يرتبط الماضي في الوجدان العام الجماهيري العربي بأحاسيس الحنين والشوق، ويتخذ هذا الماضي صورا مشرقة باهرة ما أن تقفز لوعي الواحد حتى يبتسم ابتسامة تدل على مقدار اشتياقه ولهفته لهذا الماضي الذي انقضى وذهب، ومن النادر في هذه الحالة أن يذكر أي أحد الأمور السيئة التي حصلت في ماضيه، وإن تذكرها فإنه يغفر لها ويعفو عنها وينساها.

العفو والغفران من الأمور الحميدة إذا ارتبطت بمواقف شخصية للفرد مع أهله وأصدقائه، ولكنها حتما تمثل شرخًا خطيرًا في طريق النهضة إذا ما كانت هذه الأمور تمثل النسيج الاجتماعي للبنية العقلية العامة، إذ إنها لا تؤدي إلا لتكرار تلك الأمور السيئة التي حصلت سابقًا وتكرارها في الحاضر، الأمر الذي يقود لتكرارها في المستقبل، وعرقلة كل سبيل لتلافيها بعد ذلك.

يتحدث الدكتور مصطفى حجازي في كتابه المهم «التخلف الاجتماعي – مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» وفي فصله الذي يحمل عنوان «الانكفاء على الذات» عن هذا الموضوع، فيرى أن هذا الماضي يمثل أول الحلول – لهذا الإنسان المقهور والذي يعيش في مجتمع متخلف – في سبيله نحو الهرب من هذا الواقع المشؤوم، ولعل القيمة الدلالية ظاهرة بين الهروب نحو الماضي والعنوان «الانكفاء على الذات»، إذ إن هذا الماضي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالذات الفردية والجماعية كونه يمثل – مثلما يقول جورج طرابيشي – «جرحًا أنثروبولوجيًا» ينخر في هذه الذات ويشكل عائقًا حقيقيًا في سبيل تجاوزها حالة الفوات الحضاري.

ينظر العربي نحو ماضيه بعين القداسة والتبجيل، تلك العين التي تغض الطرف عن كل منقصة أو عيب، فهو ينظر إلى الماضي نظرة شمولية عامة، قائمة على علاقة رياضية، فحسنات الماضي تمثل الأعداد الموجبة، وسيئاته تمثل الأعداد السالبة، فبعملية حسابية تظهر إنه لا أهمية للأعداد السالبة طالما أن النتيجة النهائية موجبة، وهذا ما يدفع لتفشي العديد من سلبيات الماضي، ولعل أهمها الاستبداد السياسي.

في كتابه «حديث الأربعاء» ينقل الدكتور طه حسين عن كتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني، قصة تختصر ما يمكن أن نسميه «بأفيون الحنين إلى الماضي» .

«قال أبو الفرج: حدثنا محمد بن جرير الطبري قال: حدثنا أبو السائب سالم بن جنادة قال: حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تقول بيت لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم … وبقيت في خلف كجلد الأجرب

ثم تقول: رحم الله لبيدًا! فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! قال عروة: رحم الله عائشة! فكيف بها لو أدركت من نحن بين ظهرانيهم! قال هشام: رحم الله أبي! فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! وقال وكيع: رحم الله هشامًا! فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! قال أبو السائب: رحم الله وكيعًا! فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! قال أبو جعفر: رحم الله أبا السائب! فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! قال أبو الفرج الأصبهاني: ونحن نقول: الله المستعان! فالقصة أعظم من أن توصف»(1).

يمثل هذا الماضي بكل التصورات المثالية عنه ملجأ يفر إليه الإنسان هربًا من آلام الواقع، ومن المآسي التي تنتظره في المستقبل، تتضاعف آلام الواقع عند العربي عندما يرى الآخر الغربي متفوقًا عليه ومتجاوزًا له في طريق النهضة والحداثة؛ مما يدفع به إلى التمسك أكثر بتاريخه وأمجاده الغابرة، كونه لا يملك واقعًا مشرفًا، أما المستقبل فهو أكثر تشاؤمًا، الأمر الذي يؤدي لصناعة ماضي ناصع البياض يتجاوز كل العيوب والأخطاء.

يذكر الأستاذ جورج طرابيشي في كتابه «هرطقات»، أن كلمة «تراث» لم يكن لها نفس المعنى الذي تملكه اليوم، ففي «لسان العرب» سنجد أن كلمة تراث تعني الإرث والميراث بالمعنى المادي للكلمة، وأن كلمة تراث بمعناها الذي نفهمه اليوم أي «ثقافة الأسلاف» لم تر النور إلا بعد الاحتلال الفرنسي لمصر على يد نابليون، أي نتيجة «صدمة اللقاء بالغرب»(2).

إن ما يشكل حجر عثرة في سبيل النهضة أن هذا الافتخار بالماضي، لا يقابله سعي وعمل حقيقي لاستعادته ومحاولة إلباسه حلة عصرية تتناسب مع القيم الحديثة، وإنما هو مدعاة للكسل والشعور بالعجز وفقدان الحيلة على تغيير الذات، إضافة إلى الاعتقاد العميق والمحفور في الوعي العربي بأن كل عصر يتبعه عصر أسوأ منه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولعل الاستبداد السياسي مثلما أشرت سابقًا يمثل النتيجة الحقيقية لهذا الحنين الجارف إلى الماضي دون محاولة تقييمه وإعادة غربلته، إذ أنه مثلما مر على تاريخنا الكثير من الحكام المستبدين، الذين أرهبوا الناس وأشاعوا الظلم والفساد في المجتمع، فها نحن نعيش في واقعنا هذا تحت حكم استبدادي قمعي، ومثلما ترحم الناس قديمًا على الحجاج بن يوسف الثقفي، والإمام السفاح، وأبي جعفر المنصور وغيرهم، ها هم يترحمون اليوم على علي عبد الله صالح، وعلى معمر القذافي، وحسني مبارك، وغيرهم من الرؤساء الذين قام هؤلاء الناس ضدهم.

كون الواقع سيئًا لا يعني أن الماضي كان «يوتوبيا» وأرضًا سعيدة خالية من الظلم والفساد ويسودها العدل والمساواة، بل الأمر أن تلك حركة المجتمعات طالما كان هناك وعي بين أهلها وسعي منهم نحو النهضة والارتقاء عن طريق العلم والمعرفة، فإنها تستحق الارتقاء، وكما قال أبو القاسم الشابي:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، أما إذا ظل المجتمع غارقًا في سباته، يقتات من أمجاد الماضي، وأوهام المستقبل فإنه سيأتي الزمن الذي يقول فيه أبناؤنا: رحم الله آباءنا فكيف لو أدركوا من نحن بين ظهرانيهم!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد