لقد علمتنا قصائد قديس الكلمات معنى الحب والهيام، تذوقنا عبرها عذوبة الوصال ومرارة الاشتياق والفراق. لقد أحدثت قصائد نزار قباني ثورة حقيقية آنذاك في الشعر، فجرعة الجرأة كانت تفوق ما قد يتقبله المجتمع السوري المحافظ أبان فترة المقاومة، حيث ما كان للنساء سوى الرضوخ لقرارات الرجال.

إن نزار قباني جعل من المرأة محور شعره، تمردها، حنانها، كبريائها.. كل ما قد تعيشه المرأة حولتها أنامل نزار إلى تراث جميل لا يزال باقيًا فقد استمر قباني في اكتشاف المرأة من أول سنواته رفقة أمه وأخته وصال، إلا موت معشوقته حتى الثمالة – كما يصفها نزار – بلقيس.. يقول نزار قباني: إذا لم أضيع وقتي في اكتشاف المرأة، فهل أضيّعه في اكتشاف الرجل؟

لقد ملأ نزار قباني الدنيا جدلا طوال حياته، بل حتى بعد موته، كل هذا بسبب المرأة.

لكن هل فعلًا شيء نزار قباني المرأة في شعره وجعل منها فقط جسدًا وألغى روحها؟

كإجابة مقتضبة عن هذه الإشكالية، يقول شاعر الحب، إنه يحاول بشعره أن يحذف المرأة من قائمة الأطعمة ويضعها بقائمة الأزهار، ويحاول أن يحذفها من قائمة العقارات والأملاك ويحطها يقائمة الكتب التي تقرأ، وقائمة الخراف التي تنتظر الذبح إلى قائمة المتاحف التي تزار، والسمفونيات التي تسمع، فيجب قراءة شعره جيدًا حتى يتبين لنا ذلك.. وقد عبر عن رفضها مرارًا للطريقة التي تعامل بها الأنثى في المجتمعات الذكورية، حيث يقول في كتابه المرأة في شعري وفي حياتي: إن الرجولة كما يفهمها مجتمع الرجال لدينا، هي القائمة على الكسر، والقمع، وإلغاء إرادة الأنثى.. فمن النظام الأبوي إلى النظام الزوجي، تنتقل المرأة من معتقل إلى معتقل.. ومن رجل مباحث إلى رجل مباحث

إن المرأة في شعر نزار حسب الباحثين، «هي المحور الذي يدور حوله والفلك الذي يسير فيه، «حيث أن أغلب قصائده جعل من المرأة الملكة التي تتربع على عرش الأسرة، والحب والصداقة، والقوة.

وقد تناولت عدة أبحاث شعر نزار بالدراسة والتحليل، وخلصوا إلى أن قضية المرأة في شعر نزار قباني تنشعب من مرحلتين شعريتين تجسدان مفهوم المرأة عند الشاعر. (المرحلة الأولى: مرحلة المرأة/ الجسد) تحرير الفرد. تحرير الذات (والمرحلة الثانية: مرحلة المرأة/ الرمز) تحرير المجتمع. تحرير الآخر.

وعلاقة نزار قباني بالمرأة وحبه لها بدا في سن مبكرة، نظرًا لأنه أصغر إخوانه، فقد تلقى حنانًا وحبًا واهتمامًا لا يوصف من طرف أمه وأخته الكبرى وصال، كما أنه ينحدر من أسرة تقدس الحب حيث يقول نزار» أنا من أسرة تمتهن العشق، والحب يولد مع أطفال الأسرة كما يولد السكر في التفاحة، في الحادية عشرة من عمرنا نصبح عاشقين، وفي الثانية عشرة نسأم، وفي الثالثة عشرة يصبح الطفل في أسرتنا شيخًا أخوتي كلهم يسقطون هكذا، وأبي كان هكذا، وصاحب طريقة العشق.. كل أفراد الأسرة يحبون حتى الذبح.

وقد عاش نزار مأساة غيرت معالم طفولته، وهي انتحار أخته الكبرى وصال، بسبب الحب: «في تاريخ الأسرة حادثة استشهاد مثيرة سببها العشق.. الشهيدة هي أختي الكبرى وصال، قتلت نفسها بكل بساطة، وبشاعرية منقطعة النظير، لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها.. صورة أختي ما زالت وهي تموت من أجل الحب محفورة في لحمي».

لقد أصدر نزار قباني أول دواوينه الشعرية سنة 1944، وقد أحدث هذا الشاب العشريني جدلًا واسعًا في دمشق. حيث اتهم البعض شعره بالإباحية، يقول نزار:

«قالت لي السمراء» حين صدوره أحدث وجعًا عميقًا في جسد المدينة التي ترفض أن تعترف بجسدها أو بأحلامها.. لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون، وكان لحمي يومئذ طريً.

لقد استطاع نزار من خلال ديوان قالت لي السمراء، وبالرغم من كل الانتقادات التي وجهها المجتمع الدمشقي إليه آنذاك، أن يكسر العديد من التابوهات المحرمة في المجتمعات الشرقية، كالخيانة الزوجية من طرف المرأة، والحب وجسد المراة.

من أشهر قصائد هذا الديوان، قصيدة مكابرة:

تراني أحبك؟ لا أعلم
سؤال يحيط به المبهم
وإن كان حبي افتراضيًا. لماذا؟
إذا لحت طاش برأسي الدم
وحار الجواب بحنجري
وجف النداء.. ومات الفم
وفر وراء ردائك قلبي
ليلئم منك الذي يلئم
تراني أحبك؟ لا. لا محال
أنا لا أحب ولا أغرم

وقد رأى البعض أنه بالغ في وصف النساء والعاريات في شعره ما يجعله يتجاوز الأخلاق والقيم العربية والإسلامية. الذي يعتنقها نزار والوسط المنتمي إليه.

المرأة في حياة نزار

عاش نزار مغامرات عديدة مع النساء، وذلك راجع إلى طبيعة عمله الدبلوماسي الذي يفرض عليه التنقل المستمر من بلد إلى آخر، أو ربما لكونه شاعر، الشيء الذي يدفعه إلى البحث عن مصدر للإلهام، والمرأة هي ملهمة جل الشعراء ونزار ليس الاستثناء في هذه الحالة، لطالما عبر عن حبه الشديد بكل شؤون النساء.

تزوج مرّتين في حياته، زوجته الأولى كانت ابنة خاله زهراء آقبيق وأنجب منها هدباء وتوفيق، وقد توفيّ توفيق ابن نزار  عام 1973، وكان طالبًا بكلية طب جامعة القاهرة في السنة الخامسة، والذي ترك الأثر الكبير في حياته، وقد نعاه نزار بقصيدة «الأمير الخرافي توفيق قباني» وتوفيّت زوجته الأولى في 2007. وكان زواجه الثاني من امرأة عراقيّة الأصل تُدعى بلقيس الراوي  التقى بها في أمسية شعريّة في بغداد، ولم تكن الطريق إلى معشوقته سهلة، حيث قوبل هذا الحب بالرفض من طرف والدها، تحت حجة سمعة نزار قباني السيئة وأنه يحب النساء. بعد سنوات رجع نزار إلى العراق، وفيها قال بحزن على بلقيس:

مرحبًا يا عراقُ، جئت أغنيك وبعـضٌ من الغنـاء بكـاءُ مرحبًا

مرحبًا

أتعرف وجهًا حفـرتهُ الأيـامُ والأنـواءُ؟

أكلَ الحبُّ من حشاشةِ قلبي والبقايا تقاسمتْها النِّسَـاءُ

 

فأصبحت قصة الدبلوماسي الوسيم على لسان كل الأعظميين والبغداديين، حتى نُقلتْ القصة إلى الرئيس العراقي آنذاك أحمد حسن البكر، فبعث الرئيس العراقي شخصيًّا وزير الشباب ووكيل وزارة الخارجية لخطبة بلقيس لنزار قباني من أبيها، وعندها وافق والدها على تزويجها من نزار قباني عام 1969 لتبدأ حياة نزار مع امرأتِهِ التي كتبَ لها كتاب الحبِّ خالدًا حتى هذه اللحظة، والذي يقول في إحدى قصائده:

أشهدُ أن لا امرأةً أتقنت اللعبة إلا أنتِ واحتملتْ حماقتي 10 أعوام كما احتملتِ واصطبرت على جنونِي مثلما صبرتِ وقلمتْ أظافري، ورتبت دفاتري، وأدخلتني روضةَ الأطفالِ إلا أنتِ.

فقد كانت بلقيس أول حب حقيقي يعيشه نزار وآخره، وأول امراة تتقن اللعب على أوتار قلبه، كانت بلقيس الراوي حب نزار الصادق الذي كتب فيها أشهر قصائده، وترك رحيلها وجعًا عميقًا في حياة نزار لا أن توفي.

لقيت بلقيس حتفها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في حادث انتحاري استهدف السفارة العراقيّة في بيروت حيث كانت تعمل عام 1982. وقد رثاها نزار بقصيدته الشهيرة بلقيس التي قال فيها إن الجميع كان لهم دورٌ بقتلها، وقد أنجب منها ابنيه عمر وزينب ولم يتزوّج بعدها.

من مرثية بلقيس يقول نزار:

سأقول في التحقيق.. إني قد عرفت القاتلين..

بلقيس.. يافرسي الجميلة.. إنني من كل تاريخي خجول

هذي بلاد يقتلون بها الخيول..

سأقول في التحقيق:

كيف أميرتي اغتصبت..

وكيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب

سأقول كيف استنزفوا دمها..

وكيف استملكوا فمها.. فما تركوا به وردًا

ولا تركوا به عنبًا..

هل موت بلقيس.. هو النصر الوحيد في تاريخ كل العرب؟

ختامًا، يعتبر نزار قباني مدرسة شعرية غنية، وتجربة أثرت المكتبة العربية والساحة الأدبية، حيث إنه يمثل تجربة جديدة ليس لها مثيل، وبحسب أحد الباحثين: «يعرف نزار ويقرأ لنزار قباني يظلمه بالحكم عليه من خلال بيت أو بيتين، أو قصيدة أو قصيدتين، أما من يقرأ نزار قراءة العاقل الفاهم، قراءة الإنسان لفكر إنسان يجد منه حكيمًا عالمًا فارسًا ممسكًا بسيفه يضرب الضربات على صخور فيخرج منها النور بعنف ليضيء لكل صاحب بصيرة وقلب، لكن مشكلة نزار الحقيقة فيمن لا يفهم معنى الإنسانية والرقي، فيمن يصنف الناس بين يمين وشمال، وهذا مؤمن وهذا كافر، وهذا أبيض وهذا أسود، وهذا جسور وهذا جبان، فعندما يقف عند نزار يجده كل هذه الألوان والتصنيفات مجتمعة، فيقف متحيرًا».

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد