يشكل التاريخ العثماني جزءًا رئيسًا من تاريخ لبنان، منذ دخول العثمانيين إلى بلاد الشام في عام 1516، وعلى الرغم من هذا الوجود التاريخي الذي يغطي مئات السنوات في المناطق التي تُعرف بلبنان اليوم، يحاول العديد من المثقفين أو السياسيين اختزال الوجود العثماني في السنوات الأخيرة من حكم هذه الدولة، مسلطًا الضوء على ما شابها من ممارسات وقرارات إشكالية مجحفة، تتعلق بسياسة التتريك، وما يتصل بانعكاسات المشاركة في الحرب العالمية الأولى، وغيرها من القضايا، ويتناسى أولئك سنوات حكم الدولة السابقة جميعها، وما حوته من إنجازات حضاريّة ووجودٍ ثري مؤثر، استطاع العثمانيون خلاله ربط سكان هذه المناطق بمنظومة الدولة، ووصل العديد منهم لمناصب ومواقع مهمّة فيها.
وانطلاقًا من السنوات الطويلة التي بقي فيها لبنان في كنف الدولة العثمانية، لا يمكننا أن نورد جميع ما في هذا الحضور الهائل من إنجاز وتقدم، ولن نكون قادرين على إبراز مكامن الضعف أيضًا، ليس من باب إخفائها والتستر عليها، بل لأن المقام هو مقام دفاعٍ في وجه طعون تطلقها فئات بعينها، في محاولة تشويه تاريخ طويل يمتد لنحو أربعة قرون، شكل الساحل الشامي ومن ضمنه لبنان جزءًا رئيسًا من مساحة هذه الدولة، إضافةً إلى التصويب على التاريخ الإسلامي المتجذر في هذه البلاد، وما استهداف التاريخ العثماني إلا صورة من صور رمي التاريخ الإسلامي بكل تهمة ونقيصة.
وقد بدأ الوجود العثماني في بلا الشام منذ وصول السلطان السليم الأول إلى مدينة حلب في 28 أغسطس (آب) 1516، وفي 9 أكتوبر (تشرين أول) من العام نفسه دخل إلى مدينة دمشق، وفيها استقبل وفود طرابلس وبيروت وصيدا وأمراء جبل لبنان الدروز، الذي قدّموا الطاعة إلى السلطان، الذي قام بتخفيض الضرائب والمكوس المفروضة على السكان، إضافة إلى توزيع الأراضي وفقًا للنظام العثماني، ورفع السلطان القيود عن المسحيين واليهود في بلاد الشام، وأذن لهم بممارسة طقوسهم الدينية بحرية تامة[1].
قسم العثمانيون بلاد الشام إلى ثلاث ولايات، وهي ولاية دمشق وولاية حلب، وولاية طرابلس التي كانت تصل أراضي ولايتها إلى جبلة واللاذقية شمالًا، وإلى بيروت جنوبًا، ويتبع لها مدن حمص وجبيل وغيرها[2]. وتُشير بعض المصادر إلى أن مساحة إيالة طرابلس بلغ أكثر من أربعة آلاف كيلومتر مربع في أقصى اتساع لها، حيث شكلت أبرز إيالات الشام العثمانية. وفي مستهل الحكم العثماني، هاجمت سفن الصليبيين – الفرنجة ساحل مدينة بيروت المحروسة في عام 926هـ/1520م، إذ تم حصار المدينة من قبل سفن الصليبيين، واستطاعوا احتلالها مدة ثلاثة أيام، فأرسل نائب دمشق حملةً عسكرية لمساندة بيروت، وجرت معركةٌ طاحنة قُتل فيها مائة من المسلمين وأربعمائة من الفرنج وأُسر ثلاث مئة منهم، وغنم المسلمون الكثير من السلاح وثلاث سفن كبيرة، وحرروا المدينة من هذه الهجمة الخاطفة.
أولًا: مكارم عثمانية للمساحة اللبنانية
ترك العثمانيون معالم وأوابد كثيرة في مختلف المناطق التي حكموها، ولم يكن لبنان بمعزلٍ عن التأثر بالعمارة العثمانية، لأغراض عديدة، وهنا يمكننا أن نلفت عناية القارئ أن الآثار العثمانية في مدن الساحل اللبناني أقل من الآثار المملوكية على سبيل المثال، فقد أزال المماليك المدن التي أقامها الصليبيون – الفرنجة وشيدوا مدننًا جديدة غالبًا، وهو ما جرى في طرابلس على سبيل المثال، إضافة أن العثمانيين لم يقوموا باستجلاب قبائل تركمانية وإسكانها في هذه المدن، فلم يكن هناك حاجة للتمدد العمراني إلا في مراحل لاحقة، حيث بدأت تظهر الأبنية والمعالم العثمانية بشكلٍ أكبر.
وعلى الرغم من هذا التطور العمراني المتأخر نسبيًا، ترك العثمانيون آثارًا عديدة من بينها في بيروت محطة القطارات في مار مخايل، والمحجر الصحي في الكرنتينا وغيرها، أما في طرابلس فنجد فيها من المعالم العثمانية تكية الدراويش المولوية، وحمام العظم (الجديد)، وجامع محمود بك السنجق، وجامع محمود لطفي الزعيم (المعلق)، والجامع الحميدي، وسبيل الباشا الوزير محمد باشا، والتكية القادرية، وساعة التل، وفي صيدا ما يزال قصر دبانة وخان صاصي نماذج صامدة في البلدة القديمة تقدم نموذجًا مميزًا للعمارة العثمانية.
وفي هذه النقاط الآتية عددٌ من المعالم العثمانية التي شيدت في مختلف المناطق اللبنانية، ذات المنافع العامة على المجتمع والبيئة بأكملها، وليست مخصصة لطائفة بعينها:
– عام 1853 تم بناء ثكنة القشلة، وهي ما تعرف اليوم بـالسراي الحكومي.
– عام 1867 تم إنشاء بلدية بيروت، وفي عام 1877 أنشئت بلدية صيدا، وفي عام 1880 أنشئت بلدية طرابلس، فكانت من أوائل البلديات في المقاطعات العثمانية بعد إنشاء بلدية إسطنبول.
– عام 1882 بناء السراي الصغير في منطقة البرج في بيروت.
– عام 1882 بناء سراي طرابلس وسط ساحة التلّ، وتم بناء سرايات أخرى في مدن صيدا، وجبيل، وصور، وبعلبك.
– عام 1889 تم تجديد وتوسعة عمارة المسجد الحميدي، بهبة شخصية من السلطان عبد الحميد الثاني.
– عام 1890 تم إهداء شعرة مباركة من لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مدينة طرابلس.
– عام 1895 تأسيس محطة قطار بيروت ــ دمشق، في منطقة مار مخائيل شمالي بيروت.
– علم 1897 تم الانتهاء من بناء سراي بعقلين، التي تعدّ اليوم أكبر مكتبات لبنان العامة.
– عام 1901 تم تشييد بناء ساعة التلّ في طرابلس.
– عام 1902 تم بناء السبيل الحميدي، والمدرسة السلطانية العسكرية في الباشورة.
– عام 1907 تم افتتاح مدرسة الصنائع، التي أصبحت اليوم مبنيي وزارة الداخلية والمكتبة الوطنية.
– عام 1908 تم إنشاء ترامواي بيروت الذي ألغته الحكومة في ستينات القرن الماضي.
– عام 1911 تم إنشاء فرع للبنك العثماني في مدينة صيدا.
ثانًيا: هل الاضطهاد العثماني أدى إلى خفض أعداد المسيحيين؟
وتُعدُّ أبرز الافتراءات على الحقبة العثمانية تعامل الدولة مع الأقليات غير المسلمة، خلال تاريخ طويل يمتد إلى نحو أربعة قرون، ومن أبرز هذه الادعاءات فرض الضرائب الباهظة، والتضييق على ممارسة الشعائر الدينية وغيرها، ولكن هل يمكن لجزء من الشعب أن يتضاعف عدده خلال عشرات السنوات وهو يعيش تحت التضييق والقرارات الظالمة، وللإجابة عن هذا التساؤل نورد تطور أعداد المسيحيين في المناطق العثمانية خلال هذه القرون، إذ تُشير الدراسات الديموغرافيّة، أنّ نسبة المسيحيين الذين كانوا يسكنون منطقة الهلال الخصيب سنة 1517 أي في بداية العهد العثماني كانت نحو 7% من مجموع سكان المنطقة، وأخذت هذه النسبة تتزايد تدريجيًّا، فوصلت إلى 8.1% سنة 1580، أمّا في أواخر القرن التاسع عشر بلغت نسبة المسيحيين سنة 1882 نحو 24.5%.
أما في بداية الحرب العالميّة الأولى سنة 1914، وصلت إلى 26.4%، وفي هذا العام تستثني بعض الدراسات العراق نتيجة لأوضاع سياسيّة، فتصل هذه النسبة في سوريا ولبنان وفلسطين عام 1914 إلى نحو 33%، أي أن نحو ثلث السكان هذه البلاد مع بداية الحرب العالمية الأولى كانوا من المسيحيين. وبحسب عددٍ من المتخصصين في ديموغرافيا البلاد العربية خلال العصور العثمانية أنّ عدد المسيحيين في منطقة الشرق الأدنى، تضاعف 3.9 مرات ما بين بداية العهد العثماني وأواخره، بينما تضاعفت أعداد اليهود 2.9 مرات، وفي مقابل هذا الازدياد المضطرد لم يتضاعف عدد المسلمين إلا 1.2 مرّة فقط.
ويعزو الديموغرافيّون تزايد عدد المسيحيين بهذا الشكل في العهد العثماني، إلى أسباب سياسيّة واجتماعيّة، فقد أعفت الخلافة العثمانية المسيحيين من التجنيد العسكري، بينما كان المسلمون ملزمين به، وهو ما أدى إلى رفع نسبة الوفيّات بين المسلمين بسبب مشاركتهم في الحروب المتواصلة التي كانت تخوضها الدولة العثمانيّة، وأدت كذلك إلى تخفيض نسبة الولادات. وتشير العديد من المصادر إلى ارتفاع مستوى المعيشة والتعليم والعناية الصحيّة عند السكان المسيحيين، ما ساعد في تدنّي نسبة الوفيّات بينهم[4]. وتتضافر جميع هذه المؤشرات لتؤكد سياسة التسامح التي كانت تنتهجها الدولة العليّة مع الأقليات غير المسلمة، وهي سياسة ساهمت في بروزهم في النخب السياسية والفكرية، كما كان منهم أبرز التجار وغيرهم.
ثالثًا: الأوقاف والمعالم بين الاهتمام والتخريب
كان الاهتمام بالوقف الإسلامي في لبنان إبان العهد العثماني كبيرًا جدًا، فقد تنوعت أنواع هذه الأوقاف ، فكان منها ما أوقف على التعليم أو على المساجد وغيرها من أوجه البرّ والإحسان، وتُشير الوثائق العثمانية عن تنوع هذه الأوقاف وكثرتها، وعلى سبيل المثال كان في مدينة بعلبك وقفٌ عظيم من أوقاف السلطان نور الدين محمود الزنكي رحمه الله على أحد مدارس المدينة، وكان هذا الوقف يدرّ سنويًا نحو 2200 أقجة عثمانية[5]، وما يلفت النظر أن الكثير من المناطق اللبنانية اليوم كانت تضم أوقافًا لمدارس ومساجد في القاهرة والشام، على غرار المسجد الأموي والمدرسة الصالحية في دمشق والحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ووصل ريع أوقاف الحرمين الشريفين في بعض النواحي اللبنانية إلى أكثر من 26 ألف أقجة في العام الواحد[6].
وشهدت المناطق اللبنانية استهدافًا ممنهجًا للأوقاف الإسلامية بعد سقوط الدولة العثمانية، إذ بدأت الأوقاف الإسلامية في بيروت تضيع أو تُستبدل منذ الاحتلال الفرنسي للبنان، وخاصة بعد إعلان دولة لبنان الكبير في عام 1920، وقد هُدمت الكثير من المساجد – الزوايا بحجة توسيع الطرقات وتطوير بيروت، فضاعت تلك المعالم والآثار. بل وصل الأمر أن أصدر المفوض السامي في 2 مارس (آذار) 1921 قرارًا يخص الأملاك الوقفية والجمعيات الخيرية للمسلمين دون سواهم، تضمن العمل على مراقبتها وإدارتها تحت إشراف المحتل الفرنسي، ووصفت هذه القرارات وغيرها بأنها فرنسة الأوقاف، وأتت في سياق تجربة الاحتلال الفرنسي مع الأوقاف في الجزائر، ومساهمتها في دعم الثورات ضد الاحتلال الفرنسي[7].
وبحسب المؤرخ د. حسان حلاق كان الفرنسيون معادين لكل ما هو عثماني، فما بين عامي 1920 و1943 هدمت السلطات الفرنسية العديد من الآثار والمعالم الإسلامية، من بينها العديد من الآثار العثمانية، ولم تقف عمليات العدم بعد الاستقلال عن فرنسا، ولكنها استمرت خلال عهد الجمهورية ففي عام 1951 تم هدم السراي الصغير في ساحة البرج[8]، كما هدم لاحقًا السراي العثماني في ساحة التل في طرابلس. وحول هذا الاستهداف يمكن تسليط الضوء على ما جرى في مدينة طرابلس بعد فيضان نهر أبو علي في خمسينات القرن الماضي، وكيف هدمت عشرات المدارس والمنازل الأثرية بحجج واهية، وهي آثار خسرتها المدينة بشكلٍ تام.
أخيرًا، لا يمكن بحالٍ من الأحوال التغاضي عن التهجم عن التاريخ العثماني، فهو هجوم يحمل أضغانًا تاريخيّة ويستبطن هجومًا على الواقع الحالي لتركيا، في سياق تصفية حسابات سياسيّة. وإن التغاضي عن هذا التهجم وما يكتنفه من تشويه سيكون فاتحة لتهجم على حقب أخرى، يمكن أن تصل للفتوحات الإسلامية وعصر الصحابة الكرام، وهي افتراءات تتنامى بشكلٍ كبير خلال الفترة الماضية، في سياق هجمات ممنهجة تستهدف تاريخنا وتراثنا وحضارتنا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست