لا مِراء في أن الفلاسفة الطبيعيين فكروا في الطبيعة، كموضوع مركزي في فلسفتهم، وذلك في البحث عن المبدأ المؤسس للوجود، والعناصر المحددة له، بعيدًا عن التفسيرات الأسطورية (الميثوس) السائدة آنذاك، وذلك بإرجاع المتعدد إلى أصل واحد.
في هذا البحث سنركز أو بالأحرى، سنسلط الضوء على فيلسوفٍ يستحق الاهتمام أكثر مما اهتم الاهتمام به، وهو أناكسمندر Anaximander أحد رواد المدرسة الملطية.
الفيلسوف الذي لم يذكره أفلاطون ولا مرة واحدة، وأرسطو على تعدد تآليفه وضخامتها، لم يذكره إلاّ أربع مرات، ومرتين بشكل خاطئ، وصف الكون والظواهر الطبيعية (الفيزيقية)، ودرس الفلك والأرصاد الجوية والجغرافيا والأحياء، وكل ذلك خضع للبحث العقلاني (اللوغوس)، ناهيك عن مجموعة من الإختراعات العلمية.
على غرار أستاذه طاليس الذي كتب ثلاثة كتب بلغة نثرية، يعد أناكسمندر أول من خطَّ أولَ كتاب فلسفي نثري، ولسوء الحظ فُقِدَ، ولم يصلنا منه سوى شذرة واحدة، ويرجع الفضل في ذلك لأحد أعمدة الفلسفة اليونانية أرسطو وتلميذه ثيوفراستوس.
في محاولة لشرح أصل العالم طور أناكسمندر نظرية مفادها؛ أن كل شيء نشأ من الأبيرون بدلًا من عنصر معين(1).
ماذا يقصد أناكسمندر بالأبيرون أو اللامحدود؟ وكيف يمكن اعتبار اللامحدود مصدر كل شيء؟ وهل يشير اللامحدود إلى صفة مكانية أم زمانية أو يشير إلى شيء ينضب وغير محدد؟
مما لا شك فيه أن بعد ظهور أناكسمندر، شهد اليونان بزوغ نظرية جديدة لنشأة الكون من اللانهائي، فأضحت هذه الفلسفة الجديدة التي قدمها في القرن السادس قبل الميلاد، محلَّ الإرث الملحمي الأسطوري القديم.
والواقع أن فكرة اللامتناهي الزمنية لم تكن وليدة القرن السادس ق.م مع أناكسمندر، وإنما كانت فكرة مألوفة للعقل اليوناني من التصور الديني للخلود في العصر القديم.
بناءً على ذلك نسلم أن أناكسمندر يعد أول فيلسوف ميتافيزيقي، بحيث يرى أن أصل الوجود هو الأبيرون apeiron أو اللانهائي، معنى ذلك أنه أرجع أصل الوجود إلى ما وراء الوجود (العالم)، ففي الوقت الذي كان الفلاسفة اليونانيون يبحثون عن الأصل أو مبدأ كل شيء، نجد أناكسمندر قد حدده في الأبيرون أو اللامحدود.
من الصعب فهم هذا الأصل دون التطرق لاصطلاحية المبدأ أو arche، وهو مصطلح يوناني يعني الأصل أو البداية، وهو دلالة على المصدر الذي نشأ منه العالم وفقًا لفلاسفة ما قبل سقراط، وقد يتضح لنا ذلك في كتاب أرسطو «الميتافيزيقا» يشرح فيه أن هذا هو المصدر الذي تتكون منه كل الأشياء الموجودة، والتي تأتي منها أولًا، وتموت فيها أخيرًا، وهو الجوهر المستمر والمتغير في صفاته، وبالتالي فهو مصطلح لعب دورًا هائلًا في فلسفة القدماء، وبقي متشبه في الفلسفة حتى وقتنا الحاضر، وهو على وجه الخصوص افتراض مسبق لفكرة «أن لا شيء يمكن أن يخرج من لاشيء».
وبناء عليه، رغم أنه تلميذ مباشر لطاليس، لم يذهب على منحى أستاذه الذي حدد أصل الوجود في الماء، ردًّا على ذلك يقول فيلسوفنا إنه ليس الماء ولا أيًّا من العناصر الأخرى المزعومة (الهواء-التراب- النار…)، بل إنه شيء يوجد ما بعد الطبيعة، وهو الأبيرون.
في السياق نفسه نجد نقد أرسطو لفلاسفة ما قبل السقراطيين الأوائل، على أنهم لم ينتبهوا إلا للعلة المادية للوجود، عندما جاء إلى أناكسمندر لم يلق من أين يدخل إليه؛ لأن مفهوم اللامتناهي مفهوم مجرد.
أرسطو في كتابه الطبيعة(2) يقول: باعتبار أن اللامتناهي هو مبدأ كل شيء، فيلزم عليه بالضرورة أن يكون غير مخلوق (الخلود) وغير هالِك؛ (أن لا يطاله الفساد)، لأن كل مخلوق لا بد أن تكون له نهاية و أن يكون قابلًا للهلاك. معنى ذلك أنه لا بد للمبدأ الأصلي أن يكون غير محدد، وإلا فإنه يكون قد خلق ليصبح محكومًا عليه بالزوال والهلاك ككل الأشياء الأخرى، وبالتالي فخلود المبدأ الأصلي، قام على أساس خلوه من الصفات المحددة التي تقود إلى الهلاك والموت.
وبالتأكيد إذا كان الأبيرون خالدًا، فلا بد أن يكون لانهائيًّا، وإلا لما جاز وصفه بالخلود. فالأبيرون كما جاء على لسان غادامير، الذي ليس له بداية ولا نهاية، وبالتالي يمكن أن نطلق عليه صفة السرمدية.
في السياق ذاته يمكن القول إن أناكسمندر قد تفوق إلى حد كبير على أستاذه طاليس لتحديده لفكرة الأبيرون العقلية المتعالية (التجريد) عن مجال الخبرة الحسية، ويقول أناكسمندر في تعريفه للأبيرون أو اللامحدود: هي كتلة بدائية لا حصر لها، غير محدودة، لا تخضع لمبدأ الشيخوخة ولا تتحلل، فاللامتناهي على حد تعبيره؛ منه تأتي الأشياء كلها ومنه ستعود إليه لتحاسب على النحو المنصوص عليه في قانون الضرورة.
تأسيسًا على ما سبق، ذكر الفيلسوف البريطاني بيتراند راسل أنه كان لأناكسمندر حجة يدافع بها على أطروحته؛ أنه لا يمكن لأي من العناصر القابلة للملاحظة أن تكون السبب الأول ( الماء- النار- الهواء- التراب…) لأن جميع العناصر التي يمكن ملاحظتها قابلة للتغير، مبرزًا أنه إذا كان أحدها أقوى من العناصر الأخرى، لكان قد قضى عليها منذ فترة طويلة، كونه غير محدود، وبما أن كل عناصر الأرض متوازنة معطًا، ولا أحد منهم يملك اليد العليا للسيطرة، فإنه حسب أرسطو يجب البحث عن مصدر آخر للسبب الأول، وبالتالي حسب أناكسمندر فعلى السبب الأول أن يكون لامتناهيًا، والنافورة المتدفقة التي يصدر منها كل الأشياء.
إذن كيف نشأت الموجودات من هذا الذي يسمى الأبيرون؟
يمكن تقسيم المراحل الكوسمولوجيا للأبيرون إلى ثلاث مراحل:
أولًا حالة الأبيرون الأولى في كونه لامحدود ولانهائي الكم والكيف؟ ثانيًا تكوين العناصر الأربعة، وسيادة قانون العدالة على عملية التكوين، ثالثًا وأخيرًا تكوين العوالم والكائنات من العناصر الأربعة.
والحال، أن هذا اللامحدود أثار جدلًا واسعًا بين النقاد والباحثين على مر العصور، على سبيل المثال لا الحصر، اعتبر Aryeh finkelberg في كتابه «المخطط المفاهيمي لهرقليطس وطاليس: دراسة تاريخية» ربما كان المفهوم الأكثر غموضًا في الفلسفة اليونانية.
طاليس في تعريفه للإله يقول: ما ليس له أصل ولا نهاية، وهو المعنى نفسه الذي جاء به أرسطو حينما قال بأن اللامحدود ليس له أصل، لأنه هو في حد ذاته أصل كل شيء، فتعريفه للإله قد حدده كالمبدأ الأول للوجود، وهو لا يتحرك بل سبب كل حركة «المحرك الذي لا يتحرك»، وهذا ما سيقودنا إلى القول بأن الأبيرون قد يكون أكثر من مجرد مبدأ مادي للوجود، نظرًا إلى تحديد هذا المفهوم في مستوى عالٍ من التجريد، مما ساعد أرسطو في وصف أبيرون أناكسمندر بأنه خالدٌ وغير قابلٍ للفساد، وبالتالي على حد قوله هذا هو التصور الجديد الذي يقدمه أناكسمندر لمفهوم الألوهية، وفي المنوال نفسه نجد الباحث الإنجليزي المتخصص في الفلسفة القديمة، ولاسيما أفلاطون وبارميندس فرانسيس كورنفورد Francis Cornford، يرى أن الأبيرون هو الإله الأوحد والجوهر الخالد المحيط والموجه لكل الموجودات.
وعليه فإن الأبيرون قد أثار جدلًا واسعًا بين الشراح، أهو لامحدود unlimited أم لانهائي infinite or Boundless أم لامتعاين undetermined، فالذين ترجموا اللفظ باللامحدود أو اللانهائي نظروا إليه من جهة الكم أي لا محدود، ومن جهة الكيف أي لا معين، وقد اعتمدوا فيها على مقولتين أرسطيتين هما: الكم والكيف، محاولين من خلالهما فهم الطبيعة اللانهائية عند أناكسمندر.
هل هو لانهائي الكم ومحدود الكيف؟
جوابًا عن السؤال أعلاه يرى الباحث جون بيرنت أن الأبيرون لانهائي الكم بمعنى لا حدود له كما أشرنا إليه سابقًا، مؤكدًا أنه يحتوي جميع الأشياء احتواء مكانيًّا، لكن في المقابل نجد المؤرخ الإسكتلندي جثري Guthrie المتخصص في تاريخ الفلسفة اليوناني يرى أنه من غير المرجح أن يكون أناكسمندر على وعي بفكرة اللانهائي من حيث الكم أو الكيف، نظرًا إلى الفارق الزمني بينه (القرن السادس ق.م) وبين صاحب المقولات العشرة أرسطو الذي جاء في القرن الرابع قبل الميلاد.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بنفسه هو: هل كان أناكسمندر على وعي بمقولتي الكم والكيف؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست