في البداية أود أن أسرد لكم هذه القصة الحقيقية القصيرة، والتي حدثت معي قبل عدة أشهر في العراق، ذهبت إلى أحد المصارف (البنوك) المعروفة في العراق، وبعد انتظار طويل في صالة الانتظار التي تنعدم فيها أبسط الخدمات من ماء صالح للشرب وحمامات نظيفة التقيت بالموظفة المسؤولة وطلبت منها أن تفتح لي حسابا جاريا بالدينار العراقي والدولار الأمريكي، أخرجت الموظفة من درج مكتبها ورقة تحمل قائمة طويلة بالشروط المطلوبة لفتح الحساب وكان من أبرزها جلب تزكية من عميلين (زبونين) من هذا المصرف مع إيداع مبلغ 500 دولار غير قابلة للسحب ومجموعة أخرى من التعهدات والأوراق الثبوتية التي تستغرق وقتا لتهيئتها. وقالت لي في حال طلبت إصدار بطاقة الفيزا فعليك دفع مبلغ يعادل مائة دولار تقريبا لتغطية أجور طباعة هذه البطاقة وتقوم بدفع نفس المبلغ سنويا عند تجديد البطاقة. بصراحة شعرت بالصدمة من هذه الإجراءات المعقدة وقلت لها: “هل أنت متاكدة من هذه الإجراءات؟

فأنا هنا لإيداع مبالغ مالية، وليس لسحب قرض استثماري” فأكدت لي هذه الإجراءات بكتب رسمية من الجهات العليا. فسردت لها حادثة معي قبل عدة سنوات عندما ذهبت إلى أمريكا بصفة طالب جامعي وذهبت إلى مصرف اسمه (بنك أمريكا Bank of America) وهو من أكبر المصارف في أمريكا وطلبت منهم فتح حساب لي مع إصدار بطاقة الفيزا. فتمت العملية خلال خمسة دقائق ولم يتطلب الأمر سوى نسخة من جواز السفر وحصلت فورا على رقم الحساب الجاري مع بطاقة فيزا مؤقتة لحين إرسال البطاقة الجديدة التي عليها اسمي إلى منزلي بعد أسبوع واحد فقط. ولم تطلب الموظفة مني إيداع أي مبلغ أو دفع رسوم فتح الحساب.

وقبل مغادرتي لهذا المصرف أرتني موظفة المصرف ألبوما من تصاميم بطاقة الفيزا، وطلبت أن أختار ما أرغب من أشكال توضع على بطاقة الفيزا وكانت هناك عشرات النماذج. ثم طلبت صورة شخصية ليتم وضعها أيضا على بطاقة الفيزا. والمفاجاة الكبرى التي صدمتني أن الموظفة أخبرتني أن المصرف قام بإيداع مبلغ وقدره 25 دولارا هدية منهم، وقالت عند جلبك لأي زبون من طرفك سيتم إيداع مبلغ 25 دولارا جديدة عن كل زبون بالإضافة إلى حصول الزبون الجديد على نفس المبلغ. وبالفعل قمت بذلك مع زوجتي. وبعد أن أعربت لهذه الموظفة في المصرف العراقي عن استيائي من هذه الإجراءات وضرورة أن نتعلم من المصارف العالمية همست في أذني وقالت: (الأفضل أن تودع أموالك في مصرف محترم خارج العراق).

سؤالي الأن، هل هذا الوضع المصرفي مناسب لبلد هو بحاجة ماسة إلى الأموال الوطنية قبل البحث عن الاستثمار الأجنبي؟ ونتيجة لهكذا سياسات فاشلة في إدارة المصارف، وكسب المستثمرين وأصحاب الأموال لم يقم أي مستثمر محلي أو أجنبي بعمل أي مشروع استثماري كبير في العراق. وما تسمعونه من مشاريع متوسطة مثل بناء سوق تجاري كبير (مول) أو مطاعم فاخرة، فهذه مشاريع قد ساهمت فيها الحكومة ضعف مبلغ المستثمر المحلي أو الأجنبي. وسنأتي على أسباب الفشل في الاستثمار والنمو الاقتصادي لاحقا في هذه المقالة.

يقول أحد المستشارين في الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي أن العراق، للأسف الشديد، يقع في ذيل قائمة الدول من بين (186) دولة في مجال تسهيلات الأعمال، بمعنى أنه أكثر البلدان سوءا في بيئة الأعمال والاستثمار، حسب تقارير البنك الدولي السنوية حيث يقيس ممارسة الأعمال الأنظمة التي تشجع أنشطة الأعمال أو تقيدها عبر 9 مجالات أو “مؤشرات” أساسية هي؛ (بدء الأعمال، والتعامل مع إجازات البناء، وتسجيل الأملاك، والحصول على تسهيلات ائتمانية، وحماية المستثمرين، ودفع الضرائب، والتجارة عبر الحدود، وتنفيذ العقود، وإغلاق الأعمال)، فكيف ندعو المستثمرين للاستثمار في العراق وهم مطلعون على مثل هذه التقارير ولكل صعوبة تواجههم هنالك كلفة وكلما تعاظمت الكلف صار الاستثمار غير مربح وغير مجدٍ وفق معايير (التكلفة / العائد).
الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها أن الاقتصاد العراقي يمر بأخطر أزمة اقتصادية منذ عام 2003 وقد تهدد مستقبله بالكامل. ومن أسباب هذا التدهور الكبير: الانخفاض الحاد في أسعار النفط (البترول) وسيطرة تنظيم داعش على ثلت مساحة العراق (حيث العديد من حقول النفط والمصافي والبنوك المحلية والأجنبية)، واتساع الفساد الإداري والمالي في البلد، الأمر الذي أدى إلى إحجام المستثمرين الأجانب عن الدخول في السوق العراقي.

رغم أن ميزانية عام 2015 فيها أكثر من 100 مليار دولار إلا أن نحو 80% من هذه الميزانية يذهب للمصاريف التشغيلية من رواتب وتقاعد (معاشات) ومصروفات يومية. أما المبلغ المخصص للاستثمار فهو لا يتجاوز 20 بالمائة من هذه الميزانية ويتم إنفاقها فقط على المشاريع الحالية التي لم تنجز بعد. وحتى هذا المبلغ الضئيل لن يكون متوفرا بسبب حاجة البلد إلى مبالغ كبيرة جدا لشراء الأسلحة لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي بعد أن تخلى العالم كله عنه، ولم يصله سوى مساعدات خجولة من التحالف الدولي.

وعائدات العراق المالية تعتمد على النفط كمصدر رئيسي والذي يشكل 98% من موازنة الدولة. اعتمدت موازنة هذا العام على تخمين سعر برميل النفط بحوالي 56 دولارا وبطاقة تصديرية 3 مليون برميل يوميا، رغم أن النفط العراقي يباع الآن بأقل من 45 دولارا للبرميل الواحد. وقد يؤدي استمرار انخفاض أسعار النفط إلى زيادة حجم العجز في الموازنة الذي يبلغ حاليا 25 مليار دولار. ووضعت الحكومة هذا العام بعض الإجراءات لتنويع مواردها المالية من خلال زيادة الضرائب على شركات الهاتف النقال وتذاكر الطيران وشراء السيارات والمشروبات الكحولية ومنتجات كمالية أخرى. ربما تؤدي هذه الإجراءات إلى حدوث نتائج عكسية فتصيب الاقتصاد المحلي بالركود إن لم يكن شللا تاما. وتسعى الحكومة أيضا لتغطية العجز من قروض أجنبية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكذلك الطلب من بعض الدول التي لها مستحقات مالية مثل الكويت (تعويضات حرب الكويت) ومصر (تعويضات العمال المصريين) بتأجيل تسديد دفعاتها إلى السنة القادمة أو أخذ قيمتها من النفط العراقي بدلا من الدفع النقدي.

من ناحية أخرى، تشكل البطالة في العراق أكثر من 25 بالمائة وإن نسبة المواطنين تحت خط الفقر تزيد عن 30 بالمائة حسب بيانات رسمية من الجهاز المركزي للإحصاء وكذلك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وهذا رقم مخيف في بلد نفطي مثل العراق، وفيه دلالات كثيرة يعرفها الاقتصاديون حول الواقع الفعلي لاقتصاد البلد.

ما زال الاتفاق هشًا بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان بشأن تصدير النفط وهناك ضبابية واضحة في الكثير من بنود هذا الاتفاق. إن انهيار هذا الاتفاق قد يؤدي إلى تدهور كبير في اقتصاد الطرفين. حكومة الإقليم ما تزال عاجزة عن تزويد المركز بكمية قدرها 550 ألف برميل يوميا وبالمقابل الحكومة المركزية تتردد في تزويد الإقليم بحصته السنوية من ميزانية الدولة والبالغة 17 بالمائة. استمرار جو عدم الثقة بين الطرفين سيكون له انعكاسات سلبية جدا على الاقتصاد وسوق العمل وحركة التجارة بين الإقليم والمركز. مؤشر سوق العراق للأوراق المالية سجل هبوطا بأكثر من 19 بالمائة هذا العام وتعرضت الكثير من الشركات لخسائر مالية فادحة.

ويمكن اختصار أسباب الفوضى الاقتصادية والاستثمارية في البلد بالأمور التالية. ويمكن وضع بقية الأسباب ضمن هذين السبيين:

الاضطراب السياسي والأمني، وفي رأيي أن الاضطراب السياسي هو أخطر من الأمني على وضع الاقتصاد والاستثمار. هناك الكثير من الشركات الدولية مستعدة للعمل في بيئة غير آمنة من خلال توفير الحمايات الأمنية اللازمة ولكنها غير مستعدة للعمل في بيئة غير مستقرة سياسيا. خذ على سبيل المثال النزاع السياسي والحزبي بين الحكومة المركزية ومحافظة البصرة. هناك تضارب واضح في الصلاحيات وعدم استقرار الكثير من المسؤولين في مسؤلياتهم ومناصبهم. فعندما يأتي أي مسؤول جديد يقوم بمحاربة كل الاتفاقيات والعقود التي أبرمها المسؤول السابق ويحارب جميع مشاريعه لأسباب سياسية وتصفية حسابات سياسية ولدينا تجارب كثيرة في ذلك. بعض المشاريع متوقفة رغم أن تنفيذها تجاوز النصف وذلك بسبب تغير المحافظ أو أحد مسؤولي المحافظة واتهام المسؤول السابق بالفساد. وتكون معظم هذه الاتهامات سياسية.

ومن مظاهر الاضطراب السياسي هو اختلاف الأحزاب السياسية في توجهاتها الاقتصادية وبما يتماشى مع مصالحها الحزبية وحجم نفوذها في الحكومة. فمثلا بعد تشكيل الحكومة عام 2006 كان وزير التخطيط العراقي من الحزب الإسلامي العراقي، بينما وزير المالية من المجلس الإسلامي الأعلى، ونائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية كردي علماني، وكان هؤلاء هم أعمدة الاقتصاد العراقي في أول حكومة عراقية منتخبة منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003. كان الأول يتبنى فكرة الاقتصاد المركزي الموجه من قبل الدولة، وكان الثالث يؤمن بفكرة السوق المفتوح أو الاقتصاد الحر وإن تبتعد الدولة تماما عن التدخل في الاقتصاد وتترك الموضوع للقطاع الخاص والمستثمرين كما هو الحال في دول أمريكا وأوروبا.

أما الثالث فكان يريد اقتصادا يجمع بين سياستي الأول والثاني وأن يعطي للدولة بعض الصلاحيات وإدارة بعض المشاريع الاستراتيجية، وكذلك محاسبة بعض الشركات الاحتكارية. كان هناك اضطراب واضح في توجه اقتصاد البلد وكان غالبا ما يسبب إحراجا في المؤتمرات الدولية والمفاوضات مع المستثمرين بسبب غياب منهج موحد للدولة في المال والاقتصاد والاستثمار.

1– الفساد المالي والإداري: تشير الكثير من الإحصائيات الصادرة عن المنظمات المحلية والعالمية المعنية بشؤون النزاهة ومكافحة الفساد المالي والإداري إلى أن العراق يحتل الصدارة بنسبة الفساد بين دول العالم ولعدة سنوات متتالية، على الرغم من وجود الكثير من الدوائر الرقابية كهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية ومكاتب المفتشين العموميين ودوائر الرقابة الداخلية في الوزارات التي يفترض أن تعمل جميعها على مراقبة الأداء الحكومي في المجالات المالية والإدارية. ولمعرفة حجم الفساد في العراق، قد أنفق العراق منذ عام 2003 وحتى الآن أكثر من ترليون دولار أمريكي (ألف مليار دولار)، ولم نشهد تشييد بناية جديدة واحدة أو مدرسة أو مستشفى بالمعايير الحديثة. ومعظم المشاريع كانت عبارة عن ترميم لبعض البنايات والجسور والطرق والمطارات القديمة. قد وجد المفتش العام الأمريكي فسادًا كبيرًا في الوزارات العراقية وخاصة وزارات الدفاع والداخلية والتجارة والكهرباء. يقول خبراء أن نسبة الفساد والهدر في المال العام تتجاوز 50 بالمائة من القيمة الإجمالية لأي مشروع تتم إحالته إلى الشركات.

يشكل الفساد المالي والإداري عائقًا أمام المستثمرين، نظرًا لعدم الوضوح والشفافية في إبرام العقود وتحديد الفرص الاستثمارية، الأمر الذي يشجع عمليات التلاعب في إبرام الصفقات الاستثمارية، وعدم الالتزام بالقوانين الخاصة في ذلك المجال، كما يؤدي الفساد الإداري والمالي إلى زيادة الكلفة التي تنعكس بشكل مباشر على كل من المنتج والمستهلك على حدٍ سواء، مما يسهم في تراجع الحافز لدى المستثمرين على الإقدام بعملية الاستثمار في البلد.
ويمكن وضع أسباب أخرى لتدهور الاقتصاد والاستثمار في العراق ضمن الفساد الإداري والمالي ومن ضمنها ضعف القطاع المالي والمصرفي، التداخل بين السياسة النقدية والمالية للدولة، ضعف وقدم التشريعات المحفزة للاستثمار، تذبذب سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار وانعدام البنى التحتية المناسبة لإقامة المشاريع الكبيرة.

ولذلك ما لم نجد بيئة سياسية مستقرة ونقضي على الفساد المالي والإداري فلا أمل للعراق في أن ينتصر على الإرهاب وينتعش اقتصاديا حتى لو أنفق سنويا مئات المليارات من الدولارات.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد