رواية للكاتبة العُمانية جوخة الحارثي، نشرت سنة 2010 الرواية فازت بجائزة مان بوكر الدولية لسنة 2019 في بريطانيا.
من الصفحة الأولى تجد نفسك أمام كاتبة عظيمة مميزة في السرد وعنصر التشويق، تتحدث عن عشق ميا الصامت الذي ينتهي بزواجها من شخص آخر وهو ابن التاجر سلمان، قرأت الرواية حتى آخر سطر فيها، وأنا أبحث عن بقية قصة عشق ميا التي لم تكتمل، ولكن لم يكن موجود أي شيء، تركتها لخيال القارئ، بشكل رائع لم يمس الرواية بأي نقص.
تتحدث عن فترة الشباب لشخوص الرواية، ثم تنتقل بك بسلاسة وهم يتحدثون عن ماضيهم كل بطل حسب ذكرياته، قدرة الكاتبة على التنقل في السرد من لسان الراوي ولسان الأبطال أنفسهم يعكس تمكنها وخبرتها الواسعة، فأنت لا تضيع أبدًا بين حاضر الأبطال وماضيهم، وبين كل فقرة وفقرة تطرح على نفسك الكثير من الأسئلة، وكأن الكاتبة تترك مجالًا للقارئ في بعض الأحداث ليكمل كتابتها هو بالشكل الذي يرضيه، نهاية مفتوحة لبعض الأحداث لكن بين ثنايا الرواية تجد الإجابات، فميا التي تضرب ابنتها وتحطم هاتفها عندما تعرف أنها تحب ابن البيدار وتضحك من زوجها الذي سألها إذا كانت تحبه، لم تعشق أصلًا، لم يكن عشقها إلا انبهار النظرة الأولى، وتؤكد الكاتبة على لسان حنان عندما تقول: الحب أحلام والزواج واقع.
قصة وفاة زوجة التاجر سليمان وعلاقة أخته فيه، تنهيها في آخر الرواية عندما تتذكر مسعودة كلام الأخت واتهامها للزوجة، وتتركك أيضًا بين ألف سؤال، هل قصدت الكاتبة أن علاقة التاجر سليمان بزوجته كانت زوجته فيها ضحية، ضحية لنزواته أم غيرة أخته أم الاثنين معًا؟
خولة، قديسة الحب الطفولي، التي أفنت عمرها تنتظر حبيب الطفولة ينضج، تستيقظ في منتصف عمرها وتطلب الطلاق، لأنها لم تعد تحتمل العذاب الذي عاشته في قصة حبها، وما أكثر شبيهات خولة، تجد الفتاة مكتملة كالقمر علم وجمال ومال ونسب وتطارد رجلًا أرعن لا يحمل المسؤولية، فقط لأنها مؤمنة أن الحب يصنع المعجزات، حتى إذا وصلت إلى عمر لم تعد تحتمل تنسحب، ولكن؟ أفنت عمرًا كاملًا في الإهانة والتعذيب والملامة والضعف، والانكسار، الحب لا يصنع المعجزات، الحب وهم وحلم، وكم من الأحلام تصطدم في الواقع وتتلاشى، إصرار ابن البيدار على حب لندن أكد على رؤية الكاتبة، لقد وصفت بدقة الرجل النرجسي الذي يحيط المرأة الكاملة بكل رومانسية حتى إذا امتلكها أهانها وأفرغ ما فيه من عقد النقص، صديقة لندن ووالدها وأمها كانوا جميعًا معها، فاستطاعت الهروب منه وما يزال فيها حياة، فظل يحوم حولها ليضمن تحطيمها بالكامل، تبقى لندن في صراع بين الشوق والندم، للأسف كثير من الفتيات تستلم للرجل النرجسي، الذي لن يتركها وفيها حياة، لن يتركها حتى يحطم كل شيء في حياتها، تستيقظ بعد فوات الأوان، عندما تكون ذابلة كورقة خريف، لم تعد صالحة لشيء، وتتلاشى ويعيش الحبيب الذي أقنعها أن الحب يصنع المعجزات سلطان الزمان يبحث عن ضحية أخرى يمتص روحها، اهربي قبل فوات الأوان.
إن الملفت في أسلوب الكاتبة عرضت كثير من قضايا المجتمع، مثل معاناة عائلة الطفل المتوحد، ونظرة الناس للطفل المنغولي تحديدًا في فترة الرواية، ولكنها عرضتها بتجرد وطريقة راقية جدًا، تطرقت لمعاناة العبيد، والتجار والأزمات السياسية بحياد وبطريقة لا تستفز أحد، كما أنها لم تشيطن الرجل في روايتها وتظهره الظالم المستبد، كانت تكتب بنظرة المرأة العاقلة المتزنة التي تقدر الإنسان وتحترم المجتمع وتغير ظروفه، فعبد الله ابن التاجر سلمان ضحية والد متسلط يعذبه لأنه يريد منه رجلًا قويًا يرث تجارته، لا يقتنع بالعلم، فبنظره المال أهم شيء.
أسماء البطلة القارئة، التي تصطدم بين أسطورة الروح المدورة وعشق كل نصف للآخر، وبين طبيعة زوجها الفنان، لكن ثقافتها وعلمها يجعلانها تتغلب على صدمتها وتصنع لنفسها فلكًا موازيًا لزوجها تحترمه ويحترمها ولكل منهما مساره، عكس خولة الجاهلة التي لم تقرأ إلا روايات عبير وعاشت حياتها بائسة في انتظار الصفحة الأخيرة من روايات الحب التي قرأتها.
من خلال قصة مروان الطاهر تلفت النظر لقضية مهمة في تربية الأطفال، فمروان الطاهر الذي نشأ على تقديسه من قبل أهله؛ لأن أمه حلمت به حلمًا فسره لها الشيخ بأنه سيكون ولدها رجلًا صالحًا، يكون مريضًا في مراهقته بالسرقة: لم يصدق أنه هو نفسه المعتكف في المسجد يتسلل ليسرق هذه الأشياء التافهة، إننا نعاني أزمة الكمال في مجتمعاتنا، ولا نعترف بالمرض النفسي، أو الابتلاء، عندما تربي ابنك على تقبل عيوبه ولا قدر الله مرضه أو تجربة فشله، يكون متزنًا قويًا يستطيع التجاوز، بعيدًا عن تضخيم الأنا لديه، وهذا ما حدث مع مروان الطاهر الذي احتقر نفسه، ووضع حدًا لحياته لأنه لم يحتمل نقصه الذي لا يعلمه أحد غيره.
زوج أسماء الذي يعتقد أنه وجد نفسه وحريته أخيرًا عندما اختار لنفسه حياة بعيدة عن والده، ليكتشف عند موت أخته أنه لم يبتعد أبدًا فهناك الكثير من الروابط المشتركة بينهما، مهما اختلف الآباء والأبناء فلا أحد ينفصل عن عائلته تمامًا كأن لم تكن.
من المؤسف حقًا ألا أعرف مثل هذه الكاتبة العبقرية المتمكنة إلا بعد فوزها بمسابقة عالمية، إن أسلوبها لا يقل تميزًا عن الكاتب إليكس هيلي في رائعته «الجذور»، إن إعجابي برواية سيدات القمر فاق مرتفعات وذرنغ لإيملي برونتي، تركت في نفسي أثرًا مثل رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، لماذا ينتشر في عالمنا العربي روائيون أقل دراية وتمكنًا ولا نسمع عن المبدعين المميزين إلا من خلال الجوائز العالمية، هل هي مشكلة تسويق؟ لا أعتقد أنها مشكلة القارئ العربي، فها هو القارئ العربي منذ عرف «سيدات القمر» قدرها ولمس التميز فيها؟
من المؤكد أنه يوجد في العالم العربي كثير من الروائيين المبدعين الذين تضاهي أعمالهم أعمالًا عالمية، لكننا لا نسمع عنهم إلا إذا أسعفهم الحظ وعرفهم ناشر غربي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست