وجد السؤال في حياة الإنسان ليثير القلق والإحراج والدهشة في آن معًا، فهو يتحدى عقولنا، ويحرك مشاعرنا، ويحفز فضولنا، للكشف عن الحقائق وتبيان المقاصد، في درب الصراع والتصادم مع الجهل، فهو نضال مستمر ومستميت في إعمال العقل، هذه هي بنية السؤال وعمله عند العقل الجريء، لكن العقل الجامد متخلف بالأساس، يفزع من السؤال، ويفرغه من طابعه النقاشي الجدلي، ويحوله إلى صراع لتصفية الحسابات الشخصية العاطفية، ومنه تتحول عملية طرح الأسئلة إلى حرب كلامية، سمتها التعصب والتصريخ والتصيد.

مما يكبح جماح الاستفسار والاستقصاء والبحث عن الحقيقة، وكذا يحول الإنسان إلى سلة مهملات ترمى فيها كل الشوائب والآثار، فينجر عنها اعتياد يحجم التلقي ويبرمج العقول. ومما لا شك فيه أن وسائل الاتصال الجماهيري تلعب دورًا مهمًا في رسم هذه الهالة في كنه السائل، خصوصًا وأن قيمها الإخبارية تعتمد بشكل مفرط على الإثارة في اشباع رغبة العقل العاطفي (عقل الإنسان المتخلف)، وهو الظاهر في البرامج الجدلية في النصف الجنوبي للقارة أين يعلو الصراخ والعويل لدحر المخالف والتغلب عليه! حيث المنتصر فيها من يقزم الآخر، لا من يفحمه بالحجة والدليل والمنطق في جو رحابته العلم.
فيكفي أن تقفز بين العوالم بكبسة رز واحدة، تسافر عبرها من فضاء النيل السات إلى فضاء الأسترا، لتقارن بين برنامج العويل على شاكلة الاتجاه المعاكس الذي يبث على قناة الجزيرة وبرنامج «هارد توك (hardtalk)» الذي يبث على قناة BBC، عندها ستتضح لك الصورة بشكل جلي (صورة الحرب الكلامية العاطفية الطاردة للسؤال، وصورة حوار الأفكار الشاخصة من لب السؤال).

كما لا مناص من أن التنشئة الاجتماعية للفرد، إنطلاقا من العائلة إلى المدرسة والمجتمع، كمتلازمة ثلاثية تحدد قيم الإنسان ومبادئه في طرح السؤال وثقافة الحوار، تكشف لك حجم الطيش والتيه الذي يتخبط بالفرد المتخلف، ويرافق نمو البيولوجي والسلوكي في آن معًا.
فالعائلة كمستقر أولي يُصنع فيه الإنسان، تساهم بالقدر الكبير في سد أو آليات الإدراك وهي عديدة لا يسع المقام لذكرها كلها (…) وكمثيل نحدد ثقافة الأخد والرد والتشاور التي تقهر نفسية السائل منذ نعومة أظافره، فالطفل فيلسوف بالفطرة ومبدع بالماهية، هكذا يقذف إلى الوجود!. لكن كلمات مثل «أسكت.. لا تسأل.. بلع فمك» الممارس من قبل الأم والأب والإخوة، لها الوِقع الكبير في ترسيخ ثقافة رهاب السؤال، وقتل روح الإبداع والنقد في نفسية الطارح الصغير.

فينتقل هذا الطفل إلى مدرسة تعليب العقول، وتحت رعاية النظام التعليمي المتخلف، المنمط، على نفس النهج، نظرًا لغياب الحرية والإستمتاع ركيزة الإبداع، وجوهر التعليم في النظام الحداثي. فيغدو طالب اليوم، مرتعبًا من السؤال التحليلي في الامتحان، ويفضل الأسئلة المغلوقة المُقولبة في أطر الحفظ (القص واللصق)؛ ما يسهل عليه عملية الإجابة النموذجية! كأن العلم محصور في إجابة مثالية واحدة! المصوغة بدورها من قبل المُلقن في رتابية التدريس، وهكذا يبيت ذلك الفرد المبرمج أستاذًا ملقنًا في دوامة من الجهل الموروث.
والمتتبع أيضًا لترتيب أجود أنظمة التعليم في العالم سيلمس فيها أفقًا للسؤال الحر، وإطلاقًا لعنان العقل في طرح الإشكال، ولعل الأمر مرده للنظام السياسي والتنشئة الاجتماعية التي تؤسس لفرد حيوي، نشط، محب للحكمة، يواجه حياته بمسؤولية، كمثال يوضح المعنى، يكفي النقر في موقع «يوتوب» على دروس هارفرد الفلسفية المعقدة للأستاذ Michael sandel المقدمة بطريقة سلسة وممتعة.

تساوقا مع هذا نذكر أن المجتمع يُحصر في ثقافته الشعبية ومخيال الجمعي كما يردف «دوركايم» التي بدورها تُحدد في مقولاته الشعبية، وقياسًا على هذا، نمسك بمقولة «شاورها وخالفها»، المتداولة بين طيات الفرد والجماعة في الجزائر، الواصفة للمرأة باعتبارها أضعف عنصر في المجتمع المتخلف، وأكثرهم غُبنًا، حيث أنها – المقولة – تفرض السؤال كقيمة ثانوية شكلية فارغة من أي توصيف لماهيته الحقيقية، المجسد في الأخد والرد، دون أي توجسات مهما كان نوعها أو طوباويتها، فتلبسه ثوب السطحية والأبوية، وبالتالي يتحول السؤال من أداة للاستفسار، والأخد بالرأي إلى سلطة تقزيم وتصد للرأي المخالف، فينتقل دور المرأة من حاضنة الفرخ إلى حارسة الخم بامتياز.

وهكذا يتفنن الإنسان المتخلف في تحويل أدوات العلم إلى أغلال من الجهل والخرافة، فهو في ديمومة مستمرة من الحركة، لا يقبل التوقف، يساير الزمن بتجاذباته وصراعاته، وهو راكن في وجه الحضارة، وقابع على هامش التاريخ، فإذا لم يبدع في العلم سيبدع في الجهل.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

السؤال, رهاب–
عرض التعليقات
تحميل المزيد