الخليفة عثمان.. ما الذي أدى إلى قسوة المشهد الأخير؟

شوارع المدينة تموج بالرعب، الأنفاس حبيسة الأحداث المتسارعة، جاءت ريح السَموم من البصرة والكوفة ومصر، حاملة خبثها حدًّا وحديدًا ورجالًا وحقدًا وكرهًا. أربعون يومًا لا يعرف أصحاب رسول لله طريقًا للنوم، صليل السلاح يختلط بدموع شيخ نحيل يقف فوق سطح منزله، يجد غصة في حلقه في لحظات بكائه الأخيرة، كان بالأمس هو رجل الاقتصاد الأول من رعية صاحبيه الصديق والفاروق، واليوم ابن سبأ وأضرابه هم رعيته. يعود بذكرياته يوم أن هاجرا إلى الحبشة، وبعدها إلى المدينة، هناك حيث يتقدم الرسول (ص) أفراد البيعة ليضع يده محل يد عثمان، يتذكر أيامه متحسسًا العطش في فمه اليابس، مسترجعًا يومًا بذل فيه خير ماله يشتري بئرًا ماز تروي عطشى البشر والدواب على أطراف مدينة رسول الله، لا يستطيع أن يواجه الحقائق، إن كل شيء يتبدل، الفاروق بقوته ليس موجودًا في محنته، والصديق بعبقريته غادر المسجد منذ أعوام إلى جوار ربه، ورقية وأم كلثوم من اختلطت روحه بهما قد سبقوه إلى جوار الحبيب. يشق هذا الصمت وهذا البكاء والشعور بالعزلة حريق في باب الدار وصوت جهوري ينادي:

 – «الخلع أو القتل يا عثما»

  1. – «ما كنت لأخلع قميصًا قمصنيه الله»

ذهب إلى غرفته وهو يرمق زوجه نائلة بنت الفرافصة، مشفقًا عليها من مصير مجهول، يبدو أن قرار الاقتحام قد اتخذ وأن الكوكبة التي التفت حول الدار من أبناء الصحابة لحمايته قد هزمت من رعاع الأمصار، لم يدر عثمان إلا ومحمد بن أبي بكر واضعًا ركبته على صدره، ممسكًا بلحية لطالما أكرمها والده، رفع عينيه إلى الشاب فإذا به ابن رفيق دربه «يا ابن أخي، لم يكن أبوك ليرضى منك هذا الموضع»، يتراجع الفتى للخلف مصطدماً برفيقيه اللذين شعرا برجفة الرجل الأول، ووثبا يرفعان صوت الغدر؛ ليحسما الأمر ويزيحا المرأة المولوله جانبًا ليخترق السيف الجسد النحيل، يلتف الفتى الذي تربى في بيت علي بن أبي طالب ليجد دماء الخليفة فوق مصحفه في ذهول.

الجيل الثاني من أبناء الصحابة يتجاوزن قواعد التأسيس في دولة الراشدين، هل كان محمد بن أبي بكر قائد الانقلاب على عثمان، هو ضحية الانخراط غير المحسوب من أبناء الصحابة في العمل السياسي، أم أن حالة الرخاء وتوقف ديناميكية المجتمع عن أعمال الجهاد بَدَل مواقع الرجال من قيادة الجيش، إلى الطموح اللامحدود في عمل السياسة والحكم، حتى ينتهي الأمر بمقتل ثالث الخلفاء في عملية انقلاب درامية. القارئ الكريم، إن عليّ أن أنتقل أسرع من وصف العاصفة وتفاصيل المشهد الأخير الذي آثرت أن أغيٌر به استراتيجية كتاباتي، بينما يتوقع القارئ أن أشتبك سريعًا في تحليل الأحداث، إلا أنني رأيت أن آتي بالمشهد الأخير محاولاً أن أتوقف عن الدموع، ناظرًا في بساتين عثمان ووقْفه الذي تركه لرجال ربما لم يدافعوا عنه في أصعب لحظاته، أحاول أن أتوقف عن البكاء ومعايشتي لمشاهد عثمان مع رسول الله، لحظات القهر التي عاشها عثمان مودعًا زوجتة «رقية» ليس لألم الفراق، ولكن لألم انقطاع النسب برسول الله. مشاهد الحب والطيبة الحياء التي خصّ بها الله تعالي عثمان.

بعيداً عن محاولات الأدلجة التي تناول بها الكثير من الكُتاب والمؤرخين لسيرة عثمان. أتوقف أمام نقاط مفصلية لدراسة المواقف قبل يوم الدار. ما الذي جعل الأحداث تتسارع بهذا الشكل الدرامي المريع الذي بلغ حد قتل الخليفة، وكيف نفرق بين «من عارضوا» عثمان معارضة سلمية من الصحابة وأبنائهم لسياساته وقراراته، ومن «انقلبوا» وتمردوا ضده بشكل مسلح بلغ إهدار دمه واستباحة مدينة رسول الله. هل افتقد الخليفة الراشد بعدًا في إدارة انتقال تدريجي للمجتمع من مرحلة تميزت بصرامة السلطة المركزية، الممثلة في نظام الفاروق الذي كان متشددًا في الرقابة على الولاة، كان ينبغي أن يتعاطى عثمان مع الأحداث السياسيه على طريقة أبي بكر في مفهوم إدارة المرحلة الانتقالية، لكن أحدث الأسباب الرئيسيه كان  التوقف المؤقت لعمليات الغزو والتوسع لأسباب جغرافية، أو أسباب إدارية، ما أتاح لقنوات المجتمعي أن تتفتح ويتحول التدافع العسكري إلى التدافع السياسي، ربما تلك النقطه لم تكن حاضرة أمام الخليفة، وربما كانت له دوافعه، أضف أن  التغير الديمغرافي نتيجه انفتاح الولايات والانفتاح الاقتصادي غير اامحسوب، أضعف الكتلة الصلبة من المجتمع والمتمثلة في الصحابة داخل المجتمع في عمليات التجارة والاقتصاد، تلك الكتلة الصلبة التي طالما حافظ عليها الفاروق بعيدًا عن مصادر الثروة وتكدسها. زوايا الرؤية السياسية لدى الخليفة لم تكن تستطيع أن تجمع متطلبات كل بطون العرب الذين يتربصون بقريش، بينما لدية من رجال الحرب والسياسة في المدينه ما يدفع بهم إلى قيادة الأمصار، إلا أنه يقع في خطأ استراتيجي في اختياراته للولاة من بني أمية بحسن نية وطيبة قلب لا تجتمع في الحاكم.

هناك عقبة بن الوليد من فئة الطلقاء لم يكن على قدر الالتزام السلوكي للولاية، وعبد الله بن أبي السرح الذي كان كاتبًا للوحي الذي ارتد وهرب لمكة المكرمة ثم عاد وأعلن عودته للإسلام، وعبدالله بن عامر الذي كان شاباً لا يتجاوز الخامسة والعشرين حل محل رجل خبير هو أبي موسي الأشعري، الأوزان النسبية للرجال حول الخليفة تضعف من قدره سيطرته علي الدولة، في وقت تزداد فيه المعارضة السلمية من الصحابة داخل المدينة، والمعارضه المسلحة تتجمع داخل الأمصار. مزيد من التعديلات في السياسات المالية لم ترق إلى الصحابة، وحتي محاولات الخليفه عثمان التوسعة على جماهير المسلمين في الأرزاق وتوزيع المكتسبات المالية بعد الفتوح، لحالة من الغيرة داخل الفئات المختلفة داخل المجتمع.

لما سبق من  التغيرات الرهيبة التي حدثت في النصف الثاني من ولاية عثمان قد سمحت بتغيرات سياسية واجتماعيه لم تستطع الحركات الإصلاحية من كبار الصحابة استيعابها،  وبالتبعية يؤدي هذا كله إلى خلخلة نظام السلطة المركزية؛ فبدأت تظهر النعرات القبلية المقاومة لسطوة قريش على الحكم والمتمثلة في عثمان، أضف أن زعامات ناشئة وطامحة من بني أمية بدأت تتسلق الحديقة الخلفية لبيت الخليفة، معلنة أن حكم عثمان هو بداية تحول الحكم إلى سيادة بني أمية، هناك على الحد الشمالي من المدينة يقف داهية العرب بنظرته التوسعية في بلاد الشام ليقيم مملكتة الخاصة داخل دولة الخلافة، ويُثبت أركان دولة ناشئة داخل الدولة الإسلامية لم يسعف الجميع ذكاؤهم في إعلان توقف  طموح  معاوية في تكوين إمبراطوريته القادمة، ولا أحد من الصحابة يستطيع فك حالة الارتباط التي نسجها دهاة بني أمية حول الخليفة، إذ كان مدير مكتب الخليفة مروان بن الحكم رجل أهوج انتقص من رصيد ورمزية دار الخليفه في نفوس الناس.

 الثورة المضادة على الإسلام الأصيل الذي وضع أسس بنائه الصديق والفاروق، الطامحون يلتقطون طرف الخيط للانقلاب على الانقلاب نحو تأسيس جديد للملك العضوض حتي بدأوا يتلقفون الأحدث ككرة النار في اتجاه إقامة دولتهم في دمشق. تفصيل أحداث الانقلاب الأول على الخليفة ودراسة أبعاد تحول الأحداث إلى انقلاب ناعم متخذًا منبر معاوية في دمشق مركزًا إعلانية للانقلاب الناعم واستغلال المفاهيم، كيف خرجت  الأحداث من المدينة لينتقل الصراع إلى الشمال بعيدًا عن رمزيتها من أجل تجريد الصحابة من رمزيتهم في المدينة؛ حتي تتساوى وتختلط الأوراق والأوزان النسبية، هذا  موضوع مقالنا القادم، عذرًا لمن انتظر اشتباكًا سريعًا مع الأحداث فقد آثرت أن أبدأ بالمشهد الأخير.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد