العنوان: (دخول المجاهدين كابول وهزيمة السوفيت)، لكن التفاصيل كان يقودها الغرب فأشرف على إدارة التفاصيل الكثيرة دون ملل حتى وقعوا في فتن وسقطت الدولة ثم جاء الأمريكيون، والآن تلعب بنات الأفغان الرياضة أمام الملايين وتعزف في فرق موسيقية وتريد التحرر وإعدام طالبان!

العنوان: (خطاب التنحي 2011)، لكن التفاصيل  مظاهرات مثل المظاهرات وأحزاب مقابل أحزاب ثم إسقاط المجالس ثم الكثير والكثير، ثم انقلاب، ثم انقسام مجتمع وخسارة وحدتها ثم غيبوبة أمة وضياع مقدراتها وعقلها ووعيها! لم يفز غير إسرائيل وأقليات طائفية وفئوية مقابل خسارة مدوية لأمة أَمُلت كثيرًا، وأُمِل فيها الكثير.

العنوان: (تحرير عدن من الحوثيين وعاصفة كذا)، لكن التفاصيل تمزيق وتقسيم وتشريد وتفقير وغوص في مستنقع وإفشال دولة وبيعها بين كثرة المشترين، ثم ندم الناس على الثورة!

العنوان: (مقتل القذافي وتحرير ليبيا)، التفاصيل إغراق في الخلافات والمناوءات حتى وصل الناس إلى (حفتر والسراج وتنظيم الدولة)، ثم فشل الدولة والندم على الثورة والاتفاق على أن تتدحرج الدولة إلى حضن حفتر برعاية فرنسا وأخواتها وأذنابهم.

العنوان (مواجهة الثوار لطغيان الأسد ومذابحه) لكن التفاصيل انقسام وتقاتل داخلي، وسلاح موجه من الأخ لأخيه، وارتهان بدول وقوى ومصالح حتى فوز إيران وتمدد النظام ومذابح مليونية وهجرات بالملايين وتغيير ديمغرافي وغطرسة روسية وأمريكية وفارسية، وثوار عاجزون عن حسم المعركة بل الأمور كلها صارت غائمة محتملة لكل شيء.

العنوان (تحالف الشرعية) في مصر، لكن التفاصيل إغراق في فشل وانقسام وتخبط وفقدان رؤية عقدية وسياسية، ثم تراجع واستقرار الانقلاب وندم الناس على جميع المراحل!

العنوان الكبير أمس: (دخول الأقصى ـ رغم ما حدث بعده ـ وإجبار الاحتلال على التراجع، بل والصلاة في أماكن لم يصل فيها أهل القدس منذ عام 67)، لو وقف الفلسطينيون عند هذا العنوان، فسيقود الصهاينة والعلمانيون عندنا (صهاينة أيضًا بجلد عربي ثخين) سيقودون التفاصيل ويقلبون الأمور ويبتلعون الإنجاز ثم يأخذون موقعًا أفضل ثم يُحبَط الناس ويقولون (مفيش فايدة)، رغم أنهم أبطال وفدائيون وعظماء، ولكن قياداتهم خائبة أو متواطئة، وقد تركوا لهم التفاصيل فخسروا بعد كل موقعة وعطاء.

أرجو أن يجيد المقدسيون وأهل فلسطين والمسلمون إدارة التفاصيل، وامتلاك الأجندات الواقعية والقابلة للنجاح والضامنة لإنجاز شيء حقيقي ومستقر، لا يتركونها من أجل عنوان ما.

أرجو ألا ننسحب بعد المشاهد الكبرى، وألا نقنع بالعناوين والهتاف، وألا نعود بالوعود والأغاني؛ بل يجب أن يبدأ العمل بدءًا من العناوين، وأن ندرك أن المعارك الحقيقية والكبيرة ليست عنوانًا يقال بل هي الانتصار في التفاصيل وإدارة تلك التفاصيل والحرب عليها والإصرار على النجاح فيها، وإدراك الصورة الكبرى والاستراتيجية الجامعة ومآلات الأمور.

هنا لا نفتقد الخطباء، بل نفتقد القادة المخلصين والحكماء.

للخطباء دور في حشد الحشود وإلهاب العواطف وزرع الثبات والهتاف بالإيمان والخير. لكن هذا دور ميداني جزئي، مهم لكنه لا يكفي، ومن انتهى عنده فقد أضاع الجهود وبعثر الناس وأصابهم بالإحباط إذ بعد كل جهد عظيم يبذلونه يضيعه المسؤولون بالبلاهة والعمالة، بل وبإدراة التفاصيل ضد الأمة ومصالحها، وإدارة الإعلام لتخديرها!

إن الدور الحقيقي يبدأ منذ الإعلان.

ووضوح الرؤية وامتلاك الأجندة، ومعرفة التفاصيل، والصراع والمناورة والثبات والنجاح فيها هو الذي يرسخ تلك العناوين، ويجعلها عناوين حقيقية، تشجع الأمة أن تبذل المزيد لا أن تبكي ـ أو تندم عياذًا بالله ـ على شهدائها في بقاع الأرض، أو في القدس الشريف وفلسطين النابضة.

منْ يقُدِ التفاصيل ويُدِرْها وينتصرْ فيها؛ فهو الذي ينتصر في النهاية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد