مجرد مناورة لبسط السيطرة داخليًا وخارجيًا، ثم العودة لما كان عليه الحال من قبل كما هو حال الأنظمة التي تجدد نفسها قبل أن تواصل سيرتها القديمة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست