مما لا شك فيه، أن محاولة «تهويد» القدس بقوة العسكر، وطمس هويتها إلى ما لا نهاية بدعم الغرب، والاعتداء على الأقصى، المركز الروحي الثاني للمسلمين بعد الحرمين، قد أماط اللثام عن اللبس الذي طغى في السنوات الأخيرة على المستوى المفاهيمي.
رباط المقدسيين
لقد كان رباط المقدسيين، بباحات الأقصى الشرارة السلمية الأولى التي أوقدت شوارع كل فلسطين المحتلة من البحر إلى النهر، ومعها كل عواصم العالم، غربية كانت أو عربية، حيث اجتاحتها التظاهرات للدفاع عن المبادئ والقيم الكونية التي لا تقبل التجزيء ويبقى أبرزها الحق في الحياة في حي الشيخ جراح ومن خلاله في سائر فلسطين المحتلة. هذا الرباط، والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، تجاوز حدود التجزئة والتفرقة الأيديولوجية، ورسخ مفهوم العقيدة الواحدة: وطن محتل ويجب تحريره بالدم الفلسطيني الواحد، بعيدًا عن كل التجاذبات السياسية والفكر الفصائلي. فكر الوطن الواحد المحتل ووجوب الانتفاضة، كان أبطاله من جيل ما بعد «معاهدة أوسلو». بمعنى آخر إنه جيل ليس مؤطرًا أيديولوجيًا، أو محسوبًا على تنظيم بعينه، مقيدًا بسقف معين من الإجراءات تراعي بالدرجة الأولى التزامات كل «فصيل» السياسية مع شركائه الدوليين، بقدر ما هو مؤمن بوطن واحد يجمع كل الأطياف، بمسيحييه ومسلميه، فتحاويين أو غزاويين، متدينين أو علمانيين، متشددين أو منفتحين.
لقد ظن الاحتلال أن هذا الجيل قد تم تدجينه فكريًّا، وتم تقييده بمعاهدة «السلام» المزعوم، وأن خضوعه لأمر الواقع بات من المسلمات، وأن الدماء الثورية راحت مع الرعيل الأول من الشهداء والمقاتلين الفلسطينيين، ولم يبق من ذكرى الثورة ضد الاحتلال إلا ما يصلح للسرد التاريخي لا غير.
جيل المرابطين بالمقدس، وانتفاضة فلسطينيي الداخل، بالتوازي مع المقاومة المسلحة الفلسطينية التي أضاءت ليل جغرافية مدن الاحتلال، أعطت للاحتلال الصهيوني أول درس في معنى «إستراحة المحارب»، من جيل لآخر، وأن مفهوم الثورة هو فصيل من نوعية الدم حصرًا على الفلسطينيين، قد ينضاف إلى فصائل الدم المتعارف عليها طبيًّا. الدم الثوري الساخن الذي يجري في عروق كل فلسطيني حتى وإن بدت برودته للبعض من فوق الجلد لفترة من الفترات، قد وصل درجة الغليان وقلب كل التوقعات بوأد القضية الفلسطينية وتطويع الشعب الفلسطيني حتى وإن هرولت الدكتاتوريات العربية نحو التطبيع.
تطبيع الحكام العرب: الدرس الثاني
منذ النكبة وإلى اليوم، راهن الاحتلال الإسرائيلي على جل الحكام العرب (مع بعض الاستثناءات)، سواء كانوا مماليك أو جمهوريات، من المحيط إلى الخليج، عبر تثبيت عروش أنظمة استبدادية على رقاب الشعوب العربية، بدعمها ماديًّا وعسكريًّا واستخبارتيًّا خدمة للمشروع الصهيوني في نهاية المطاف. رهان قد يكون «الربيع العربي» قد عصف ببعضه، لكن رياح خريف آخر تلت «الربيع» أتت بعملاء جدد، باسم الديمقراطية، كانوا سباقين للهرولة نحو التطبيع كما حدث في السودان، وآخرين كانوا في الأصل مطبعين بشكل سري، وقايضوا إعلانهم «علنًا» بقضية الصحراء الغربية كما حدث في المغرب، أو أولئك الذين خنقوا المقاومة الفلسطينية عبر حصار المعابر وغلقها كما هو الشأن بالنسبة لنظام السيسي في مصر.
قد لا ننكر أن تطبيع الأنظمة العربية بشكل علني، وبكل وقاحة، مع الكيان الصهيوني، قد شكل نكسة عربية نفسية «ثانية» لدى الشعوب العربية، المغلوبة على أمرها، وكان حدثًا ضارًا بكل المقاييس، لكن رب ضارة نافعة كما يقال. فالتطبيع مع الحكام ليس بالضرورة تطبيعًا مع الشعوب. وهنا مربط الفرس، فالصهيونية لم تستطع منذ نشأتها كسر الحاجز النفسي للمواطن العربي لاحتضان شىء اسمه «إسرائيل» على أرض فلسطينية. قد يكون الحكام العرب قادرين على التطبيع سياسيًا، وتبادل سفارات رسمية على المستوى الدبلوماسي، ترفع علم الاحتلال في عواصم عربية، أو إنشاء علاقات اقتصادية وأحلاف عسكرية لتبادل خبرات قمع الشعوب الرافضة لظلمها أولًا وظلم الشعب الفلسطيني ثانيًا. لكن يبقى الحاجز النفسي للمواطن العربي في رفض كل ما هو صهيوني إسرائيلي، موجودًا في الذهنية العربية ويتم تفعيله بمجرد ذكر اسم الاحتلال الإسرائيلي واسترجاع جرائمه في دير ياسين، حيفا، عكا ومذابح صبرا وشاتيلا ورش قطاع غزة بشتى أنواع القنابل المحرمة دوليًّا.
حاجز نفسي عربي لا يتذكر من الاحتلال إلا جرائمه ضد الإنسانية المرتكبة في حق الفلسطينيين بدم بارد، في كل شبر من أرض فلسطين، سيظل جدارًا ذهنيًّا أمام تقبل فكرة قيام دولة إسرائيل على أنقاض دولة فلسطين، رافضًا لكل السياسات والاعترافات، دولية كانت أو إقليمية، لـ«دولة» دست عنوة وبالقوة في خارطة الشرق الأوسط العربي… ما لم ينل الفلسطينيون حقوقهم التاريخية.
تطبيع من نوع آخر
يبدو أن المشهد اليوم في فلسطين المحتلة، قد اظهر نوعا آخر من التطبيع اسمه : إخوة الدم في الوطن المحتل. فبعيدًا عن كل المزايدات الأيديولوجية، كما أسلفنا، فقد نشأ جيل ما بعد معاهدة أوسلو لا يؤمن بالتأطير السياسي ولا بالانتماء الفصائلي أو الحركي بقدر ما يؤمن بأن فلسطين هي الحاضنة الفكرية والسياسية التي تستدعي تلبية النداء حين ينادي أقصاها.
جيل يؤمن أنه في حضرة فلسطين تنصهر كل المفاهيم الطائفية، الدينية، العرقية، الفصائلية… وغيرها. ويبقى مفهوم واحد لا غير: فلسطين المحتلة. بكل تأكيد أن الاعتداء على المسجد الأقصى ومحاولة تهجير الفلسطينيين قسرًا من بيوتهم بقوة العسكر والسلاح وقتل المدنيين نهارًا جهارًا أمام عدسات الكاميرات أو تحت جنح الليل… هي جرائم ضد الإنسانية يجرمها القانون الدولي. لكن ما دام الكيان الصهيوني «دولة مارقة» ولا يهمها القرارات الدولية فإن جيل ما بعد أوسلو قد قلب كل المعادلات الدولية ونسف كل المفاهيم من مدريد مرورًا بأوسلو وصولًا إلى التطبيع. والتي تدعو إلى طمس القضية الفلسطينية وتكريس الاحتلال. معلنًا أن الشعب الفلسطيني واحد بكل أطيافه وعصي على التطويع وأن أرض فلسطين للفلسطينيين والأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين وسيظل حي الشيخ جراح للمقدسيين، حتى وإن قبض الحكام العرب عربون بيع بيت المقدس بمباركة أمريكية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست