لم تكن تلك التفاهة المكررة وذلك الاستخفاف الممجوج في مسرحية ما يسمى الانتخابات مفاجئًا لشعب خَبِرَ حُكم البعث وعائلة الأسد. لم يكن غريبًا أن يتندَّر الناس بمواقفَ يتناقلونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعبّر عن حالة الابتذال والسقوط والإمعان في الانتقام. لكن المفاجئ حقيقةً هو انسياق كثير من الناس في مناطق النظام – ومنهم من كان من حواضن الثورة في مناطق دمّرها الأسد – خلف تلك المسرحية المقيتة، وتسابق كثير منهم إلى تسجيل مواقف النفاق التي يُثبت من خلالها ولاءه والتزامه بقانون الحظيرة حتى لو مارس طقوس النعاج الثاغية إذ يسوقها ذبّاحها المتربِّص.

لا يمكن لعقل سليم ووجدان يَقِظ أن يتخيّل رجلًا، هَدم مجرمٌ بيتَه وهتكَ عِرضَ أهله وهجَّرَ أبناءَ حيِّه وأذاقه السمَّ الزعاف، وألبسَه خِرَق الفقر المدقع وأوقفه في طوابير الذل، ثم يتباهى أنَّه يشارك جلادَه الرقص الفاحش على بقايا أشلاء أهله وركام منزله.. دعْك من حرمة ما اقترفونه. إنَّ ما فعله هؤلاء الساقطون يتناقض مع العقل والمنطق والفطرة.. إن سلِمَت!!

ربما يُتصوَّر ذلك من مُعدَمٍ جاهلٍ يبحث وسط فقره وتهميشه عن ذرَّة اعتبار مهدور أو احتمال مكانةٍ أو فتات مال.. لكن أنْ ترى زَبَدًا طاميًا من عمائم الزور ولحى الإفك ومطايا الاستبداد، حمّالة الأسفار تلهجُ بحمد الطاغية كقطيعٍ مسعور فهذا أمرٌ تحار فيه العقول!! وأنت تعلم يقينًا أنَّ هذه الجوقات المقرفة من عمائم السلطان وأسافل الناس ليسوا سوى عبيد حقراء في نظر سيدهم المتعجرف، وإنْ ظنوا أنهم أصحاب مكانة، وأنهم فعلوا ذلك بكامل الحرية ودون أن يُطلب منهم. نعم صحيح؛ فالخادم المروَّض لا يحتاج إلى أوامر سيده حتى يفرش نفسه وعرضه تحت أقدامه، وصدق القائل:

قيد العبيد من الخنوع *** وليس من زَرَد الحديد

مَن يتابع هذه الهستريا يظنُّ أن اقتراعًا نزيهًا ينتظر سوريا، وأنَّ السفّاح الذي ورث البلد عن أبيه بعد أن صادَرها نصف قرن، ثم استمرَّ عقدًا كاملًا يدمّرها ويُقتّل شعبها ويبيعها للروس ويسوِّد فيها الفرس المجوس، ستهدده مسرحية شكليَّة صنعها بنفسه وسط صمت العالم الصامت أو المتواطئ!!

لا تهمني تلك الشرذمة التي تخلَّت عن إنسانيتها فباعت ضمائرها بأثمان بخسة واصطفَّت مع الباطل منذ بداية الطريق تنصره بالمال والولد والكلمة. لكنَّ أسفي على أولئك الذين ينقلبون مع تقلب الغالب، ويميلون حيث تميل الرياح، لا رأي لهم ولا مبدأ، تراهم اليوم يهتفون للأسد وكانوا قبلها يهتفون للثورة لمّا كانت غالبةً في مناطقهم.. ولو مالت الكفة للثورة مجددًا لانقلبوا منافقين لها؛ إذ ليست الملامة على كلِّ هذا العُهر للطاغية الفاجر الذي ساق الناس بهذه الصورة المُخزية، ولكن الجماهير الخفيفة هي نفسها شريكة في استمرار هذا المجرم وفي محاولة إعادة تعويمه، كما قال عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، فلو لم تكن عند هؤلاء التافهين خفّة في الدين والعقل والضمير، وقابلية للإذلال وتمجيد الباطل بهذه الصورة لما استجابوا هذه الاستجابة المذهلة، وكأنهم لا يسمعون ولا يرون ولا يعقلون. وأمام هذا المشهد الصادم، صرتَ تتأمَّلُ في الناس الذين شاركوا السفاح هذا العُهْر، ولسان حالك كما قال بهاء الدين أميري:

تبلَّد في الناس حس الكفاح *** ومالوا لكسب وعيشٍ رتيب

يكاد يزعزع من همتي *** سدور الأمين وعزم المريب

ولكنْ خُلقت بأرضٍ بها **** نفوس العبيد برقٍّ تطيب

على كل حالٍ يبدو أنَّ هذه ظاهرة مُكررة عبر التاريخ، وقد أطال علماء النفس والاجتماع في تحليلها ومحاولة فهمها، وكتب ابن خلدون في سلوك المغلوب وميله لتقليد الغالب والخضوع له، حتى إنَّ من المعاصرين مَن كتب في سيكولوجيا الجماهير لمحاولة فهم السلوك الجمعي للشعوب إزاء سياسات الأنظمة، وكيف تُقاد هذه الشعوب.. والخلاصة أنَّ هؤلاء كانوا أحذيةً، بالغَ نظام الأسد في استخفافها وازدرائها محاولًا إعادة إنتاج نظامه الساقط، وهو يؤدي أحد فصول مسرحية دموية من إخراج روسيا وإيران الدولتَين اللتين أنقذتاه في لحظاته الأخيرة في 2013 ثم في 2015.

على الطرف المقابل؛ يقف الثائر وسط هذا الانبطاح بهامة مشدودة يؤذِّن في الناس، ويصيح فيهم: يا هؤلاء! ويلكم أما كان الصمت يسعكم؟! لماذا أبيتم إلا النهيق المنكر؟! أما هزّ وجدانكم نهر الدم القاني وصيحات الأبرياء إذ تطحنهم آلة الفتك التي تهللون لها؟! أما تسرَّبت إليكم أنّات نصف مليون معتقل ومعتقلة أحالهم المجرم إلى أشباح تحت الأرض التي ترقصون عليها؟!

وفي الساحات الخضراء المتلفِّعة بعلم الثورة السورية المباركة شارك الأحرار بتجديد بيعتهم لثورتهم على هذا النظام، وبإعلان موقفهم الثابت في إسقاطه بأقدامهم، فقد ثاروا على الظلم وأعتقوا أنفسهم من عبوديةٍ مقيتةٍ ورسخت أقدامهم في الحرية الحمراء التي قدموا في طريقها التضحيات، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا.

إنَّ هذه المسرحية البشعة لتزيد الثائر إصرارًا على ثورته وتمسُّكًا بخياره، وتملؤه يقينًا بأنه على الحق وبأن طريقه الذي سلكه هو النجاة لدينه وضميره وشعبه، وهو في الوقت نفسه – وهو يرى هذا السقوط – لا يتخلى عن محاولة انتشال شعبه من براثن هذا الذلِّ والهوان. وإنَّ كلَّ وساوس اليأس من انتصار الثورة – في ذاته – لن تلبث أن تتبدد أمام لحظة إدراكٍ لسنن الله في الظالمين، وإدراكٍ لدوره المحوري في موكب الحق الهادر، ولدوره المنتظر في إنقاذ دمشق الطاهرة وأبناء سوريا الطيبين. حاشا لله أن يمكِّن لشرذمةٍ تُجاهر بالكفر بالله وتعبدُ سيَّدها من دون الله، حاشا لله أن يضيع أنهارًا من دماء الأبرياء الطاهرة، فهو يملي للظالم لكنه إذا أخذه لن يفلتْه.

انطلق أيها الثائر في طريقك برأس مرفوع وعزم موفور، فجّر كلَّ طاقةٍ في ذاتك، احمل قضيتك في وجدانك واغرسها في أولادك، جِد لنفسك ميدانًا تنصر فيه ثورتك من موقعك وفي مكانك، لا تبخل عليها بوقتك أو جهدك، إذ بذل لأجلها غيرُك روحه وماله، تمسك بثوابتها وحافظ على أخلاقها، توكل على ربك، صحّح أخطاءك وعثراتك، وامضِ في سبيل الله، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد