اختلفت حوله الآراء، ما بين مؤيد ومعارض، ما بين محب وكاره، لكن الجميع اتفقوا على دماثة خلقه وطيبة قلبه وسمو قدره في القلوب.
رأيته طوال خمس سنوات أسدًا هصورًا تحت قبة البرلمان، يصدح بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، أضفى على وجود الإسلاميين في البرلمان لونًا وطعمًا جديدين، فكان طاقة من الجد والاجتهاد لا تنطفئ، ولم يكن جهده نحو قضايا عادية، إنما كانت كلها في خدمة دينه ووطنه ومجتمعه، كان دفاعه عن حقوق الفقراء والمظلومين ضد العتاة المجرمين يمثل شوكة حادة في حلوق الطغاة، حتى قرروا ألا يسمحوا بتكرار تلك التجربة مرة أخرى، فمنعوا وصوله إلى البرلمان ثانية حتى يستريحوا من صداع طالما سببه للنظام الفاسد.
ثم كان زعيمًا لحزب سياسي قاد معركة التغيير، لكن بشكل أكثر تأثيرًا إلى حد ما بحكم التغيير السياسي والمجتمعي الذي وقع. تعامل مرة أخرى وجهًا لوجه مع الطغاة، لكنهم هذه المرة كانوا يستترون بثوب العفة، خدعوا الناس بلباس الحرية، بينما كانت قلوبهم أشد حقدًا عليها وأشد عبادة للطبقية والعبودية، فكانوا يبطنون الكيد ويظهرون الحب، فوقع في شباكهم جل العامة، وركن إليهم المنافقون والمنتفعون ودعاة التحضر والتمدن زورًا وبهتانًا.
ثم كان رئيسًا منتخبًا للمرة الأولى في تاريخ البلاد، وكان الجلادون الذين يسلمونه مقاليد الحكم في مراسم قانونية، هم أنفسهم الذين أعدوا العدة من قبل لإسقاطه، لكن بعد حين، بعد أن يشوهوا صورة التجربة الديمقراطية، بعد أن يغرسوا في قلوب الجماهير كره التوجه الإسلامي بما يحمل، بعد أن يزرعوا في عقول العامة فشل الحكم المدني، بعد أن يوهموا الشعب بأنه لا حل غير الحكم العسكري لهذه الأرض.
نجحوا باقتدار في خلق المشاكل وتعظيمها، نجحوا نجاحًا واضحًا في تسميم عقول الناس تجاه المصلحين، أبهرت أذرع الدولة العميقة الجميع بمدى سلطتها وسطوتها على مقدرات البلاد، وبقدرتها على وقف عجلاتها متى شاءت، فكانت الخماسية الشيطانية في توحد تام ضد إرادة الشعب ومصالحه، كان الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والدولة العميقة هم خماسية البلاء على أول تجربة للحرية والعدل والمساواة التي طالما كان الشعب المسكين يحلم بنجاحها.
وسط كل تلك الأجواء كان هذا الأسد مضطرًا للقيادة، كان يتقدم خطوة، فيشده المفسدون إلى الوراء عشرًا، تكالبت عليه قوى الشر والحقد، وعظمت فوق كاهله المسؤوليات، بينما تكاثرت عليه أيادي الدسائس والفتن ومخالبها، فتخلى عنه الكثيرون من رفاقه، ووفت له القلة القليلة، تعرض لمحاولات القتل وخانه حراسه المقربون أنفسهم، ولولا لطف الله به لفتك به قطاع الطرق واللصوص والسفاحون بلباس الشعب الثائر.
للمرة الأولى في تاريخ البلاد يفتخر المظلومون فيها وفي غيرها من البلاد المجاورة برئيس مثله، فكانت هتافاته «لبيك يا سوريا» و«لن نترك غزة وحدها» تهز الكون كله، تهز قلوب المظلومين فرحًا، وتهز قلوب المجرمين خوفًا ورعبًا، كم هتف من قبله غيره، لكنها كانت هتافات جوفاء لمجرد الاستهلاك الإعلامي والسياسي، بينما كان الجميع يعلم صدقه وعزمه على تنفيذ تلك الوعود التي قطعها على نفسه.
لم تكن الحرب عليه سهلة، ولم تكن عليه لذاته وشخصه فعلًا، وإنما كانت لما يمثله من عدل، هذا العدل الذي يجعل من مصر رائدة الأمة من جديد، هذا العدل الذي قد ينتقل بدوره إلى شقيقات مصر ليخلصهن من جور وظلم الأباطرة الطغاة الذين جثموا على وجدانهم ومقدراتهم وأقدارهم عقودًا عجافًا، فكانت لكل ذلك مؤامرة محلية وإقليمية وعالمية على السواء.
تناثرت الأموال بالمليارات على أجساد النفوس العاهرات اللاتي بعن شرفهن، فباعت تلك النفوس القذارة بلادهم وأَوطانهم ومقدرات شعوبهم لكل من يدفع، انهالت الملايين في جيوب العسكر ليكونوا القائمين على تنفيذ الخطة التي أعدها أسيادهم، وفي جيوب الإعلاميين ليكونوا سحرة فرعون الذين يشيطنون الحق ويزينون الباطل، وفي جيوب الدولة العميقة ليفسدوا في عرض البلاد وطولها، وفي جيوب الشرطة ليؤمنوا اللصوص والمفسدين، ثم أخيرًا في جيوب القضاة الفسدة الذين يشرعنون كل هذا الفساد وكل هذا الظلم بأحكامهم الجائرة على المصلحين، وتبرئتهم لكل مجرم واضح الجرم للقاصي والداني، حتى نشأت دعوة حينذاك «إما الثورة على القضاء، أو القضاء على الثورة».
نجحت الخطة اللئيمة تلك في تحقيق كل مآربها واحدًا واحدًا دون نقص، وساعد في تحقيقها، إضافة إلى كل ما سبق، جهل العوام وعجز الثقات. وفي تلك الأجواء تم تلفيق اتهامات ونشر شائعات على كل ما هو إسلامي التوجه، وعلى رأسهم جميعًا رئيس البلاد نفسه، ونجحت الإشاعات في خلق جو عام يهيئ للمرحلة الأخيرة بسهولة ويسر، بل وترحيب شعبي، والأدهى والأمر بترحيب من قادة القوى المدنية والأحزاب السياسية، والتي وقعت كلها في شباك العسكر، ونسوا جميعًا أن كل واحد منهم سوف يحين دوره بالمثل، ليقول ويندم حين لا ينفع الندم «أكلت يوم أكل الثور الأبيض».
وكان أسوأ ما نجح به الانقلاب هو انقسام الشعب المصري إلى فئتين عظيمتين تشيطن إحداهما الأخرى، فالأولى وهي المؤيدة للانقلاب ترى الآخرين خونة الوطن، بائعي أرضه وتراثه، متشددين متطرفين سوف يقطعون الآذان، ويزوجون البنات في سن التاسعة، ويحلون جماع الوداع، ونكاح الجهاد، ويقتلون الجيش والشرطة ويدفنونهم تحت المنصة في رابعة العدوية، ويتخابرون لصالح تركيا وقطر، ويحبون أخاهم بيريز، ويهربون الكهرباء والبنزين إلى غزة، ويبيعون الأهرامات للإمارات، ويتآمرون مع هيلاري كلينتون، ويستعينون بالأسطول الخامس الأمريكي لاحتلال مصر، ولا يوظفون في كل الوظائف خاصة الوزارات والمحافظات إلا الإخوان (أخونة الدولة)، ويستمدون كل قراراتهم من مكتب الإرشاد بالمقطم، حتى كانت أشهر الشعارات «يسقط حكم المرشد».
بينما الفئة الثانية وهي المناهضة للانقلاب العسكري ترى الفئة الأولى مغيبة الوعي، مخدوعة، جاهلة، تركن إلى الشائعات وتصدقها، ألعوبة في يد النظام يوجهها كيف يشاء، حتى أنهم مشاركون في الذنب، تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء لأنهم فوضوا القاتل في قتلهم، قتلة لأنهم رضوا بالمذابح وباركوها، فسقة لأن فرعون استخفهم فأطاعوه، يستحقون ما حدث لهم بعد ذلك من ظلم وجور وضيق العيش لأنهم هم أنفسهم الذين توجوا الظالم تاج الحكم.
وبين هذه وتلك ضاعت البلاد وصارت «أضحوكة العالم»، وهذه الفرقة هي ما حذر منها الرئيس مرسي مرارًا وتكرارًا في خطاباته الأخيرة، وظل يكرر مثلها أثناء فترة محاكمته. خشي منه أعداؤه حرًا وسجينًا، لم يجرؤوا أن يحاربوه بنزاهة فانقلبوا عليه بالدبابة لا بالصندوق، ثم حاكموه وراء جدار عازل خشية أن يسمعه أحد، ولو كانوا على حق في ادعاءاتهم ما وجدوا غضاضة في أن يسمعه الناس، صبر على الظلم والقهر مواطنًا، ثم حاربهما برلمانيًّا، ثم سعى في القضاء عليهما رئيسًا قدر ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وصبر على الابتلاء والسجن منفردًا، وصبر على عزلته عن العالم وعن أهله وحتى عن محاميه كثيرًا، وصبر على مرضه وعلى إهمال المجرمين في علاجه عمدًا، ولم يثنه كل ذلك عن عزمه، ولو أراد الدنيا لكان داهن القوم وأطاعهم في ما يريدون، لكنه أبى إلا الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه لشعبه ووطنه، فلقي الله أثناء محاكمته، لتكون شاهدة له يوم القيامة.
رحم الله أول رئيس منتخب في تاريخ جمهورية مصر العربية الرئيس الراحل الأستاذ الدكتور محمد محمد مرسي عيسى العياط.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد